قنابل غاز في برلمان كوسوفا.. لا جرم!
9 رجب 1439
أمير سعيد

ربما شهدت بعض البرلمانات اشتباكات بالأيدي بين الأعضاء المتعارضين، ربما ثار البعض وشغب على مخالفيه ورفع صوته مشوشاً، ربما انسحبت كتل برلمانية، لكن فرادة كوسوفا تبرز في تكرار إلقاء قنابل الغاز من المعارضة داخل البرلمان للتعبير عن رفض قرارات الأغلبية وتعويق تصويت على اتفاقية معيبة.  

 

 

لأول وهلة قد يرى في ذلك الاعتراض "المسيل للدموع" تعبيراً فظاً أو "وقاحة" في ممارسة الحق النيابي في إبداء الرأي، غير أن نظرة أخرى محايدة ستفي لهذه المعارضة ببعض التفهم والإنصاف، فلو أننا سمحنا لأنفسنا بتخيل مجلس العموم البريطاني وقد فُرض عليه أن يضم بين أعضائه كتلة من المسلمين تضم نحو 105 أعضاء من أصل 650 عضواً كـ"كوتة" إلزامية، وأتيح لهؤلاء أن يكونوا بلديات مستقلة في مناطقهم، ويتلقوا دعماً من دولة أجنبية مجاورة ذات نفوذ وقوة وتمتلك جيشاً هو الأكبر في المنطقة، وتخيلنا أن بريطانيا قد أجبرت على توقيع اتفاقية مع دولة مجاورة أخرى تتنازل بموجبها عن حقوقها في أراضٍ شاسعة تسولاً للحصول على اعتراف قد يأتي أو يماطل فيه، لأمكن تفهم مقدار الغضب الذي يعتري القوميين الألبان ممثلين في حزب "تقرير المصير" اليساري، ودفعهم إلى رمي قنابل مسيلة للدموع في قلب البرلمان!

 

 

الاتفاق الذي تم تمريره في البرلمان الكوسوفي مهين في حقيقته، والدستور الذي التزم به الكوسوفيين مجحف للغاية؛ فكيف لمن يمثلون نحو 5% من مجموع سكان كوسوفا المسلمة (وهم الصرب)، أن يمثلوا إلزاماً بنسبة 16% في البرلمان أي بـ20 عضواً من أصل 120 عضواً، وكيف لتلك الأقلية أن تتدخل في إدارة شؤون البلاد من خلال بلديات شبه مستقلة في دولة حظيت باعتراف أكثر من مائة دولة في العالم ولم تحظ باعتراف جيرانها الأوروبيين بعد؟!

 

 

إن مخاوف المعارضة مفهومة، وتنازل الأغلبية أيضاً مفهومة! ففي ظل نظام دولي هو أبعد ما يكون عن العدالة والإنصاف، وموازين أممية مختلة؛ فإن أكثر من مليوني مسلم كوسوفي مجبرون على أن ينحنوا للعاصفة التسلطية الدولية ويقبلوا بأي حل لا نقول شبه عادل، بل يرتجى منه فقط أن يحقن دماءهم ولا يعرضهم لمخاطر الإبادة والتهجير، وأن يخرجهم من دائرة الجمهورية الأكثر فقراً في البلقان وأوروبا بسبب الحصار المضروب عليها في مجالات التجارة والاستثمار والسفر (رغم تحكمها جغرافياً وتاريخياً في كثير من طرق البلقان)، والتي أدت إلى فشو الفساد والبطالة فيها.  

 

 

قصة الحادثة باختصار أن اتفاقاً بين كوسوفا وجمهورية الجبل الأسود (معظمها صربية وقريبة من النظام الصربي) تأجل إقراره مراراً في البرلمان الكوسوفي برغم إقراره من قبل الجبل الأسود قبل ثلاثة أعوام، قد طرح في مارس الحالي للتصويت عليه في البرلمان الكوسوفي، فألقى زعيم حزب تقرير المصير القومي اليساري النائب ألبين كورتي قنبلة غاز بهدوء قبل أن يركلها لينتشر الدخان في المبنى، ما عرقل التصويت مجدداً إلى أن أقر مؤخراً بعد القبض على نواب من الحزب.

 

 

اتفاق ترسيم الحدود بين كوسوفا والجبل الأسود (مونتنيغرو)  يقضي بالتخلي عن ثمانية آلاف هكتار من غابات الصنوبر والانهار والمراعي الجبلية لصالح الجبل الأسود، وهو ما يزيد الجمهورية المسلمة الوليدة فقراً إلى فقر، ورغم هذا فقادة كوسوفا وجدوا أنفسهم مرغمين على توقيعه لأن الاتحاد الأوروبي يشترط إقراره لـ"البحث" في الاعتراف الأوروبي بكوسوفا، وهؤلاء القادة للتذكير هم من طراز الرئيس هاشم تقي الذي قاد كوسوفا ما بين 1998-1999 عسكرياً من خلال جيش تحرير كوسوفا لرفض الاحتلال الصربي للجمهورية ثم عام 2008 مع إعلان استقلالها رسمياً، وكذلك رئيس الوزراء السابق راموش هاراديناج القيادي السابق في جيش تحرير كوسوفا، وكلاهما قد اتهما من قبل الأوروبيين بارتكاب جرائم حرب لابتزازهما (الأول أشيع أنه متورط بتجارة أعضاء بشرية صربية! والثاني ألقت فرنسا القبض عليه قبل أكثر من عام ثم أفرجت عنه بعد أن كانت محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة قد أخلت سبيله).

 

 

يحق للمعارض كورتي، زعيم الطلاب السابق المناهض لصربيا، أن يغضب من الاتفاق المجحف ولعملية التطبيع الكوسوفية المذلة مع صربيا، لأنها برأيه تعيد كوسوفا إلى حكم بلغراد، حيث يقضي الاتفاق الذي رعاه الأوروبيون بمنح حكم ذاتي محدود لصرب كوسوفو في منطقة قريبة من الحدود مع صربيا.

 

 

وقد يكون لساسة كوسوفا بعض المبررات في السعي نحو كوسوفا تقبل بها أوروبا من جهة ولا تعاديها صربيا ومن ورائها روسيا وكل مجموعة الدول الأرثوذكسية، لـ"تمكين أبناء كوسوفا من كسر قيود عقود من العزلة"، كما يقول تقي في تغريدة له، غير أن حاصل ما نراه هو نتاج ظلم واقع بالمسلمين في كوسوفا خصوصاً وفي البلقان – وفي غيرها -  عموماً يجعل موازين العدالة طائشة ويفتح الطريق أمام الانقسامات الشعبية التي تقتات على تلك المظالم القاهرة.