مقاربة لفهم ما يحدث في إيران
14 ربيع الثاني 1439
أمير سعيد

بدأت ككرة ثلج، سرعان ما كبرت، لكنها لم تصل لحد بالغ الخطورة بالنسبة لملالي النظام الإيراني. مظاهرات إيران المنتشرة في الكثير من مدنها تعد غير مسبوقة لجهة اتساعها الجغرافي، لكنها بعدُ لا تقارن باحتجاجات العام 2009 من حيث الكثافة العددية والخطورة الاستراتيجية كون معظم الأخيرة تقع في مدن بعيدة عن العاصمة طهران (بخلاف مظاهرات العام 2009)، وهذا لا يوفر لها ضغطاً كبيراً على النظام الحاكم في طهران.

 

بحسب قراءة الناشط محمد مجيد الأحوازي؛ فإن مصدر المظاهرات كان مدينة مشهد، وذلك لأسباب رئيسة ثلاثة، أولها فقدان "160 ألف عائلة مشهدية أموالها في مشروع شانديز السكني"، والذي اعتبره مجيد " أكبر عملية نصب واحتيال والمتورط في هذه السرقة مسؤولين في النظام لم يتم محاسبتهم وخسر أهالي مشهد أموالهم وحلمهم بالحصول على السكن". وثانيها وقوع أكثر البنوك المفلسة الإيرانية في المدينة. وثالثها البطالة الناجمة عن إيقاف "الرحلات الدينية" لشيعة الخليج منذ نحو عام. ويرى مجيد أن سائر المدن المنتفضة تماثل مشهد في أسباب غضبها.

 

على أن الغضب وحده لا يفجر انتفاضة بهذا الاتساع الجغرافي ما لم يكن وراء هذه المظاهرات ما يضمن لها الاستمرار والتنظيم والانتشار، وهذا لا يأتي "عادة" اعتباطياً؛ فإذا كانت الأنباء تتحدث عن عشرات المدن قد انضمت لهذا الاحتجاج، وإذا كانت أيضاً لم تواجه بقمع دموي وحشي مألوف من النظام الإيراني؛ فإن هذه المعطيات تدعو إلى تأمل موضوعي بعيداً عن أجواء العاطفة والحماسة التي يقع البعض فيها ترحيباً بهذه المظاهرات التي تقع في دولة جعلت علاقتها دوماً بمعظم جيرانها متوترة على أدنى الافتراضات إن لم نقل – بموضوعية أيضاً - أنها عدائية بشكل سافر.

 

مظاهرات إيران، حتى كتابة هذه السطور، ليست ضخمة ولا تمثل تهديداً حقيقياً، وتعامل الأمن معها يظل لافتاً للنظر؛ فعدد ضحايا المظاهرات قليل جداً نسبياً قياساً إلى المعروف عن نظام طهران القمعي، وهذا يعني أن بعض الأجهزة الأمنية الإيرانية تدرك أن ما يحصل: إما أنه لا يشكل خطراً داهماً، بالنظر إلى غياب الوقود الشعبي والحزبي والأيديولوجي المحرك الكافي لإشعال انتفاضة ناجحة، أو أنها غير منزعجة لأنها تنسج خيوطاً للتفاهم مع محركي هذه التظاهرات، وتستطيع ضبط إيقاع تلك التظاهرات صعوداً وهبوطاً.

 

كلا الاحتمالين وارد؛ فالأول تعززه المقاطع المنتشرة التي أخذ معظمها بـ"كادر أفقي سطحي" للتمويه على العدد القليل للمتظاهرين في المدن المهمة، بخلاف تلك التي في الأحواز ومناطق الأكراد التي تكاثرت فيها أعداد المتظاهرين نسبياً، وهذا يعني أن المظاهرات في حقيقتها ليست هادرة (حتى الآن)، وهذا يجعل من متمرسين في ضبط الاحتجاجات الشعبية كالباسيج والشرطة الإيرانية تعمد إلى عدم استفزاز المتظاهرين أكثر تجنباً لسقوط عدد كبير من الضحايا بما يمكنه أن يشعل مزيداً من الغضب. ولهذا تعاملت بقدر من "الحكمة والروية" لمنع الأمور عن الخروج عن سيطرتها.

 

أما الثاني؛ فتعززه شواهد تاريخية مشابهة في دول أخرى وظفت فيها أجنحة من النظم مظاهرات كهذه لتحقيق أهداف سلطوية تتعلق بنفوذ تلك الأجنحة وحظوظها من السلطة؛ إذ إن الانتشار الجغرافي الواسع على هذا النحو لا يأتي عادة "عفوياً"، حيث يظل "تنسيق الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي" الذي يعزو إليه بعض المحللين استمرار وامتداد المظاهرات، مجرد لافتة بسيطة تصدرها الجهة المحركة لتلك التظاهرات في الداخل الإيراني.

 

لكن أيا ما كان التفسير؛ فإن ثمة نتائج مشتركة لهذا الغضب، من أبرزها اهتزاز صورة حكم الملالي، ودخول فكرة "ولاية الفقيه" في نفق مظلم يشبه سرداب "الإمام" العسكري! فالذين يقرؤون تلك المظاهرات كفعل "عفوي" بحت ناجم عن ضيق بالحالة الاقتصادية المتردية للشعب الإيراني، وخيبة ظنه من تحسن الأوضاع بعد الاتفاق النووي، حيث لم تتدفق الاستثمارات الغربية إلى إيران بعد رفع العقوبات جزئياً عنها مثلما أوهم النظام شعبه، سيقودهم تفسيرهم إلى هذا الغضب الشديد الذي ينمو في نفوس الإيرانيين حيال نظام حكمهم، والذي يمتد إلى شخص المرشد الأعلى نفسه علي خامنئي لاعتباره قد فشل مراراً في تحسين أوضاع البلاد وإيقاف نزف الفساد واستلاب الملالي لأقوات الشعب الإيراني.

 

والذين يستبعدون "عفوية" الاحتجاجات لا يمكنهم إنكار أسبابها التي ساهمت في تأجيجها واستمرارها حتى لو كانت شرارة الاحتجاجات قد انطلق من أقبية النظام نفسه أو بالأحرى بعض أجهزته المتصارعة، فالمعضلة لا تكمن في هذا ولا بذاك التفسير؛ إذ الواقع يشهد أن صورة "الإمام المعصوم"، النائب عن "المهدي المنتظر" قد اعتراها خدش عميق لا يمكن رأبه بسهولة.

 

فإذا افترضنا جدلاً أن ثمة من ينقلب على نظام الفقيه من داخل النظام نفسه؛ فإنه سيكون معنياً بهدم صورته أولاً لإحلال نظام جديد مكانه، وإذا افترضنا أن ما يجرى ليس سوى غضبة شعبية؛ فإنها "بعفويتها" نالت من رمز النظام الأول، وهزت صورته بقوة، وبرهنت على كفران قطاع من الشعب الإيراني بهذه الفكرة.

 

ثالثة أثافي ذلك تكمن في الفكرة نفسها؛ فالذي أوهم الشعب الإيراني وغيره من أتباعه بفكرة "معصومية" الولي الفقيه هو من أضره بالأساس، وضربه في مقتل؛ فبخلاف الفكر السني الذي لا يجعل من الحاكم نبياً معصوماً أو شبه نبي؛ فإن هذا الفكر يضفي على بشر بسيط هالة لا يمكن استمرارها على الدوام؛ فإذ ألبس المرشد الأعلى ثوباً أكبر بكثير مما تحتمله بشريته الضعيفة تحمل في مقابل ذلك أوزاراً تفوق قدرته على التحمل؛ إذ كيف تأتي المعصومية بانهيار اقتصادي، وكيف ترافق فساداً ونهباً وإجراماً. إن مثل هذه الأفكار محكومة بالموت من تلقاء نفسها حتى لو لم يطلق أحد عليها رصاصة الرحمة، ولربما سيستمر النظام الإيراني قليلاً، ولربما سيتمكن من وقف هذه الاحتجاجات، لكن شهادة وفاته بالتأكيد قد كتبت سلفاً. كتبت لأنها تضاد الفطرة وتضفي على البشر صفات الآلهة وتعاكس السنن.. والسنن والسنة غالبة.