ليست حربًا باردة !
14 شوال 1429
طلعت رميح
تجددت الكتابات والتصريحات والتحذيرات،عن عودة او تجدد الحرب الباردة بين روسيا وامريكا، بعد تطور الحرب الروسية الجورجية إلى أزمة دولية تتدخل فيها بشكل مباشر، الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الأطلنطي الى جانب جورجيا فى مواجهة روسيا،واثر تبادل تلك الاطراف والاجراءات والتهديدات ضد بعضها البعض.
لقد أصبحت قصة "الحرب الباردة" - ما إذا كانت عادت أو في طريقها للتجدد - هي الشغل الشاغل للمحللين والكتاب والمسئولين،بعد وصول سفن اطلسية الى البحر الاسود ( لفناء الروسى) و اعلان الولايات المتحدة وقف العمل باتفاق نووى مشترك مع روسيا, وكذا بعد ما اعلن فى فنزويلا عن مناورات بحرية مع روسيا،فيما وصف برد مباشر على الوجود الاطلسى فى البحر الاسود،ونقل للمعركة الى الفناء الامريكى. كما زاد من تفسير الاحداث الجارية على انها عوده للحرب الباردة،ان اتخذت روسيا بعض الاجراءات من اجل بناء تكتل وتحالف مع بعض دول الاتحاد السوفيتى السابق (خمسة دول) وكذا لجوئها الى دول ميثاق شنغهاى،لحشد الدعم الدولى لمواقفها فى مواجهة امريكا واوروبا .. الخ .
لكن ما يجرى ليس عودة إلى "الحرب الباردة " بل الواجب يقتضى من الجميع في منطقتنا،عدم الانجرار نحو ترديد هذا المصطلح والمفهوم، الذى تقف الدوائر الأمريكية خلف الترويج له حاليًا !.
 ما هي الحرب الباردة؟.
 حتى نفهم اذا كان ما يجرى الان هو عودة الى الحرب الباردة , علينا اولا ان نحدد الجوهر فى ظاهرة الحرب الباردة .
قامت الحرب الباردة، على معطيات ما سمي "بالاختلاف الأيديولوجي" بين الشرق والغرب، وبين الاشتراكية والرأسمالية؛ إذ كانت روسيا – في صورة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو – تتبنى ما قيل أنه منظومة ورؤية وأيديولوجية الاشتراكية، بينما كان الغرب ممثلاً في حلف الأطلنطي وأوروبا،بقيادة الولايات المتحدة،، هو من كان يطرح الايديولوجية الليبرالية والاقتصاد الحر.. إلخ.,
لكن الاكتفاء بهذا الحد في وصف الحرب الباردة، هو خطأ شائع بل لكنه خطير و مقصود، أو هو جزء من خداع قصة ثناية القطبية والمعسكرين المتناقضين، حيث أن هذه الحرب الباردة، كان أهم مقوم لحدوثها هو وجودنا نحن. وجودنا نحن،الذين كانت تجري تلك الحرب والتنافس عليهم. الحرب الباردة، كانت باردة بين قطبيها، لكنها كانت ساخنة وساخنة جدًا علينا، فإذ لم تجر معارك حربية مباشرة بين المعسكرين أو القطبين، بل جرى حل كل النزاعات المباشرة بينهما من الازمة الكورية الى التدخل السوفيتى فى المجر الى الازمة الكوبية عبر الطرق الديبلوماسية والاتفاقات المعاهدات، كانت النيران والمعارك والحروب بالمقابل تشتعل في الدول العربية والإسلامية وفي كل دول ما سُمي بالعالم الثالث . كانت المعركة الجارية ساخنة حول اقتسام النفوذ في الدول الأخرى.فى تلك المرحلة كان العنوان الابرز لمعاركها هو حرب فيتنام،والانقلابات العسكرية التى جرت وفقا لدور ونشاط المخابرات الامريكية وعمليات الاغتيال للقادة والرؤساء فى الدول المتحررة،وعمليات القمع السوفيتية فى دول اوروبا الشرقية .وفى عالمنا العربى كان العنوان الابرز للصراع -والتوافق فى ذات الوقت عند حدوده -هو الصراع العربى الاسلامى-الصهيونى الغربى .وفى ذلك كان
الشرط اللازم لمفهوم وحالة الحرب الباردة , ووجود قطبين ومعسكريين وحيديين , هو ان كان يجرى اقتسام النفوذ والمصالح دون شريك ثالث . وذلك هو الوضع الاخطر على مصالح الامم والشعوب خارج المعسكرين المتنافسين -وحدود قدرتها على المناورة -باعتبارها واقعة امام خيار واحد هو التبعية، لهذا القطب او المعسكر او ذاك .
العالم تغير
وواقع الحال، أن العالم قد تبدل كليًا الان , ولم يعد فى اوضاعه ما يسمح بوصف ما يجرى حاليا , بانه حرب باردة او عودة او تجدد لها .
فمن ناحية، لم تعد روسيا دولة اشتراكية،بل هى اصبحت دولة راسماليه، تعتمد المنهج والأسلوب الرأسمالي، في نهضتها وتطورها، ومن ثم هي لم تعد تختلف مع الغرب إلا حول المصالح والنفوذ، مثلها مثل أي دولة أخرى في العالم , وهو ما يعنى " انتفاء " الشرط الجوهرى فى طبيعة الاختلاف او التناقض , الا وهو الخلاف الايديولوجى . اصبح الخلاف بين روسيا وامريكا مثله مثل الخلاف بين امريكا و فرنسا من ناحية الابعاد الفكرية للصراع (لا من حيث درجة الشدة طبعا).
ومن ناحية ثانية، لم تعد قائدة لحلف تابع لها ياتمر بأوامرها، كما كان الحال في حلف وارسو. لقد انتهت " منظومة القوة " للدول الاشتراكية , ولم يعد هناك سوى " حلف عسكرى واحد فى العالم " .
والاهم،هو ان دول العالم الثالث التى كانت موضوع الصراع، لم يعد حالها كما كان سابقًا. والفارق ليس أن اسمها قد تغيرمن دول العالم الثالث إلى دول الجنوب، ولكن أن دولاً كانت من بين دول العالم الثالث، قد أصبحت بالفعل أقطابًا دولية، تنافس دول العالم الأول، وتتفوق على بعضها , وهو ما يعنى ان لا امكانية ان تجرى صراعات بين قطبين من الاقطاب،بينما تنظر الاخرى لما يجرى وكانه يجرى فى كوكب اخر،اذ كل الصراعات الدولية جرت وتجرى فى مثل تلك الاوضاع بشكل متداخل فى المصالح .
وفى ذلك يبدو ان عاملا جديدا حاسما قد دخل على العلاقات الدولية , يمنع امكانية ان يجرى صراع بين طرفين فقط دون مشاركة الاطراف الاخرى بحكم ضرورات تاثرها , بل هو ربما يمنع الوصول الى درجة "الحرب الباردة " وفق الحالة السابقة . هذا العامل هو العولمة الاقتصادية التى وحدت السوق العالمي.فى السابق كان هناك معسكران وحربًا باردة، بين سوقين اقتصاديين فى العالم، السوق الراسمالى ونظيره ونقيضه الاشتراكى ممثلا فى منظمة الكوميكون.لكن العالم تبدل الان على الصعيد الاقتصادى،اذ اصبح السوق العالمى موحدا تسوده تشابكات المصالح حتى بات متعثرا تعيين بداية ونهاية الاقتصاد المحلى عن الدولى.دورة الاقتصاد اصبحت تجرى على اساس دولى لمختلف الدول صاحبة الاقتصاديات الكبرى،هناك مصالح اقتصادية للصين فى داخل الدورة الوطية والدولية للاقتصاد الامريكى والعكس .كما مصالح الصين ترتبط بالاقتصادين اليابانى والكورى المتداخلين مع الاقتصاد الامريكى ايضا وهناك تشابك مصالح بين روسيا واوروبا وروسيا والصين ..الخ .لقد اصبحت الشركات متعدية الجنسية هى عنوان وحدة وقرار الاسواق وكذا البنوك والبوضات الدولية, ولم يعد من الممكن العودة الى ذات نمط الصراع الاقتصادى الذى جرى خلال مرحلة الحرب الباردة .
امريكا خلف التوصيف
حين يعود استخدام مصطلح (الحرب الباردة) الآن، فذلك امر يقصد منه خدمة المصالح والاستراتيجية الأمريكية ليس إلا. فالاهداف الأمريكية من إطلاق المصطلح متعددة، فهو يستهدف تخويف الشعب الروسي من الدخول في مجابهة خاسرة كتلك التي جرت من قبل. كما هو محاولة لإعادة تعبئة الرأي العام الغربي وتوحيده وتذكيره بنصر الغرب بقيادة الولايات المتحدة فى المعركة مع الاتحاد السوفيتى السابق،او هو محاولة لتثبيت الزعامة الامريكية للغرب بعد ما تدهورت السمعة والمكانة الامريكية وسط الدول الغربية ذاتها، وهو محاولة لتخويف اوروبا وابعادها عن روسيا واعادتها للحظيرة الامريكية،كما كان الحال عليه سابقا . لكن الأهم هو أن هذا الادعاء الأمريكي، يستهدف حصر المعركة الجارية في العالم – من حالة تعدد الأقطاب – الى مجرد  معركة بين روسيا وحدها والغرب كله .
اى اننا امام مفهوم يمثل نطا من الخداع والتمويه حول المعركة الاصليه , ليحرف ويحول الانظار نحو معركة جزئية . الجارى فى العالم حاليا , والاصل فى معركة جورجيا , وفى كل هذا الاهتمام الدولى تبعاتها وتطوراتها , ناتج عن اننا امام بداية لمعركة تعدد الاقطاب باستخدام القوة المسلحة , فى منطقة محددة ومن قبل قوة دولية قررت ان تستعيد دورها وقوتها ونفوذها بالقوة. ونحن امام تحول اول نحو استخدام القوة العسكرية بديلا لنمط المباراة السلمية الذى كان سائدا من قبل الاقطاب الدولية الصاعدة , او هو بالدقة مبادلة لاستخدام القوة بين تلك الاقطاب , مع الولايات المتحدة التى دشنت مرحلة القطب الواحد بالقوة المسلحة فى العراق (1991) ثم افغانستان والعراق ما بعد احداث 11 سبتمبر 2001 .
ان ما يشهده العالم , انطلاقا من احداث جورجيا , ليس منفصلا عن ما جرى فى يوغسلافيا السابقة , والعراق وافغانستان , كما هو ليس معزولا عن المعركة الجارية حول التسلح النووى لكوريا , ولذا فان حصره فى قصة الحرب الباردة بين روسيا وامريكا , هو تضليل وخداع على مستوى دولى .
لكن الاهم , انه خداع موجه لنا نحن تحديدا , و بالدرجة الاولى !
نحن المستهدفون
ليس على سبيل الشعور باننا دوما مستهدفون , ولا هو انصياع للفكرة الساذجه التى تروج حول نظرية المؤامرة – وهدفها اخفاء المؤامرت الحقيقية الجارية – ولكن لان واقع الحال , هو ان امتنا هى التى ساهمت فى عمليه تعدد الاقطاب فى اخطر جوانبها وهى من قدم الدم خلال المرحلة الماضية. ولان تحويل ما يجرى الى مجرد صراع بين روسيا وامريكا او الى حالة حرب باردة متجددة ليس الا اهدار لدورنا ومحاولة لاعادتنا الى داخل حظيرة التبعية لهذا الطرف او ذاك باعتبارنا طرفا ضعيفا لا يقوى على مواجهة هذا او ذاك ومضطر تحت ضغط احدهما ان يرتبط بحالة تبعية للاخر .
واقع الحال ان جهاد امتنا هو من فتح الطريق لتعدد الأقطاب في العالم. مقاومتنا في العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين، هي من أضعف الولايات المتحدة، وأهدر معالم قوتها، وأضاع بريقها الحضاري، هى التى كسرت شوكة الجيش الأمريكي،بما جعل الولايات المتحدة تبدو على ما بدت عليه خلال الازمة الجورجية،امام روسيا .
ومقاومتنا، هي ما أتاح فرصة الزمن والوقت أمام الأقطاب الدولية الأخرى، لكي تنمو وتقوى , في زمن انشغال الولايات المتحدة حتى أخمص قدميها في مشروعها في الشرق الأوسط، وإذ أعطبنا هذا المشروع وكسرناه، وأضعفنا القدرة الأمريكية على الهيمنة، فنحن الذين اعطينا للآخرين فرصة أن يقووا دون ضغط الولايات المتحدة عليهم , وان يحصدو نتيجة ضعفها بايدينا.
اما الاهم،فهو أن ما يجري إذا فهم وفق فكرة تعدد الأقطاب في العالم فانه يحدد فرصة امام أمتنا لاعادة بناء نفسها، وفى عقد تحالفات متعددة بما يخدم مصالحها، اذ أن فكرة تعدد الأقطاب في العالم، تختلف عن الحرب الباردة  في رؤية موقعنا ودورنا في العالم الذي يتشكل الآن،بما لا يطرح علينا ان نعود الى فكرة التبعية لهذا او ذاك , بل هو يطرح علينا السؤال المصيرى : اين نحن وسط هذا الاضطراب.. وكيف نقوى لنصبح قطبا دوليا استفادة من صراع البعض ضد البعض ومن الحاح بعض الاطراف الدولية على بروز قوى مناهضة للقوة الدولية المسيطرة حاليا (امريكا).
وبالدقة أن فكرة تعدد الأقطاب،تفتح أمامنا خيارات نتمتع فيها بقدر من الحرية النسبية، من أجل تطوير موقعنا في العالم , مهما كانت معالم ضعفنا الراهنة .. او البادية .
أن ترديد فكرة الحرب الباردة والقطبية الثناية، يمكن أن تدخلنا فى مرحلة انتاج التبعية مجددا ؛ إذ هي تستدعي نمطًا من التحالفات -مع هذا القطب وذاك- تقسمنا وتغرقنا، وتطبع على بعض دولنا حالات من التبعية لهذا الطرف أو ذاك دون ادراك لملامح الفرصة التاريخية الحالية التى تمكننا من ولوج طريق البناء الحضارى المستقل , ورؤية النفس والقدرة , وتطوير موقعنا حيث لا نظام دولى كامل التشكل حاليا .
والمطلوب منا أن نفكر في مشروعنا الحضاري المستقل، لنكون نحن أيضًا، قطبًا دوليًا، لا مجرد دول يجري الصراع عليها، وتحريكها كقطع الشطرنج فى صراع متوهم بين قطبين فقط .
الحوار المطلوب
واذا كان واقع الحال اننا امة تملك كل مقومات النهضة دون تفعيل او تطوير او تخطيط لتحويلها الى واقع , فان المطلوب الان هو المبادرة الى اوسع واعمق حوار حول "مكاننا فى العالم الجديد الجارى تشكيله الان " , وحول كيفية الانتقال من حالة الامكانية الى مرحلة الفعل ولو من باب ان التحديات هى ما يحفز الفكر ويطور الحركة .
لقد اختبرت الامة نفسها فى صراع فرض عليها , فى مواجهة القطب الاوحد فى النظام الدولى – الولايات المتحدة -فتمكنت من الحاق الهزيمه به على المستوى الدولى فهل يمكن ان تتحول شعلة المقاومة الى مشروع للبناء والتطوير ؟