جوهر الازمة الغربية الراهنة
20 شوال 1429
طلعت رميح
يبدو المتابع لما يجرى فى اوضاع الاقتصاد الغربى عامة والامريكى خاصة، مغمورا فى الشعور بالفرح وربما بالشماته، بحكم حجم الايذاء الذى لحق بامتنا من قبل الغرب خلال المرحلة الاخيرة، حيث الاقتصاد كان هو عصب القدرة للالة العسكرية الغربية التى الحقت ببلادنا الخراب والدمار والقتل والتشريد الى درجة الهمجية .
لكن الازمة الغربية الراهنة تتطلب منا ما هو ابعد من الفرح او الشماته، حيث ما نشهده الان هو نمط بالغ الاهمية من التحولات فى المفاهيم والرؤى الفكرية، وكذا نحن امام تغيير جامح فى معالم القوة والقدرة على صعيد قوة وقدرة الحضارات والاقطاب الدولية، بما يجعلنا امام اختبار عميق لمدى القدرة على فهم الازمات وابعادها الحقيقية، والقدرة على التخطيط السياسى والاقتصادى على الصعد الاستراتيجية بل والحضارية،اذ نحن الان امام تحولات تاريخية عميقة الابعاد متعددة الدلالات والمجالات، ان لم نمسك بها نضيع واحدة من الفرص التاريخية للتاثير فى اتجاهات التغيير الدولية الجارية، او بالدقة نضيع فرصة الوجود والتاثير الفاعل فى الوضع الدولى بما يفتح فجوة واسعة لانطلاق مشروع النهضة.
وواقع الحال ان الحركة الاسلامية بات مطلوبا منها- اكثر من اى وقت مضى -ان تتسلح بالوعى والادراك لمعالم زمانها ومتغيراته، حيث ما يجرى كله –ونشدد كله –بات يقدم لها كل ما طلبت من الاوضاع الدولية والاقليمية والمحلية لكى تبرز جوهر فكرتها الواعية وان تفعل دورها، باعتبار ان صلب خلاصة الازمة الراهنة، لا يؤكد فقط على صحة برامجها ومفاهيمها، ولكنه  يجعل من رؤاها واطروحاتها ضرورة عملية امام المواطنين بما فى ذلك غير المؤمنين برؤاها العقدية والفكرية والاقتصادية، حيث الاحداث الجارية برهنت على صحة جوهر رؤاها التى تطرح بشان الفهم العام للنهضة والمبادىء العامة الاقتصاد وقواعد سيره، كما جعلت من السير فى الاقتصاد على هدى الضوابط الاقتصادية الاسلامية مسالة ضرورة علمية وعملية، وكذا لان الاسطورة التى برر بها الكثيرين –على غير حق-توجههم لايداع اموالهم فى بنوك امريكية وغربية وفق مقولة الاستثمار الامن قد انتهت وتحولت الى الضد الان، بما يوفر مناخا لعودة الاستثمارات والثروات الى جسد اقتصادات الامة.
وفى جوهر الازمة التى تعصف بالغرب الان، لم يعد عنوان الازمة الصحيح، انها ازمة مالية، بل هى حالة من حالات الانهيار الواسعة التى ان احسن خصوم الولايات المتحدة التاثير عليها من الخارج لتحولت الى حالة انهيار شامل بما يحدث ثورة تغييرية فى اوضاع امتنا والعالم، اذ نحن امام قفزة هائلة نحو تغيير فى اتجاه حركة النهضة الذى تحدد منذ الثورة الصناعية الاوروبية وظاهرة الاستعمار القديم وظل يسير على اسسها حتى وقوع تلك الازمة .لقد وصفت الازمة الراهنة بانها كارثة اقتصادية المت بالاقتصاد الغربى ..وقيل انها ازمة مالية او اقتصادية تتشابه فى وقائعها او فى مظاهرها بما جرى للاقتصاد الغربى فى ثلاثينات القرن الماضى حين دخلت الاقتصادات الغربية فى حالة الكساد الكبير (وهو ما كان احد الاسباب البارزة للاندفاع نحو الحرب العالمية الثانية).وفى المتابعة اليومية والتفصيلية جرى التركيز فى النظر على حركة  البورصات والبنوك وما تفقده اسهم البوصات من قيم للاسهم ولما يجرى للعملات من فقدان الدماء، كما جرت متابعات يومية عاجلة لاخبار افلاس البنوك والشركات واوضاع البطالة الناتجة عن افلاس الشركات .كما صارت المشاهد والاحداث المتعلقة بالمنازل التى يخليها "ملاكها "بسبب عدم قدرتهم على سداد القروض التى حصلوا عليها من البنوك وشركات التمويل العقارى، لشرائها، عنوانا واضحا ومثيرا للازمة .
وفى نتائج الازمة، جرى التركيز على التحول الحادث فى الراسمالية جراء تدخل الدولة فى الدورة المالية من خلال عمليات التاميم –او شراء الاصول المتعثرة-التى جرت لكثير من البنوك والشركات المالية والاصول، وبحكم ما قامت به "الدول "-او البنوك المركزية والفيدرالية-من ضخ للاموال لاعادة البنوك الى حالة القدرة على عمليات الاقراض ولمنعها من الافلاس ومن اجل ضمان اموال المودعين فى البنوك ..الخ، وهو ما حدى بالبعض للحديث عن نهاية الراسمالية واخرين للقول باخذ الراسمالية ببعض بنود من المفاهيم الاشتراكية، وان كان الاصل هو اننا امام شهادة وفاة للنظام الربوى فى البنوك، بما يستدعى تحرك الاقتصاديين الاسلاميين لوضع الامور فى نصابها .
لكن الاخطر فى الازمة الجارية لم يظهر بعد، وكذا الجوهرى فيها لم يطرق فيما سبق .ما نحن امامه نسمع ونشاهد وقائعه التفصيلية ليس مجرد ازمة مالية ناتجة عن اخطاء فى ادارة البنوك لاصولها (واموال المودعين ( من زاوية العلاقة مع الطرف الاخر فى النظام الربوى البنكى، وهو ما يعنى انا امام ازمة مالية يمكن للدولة التدخل لحلها فى هذا البلد او ذاك بقدر من التدخل بضخ الاموال فى البنوك واستعادة الثقة فى الاسواق المالية والبنوك او حتى من خلال عمليات التاميم الجزئى او الكلى لبعض المؤسسات المالية، بما يحقق علاجا او تجاوزا للازمة، كما نحن لسنا امام ازمة اقتصادية تتعلق ببنية الاقتصادات الغربية –فقط-بل نحن امام حالات نرنبط ايضا بما وصلت اليه قيم المجتمعات فى الدول الغربية .
الازمة المالية
فى توصيف ما يجرى بالازمة المالية، فنحن امام محاولة لاختزال ما يجرى تشخيصا وحلا، والاهم اننا امام وصف غير دقيق لجوهر الازمة .لقد عاشت دول جنوب شرق اسيا والمكسيك وتركيا وبلدان اخرى، ما سمى بالازمة المالية التى كانت ملامحها بارزة فى حالة الانهيار المفاجئ لقيمة العملات واسعار الاسهم فى البورصات ولثقة المودعين فى المؤسسات المالية ..الخ، وكان الحل هو فى قيام "مؤسسات دولية" –صندوق النقد والبنك الدوليين-باقراض وضخ المال فى المؤسسات المالية لتلك الدول، بما اعاد للعملات قدر من العافية وللاقتصاد قدر من الثقة .لكنا هنا فيما يجرى امامنا فى الغرب، لا نشهد ازمة مالية من هذا النوع المالى فى جوهرها .المظهر فيما يجرى او السبب المباشر، تمثل بالفعل فى انهيار بعض المؤسسات المالية، نتيجة نقص السيولة لديها، نظرا لقيامها بعمليات اقراض تتخطى حدود الامان المطلوبة للحفاظ على دورة اموال البنوك واموال المودعين، بسبب ما سمى بازمة الرهن العقارى، حيث لم يتمكن المقترضين من سداد ديونهم للبنوك، التى كانت توسعت
الى ما هو اعلى من طاقتها على الاقراض، بما جعل هذه البنوك غير قادرة على مواصلة نشاطها وبما دفع الى انهيار اسعار العقارات من جانب اخر، بفعل توسع عمليات البيع -فى هذه الظروف –لتلك العقارات التى لم يستطع اصحابها سداد ما عليهم من ديون .وهنا تدخلت الدولة، بضمان اموال المودعين فى البنوك لعدد متفاوت من السنين بين دولة واخرى، وبضخ اموال فى البنوك –وهو ما جعلها تتملك اصولا-وذلك لاعادة دورة "الحياة" فى تلك البنوك باعتبارها احد الادوات الاهم فى تدوير حركة الاقتصاد فى مختلف المجالات .
لكن الجوهر، اننا امام ازمة اقتصادية وليست ازمة مالية او فى القطاع المالى ودورته، اذ الاسئلة الاساس فى تلك الازمة هى :لماذا لم يتمكن المقترضين من الوفاء بالتزامتهم تجاه البنوك .هل يعود الامر الى توسع البنوك فى الاقراض غير الامن –بدون ضمانات-بمعنى انها اقرضت "كثرة" من الامريكيين الذين لا تتوفر لهم دخول تمكنهم من سداد ما اقرضوه، وانها اقرضت اعداد هائلة بمبالغ اجمالية تفوق قدرة البنوك ماليا، ام ان الامر يعود الى سبب جوهرى على علاقة باوضاع الاقتصاد عامة، اذ لم يتمكن المقترضين من الوفاء بما عليهم من التزامات بسبب توسع وتنامى معدلات البطالة وافلاس الشركات ونقصان الدخول الفعلية لدى فئات واسعة من المجتمع الامريكى، بفعل دخول الاقتصاد الامريكى حالة ادت بصفة عامة الى تراجع معدلات التنمية بشكل متواصل لعدة سنوات والى تدنى الدخول وزيادة نسب البطالة ؟
وكذا لم اثر امر"البنوك" كل هذا التاثير على اوضاع الاقتصاد الكلية ؟ اذ المحللين الاقتصاديين الامريكيين والغربيين، لم يعودوا يتحدثون عن ازمة مالية فقط، بل عن "كارثة" اقتصادية، وعن ان ما جرى فى الاقتصادات الغربية عامة والامريكى خاصة، قد احدث تغييرات "جيواستراتيجية" فى الوضع الدولى، وان الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها الاستمرار فى قيادة الاقتصاد الدولى، وان قدرتها على الهيمنة قد تراجعت ..الخ .
وبمعنى اخر،فاننا امام ازمة ناتجة عن خلل فى هيكلية الاقتصاد الامريكى، حيث باتت القطاعات المالية والمعلوماتية (والخدمية بشكل عام) تلعب دورا اكبر فى هذا الاقتصاد على حساب القطاعات الانتاجية، بما جعل الخلل فى القطاع المالى ذو تاثير اكبر على كل قطاعات الاقتصاد الاخرى .
ولايات متحدة اخرى
لقد طرح ما جرى فى الازمة الاقتصادية –لا المالية فقط – على مختلف الكتاب والباحثين والخبراء الاقتصاديين فى العالم ، زوايا البحث العاجل فى الازمة وسبل الخروج وعنها ومدى العطب الذى اصاب الاقتصاد الامريكى، لكن ثمة اتجاها عاما يرى اننا امام ولايات متحدة جديدة عن تلك التى عرفناها من قبل .فقيل مرحبا بالولايات المتحدة كدولة فى منتدى العالم الثالث،استنادا الى أن تقرير اصدرتهالرابطة الأميركية للمهندسين المدنيين عن اوضاع البنية التحتية للولايات المتحدة المهددة، واشارت فيه الى انها باتت مهددة بالانهيار،حيث ثلاثين في المئة من الجسور (590 من بين 750 جسرا) بها قصور شديد وفقدت صلاحيتها، وتحتاج إلى نحو 9.4 بليون دولار كل سنة لمدة عشرين عاماً لإصلاحها، وأن عدد السدود غير الآمنة في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 33 في المئة حتى وصل إلى 3500 سد..الخ، وفى ذلك اشارة  الى تدهور اوضاع البنية التحتية للولايات المتحدة يضعها فى مصاف دول العالم النامى، خاصة بعد الانهيار المالى والاقتصادى الحالى الذى يقلص قدرة الدولة الامريكية على الانفاق فى مجالات البنية التحتية .
وقيل ان الولايات المتحدة ستظل دولة من دول العالم الكبرى، لكنها لن تصبح من بعد دولة مهيمنة على العالم، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا، وان العالم قد قطع شوطا كبيرا باتجاه تغييرات جيواستراتيجية، وإن حطام النظام المالي الامريكى يعرض مرآة للميزان الجيوسياسي المتغير، اذ أصبح ميزان القوة الاقتصادية العالمية متحولا نحو الشرق، حتى ان الجميع في الغرب يتحدثون برعب عن سرعة النمو في الصين وعن بروز الهند كلاعب جيوسياسي، وعن الأدوار المتزايدة للبرازيل وجنوب أفريقيا في العلاقات الدولية، قبل الانهيار المالى والاقتصادى الحادث الان، بما يدفع للقول بان الازمة الاقتصادية الراهنة قد سرعت من هذه التحولات الاستراتيجية وثبتتها الى درجة الاعتراف الامريكى بها .
وقيل ان الازمة لم تظهر نتائج تاثيراتها الكلية بعد، اذ القادم اسوا، ومن ثم فان الولايات المتحدة الجديدة، ستكون فى حالة تراجعية تدوم فترة طويلة، ستضطر خلالها الى التراجع بيديها عن محاولتها الهيمنة على العالم وربما الى الدخول فى تسويات مؤلمة - للمشكلات التى ادخلت نفسها فيها -وان الاغلب انها ستقدم تراجعات امام اطراف دولية اخرى، دون ان تقدم تنازلات للشعوب التى احتلتها، حتى لا تبدو مهزومة فى العراق وافغانستان وغيرها، وان كل من روسيا والصين وفرنسا والمانيا والهند وغيرها ستحصل على مكاسب فى مناطق الصراع على حساب الولايات المتحدة ودورها ونفوذها ومصالحها .
وابرز البعض تخوفا من ان تلجا الولايات المتحدة الى شن حروب وممارسات عدوانية، فى محاولة منها للتاثير على الوضع الدولى واضعاف الدول الاخرى، باعتبار ان اقوى ما تمتلكه هو القوة العسكرية ذات التكنولوجيا الاشد تطورا فى العالم .وراى البعض الاخر ان تفوق اوباما واحتمالات وصوله للرئاسة، يقدم مؤشرا عكسيا باعتبار ان تعمق الازمة الامريكية سيجعل اوباما اقوى فى نهجه السلمى وان اطرحاته للتغيير ستحمل حزمة واسعة من السياسات الداخلية والخارجية .
كما اشير الى ان الولايات المتحدة فقدت سمعتها كبلد للاستثمار الامن، ومن ثم فان الاموال التى كانت تتدفق عليها من مختلف بلدان العالم، بدات البحث فعليا عن مناطق امنة اخرى، وهو ما يفقد الولايات المتحدة قدرتها على تمويل استثماراتها، وهو ايضا ما يفقدها اهم نقاط قوتها الاقتصادية كدولة جاذبة للاموال من مختلف انحاء العالم .
وفى كل ذلك يتاكد، اننا امام ولايات متحدة جديدة، يتجرا عليها حلفائها كما خصومها، واننا امام عالم جديد، فى التفكير والاستثمار وادارة الصراعات الدولية، قصر الوقت الذى تتحول فيه موازين القوى فعليا الى صيغة قانونية معترف بها من قبل الدولة التى تجبرت فى ادارة العالم، باعادة تشكيل اسس صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، ومجلس الامن فى الامم المتحدة .
عولمة جديدة
وفى جوهر توصيف نتائح ما جرى للولايات المتحدة والغرب والاثار المترتبة عليه، فان الاهم فيما يعنى المحلل فى العالم الاسلامى هو التشديد على فكرة ان العالم دخل مرحلة جديدة من العولمة، بديلا لمرحلة العولمة القديمة (يمكن القول عولمة الامركة )، التى باتت تخلى مكانها الان، للعولمة الجديدة بطرق واساليب ومعدلات متنوعة، بما يفتح فجوة فى الوضع الدولى الكئيب الذى ترك للولايات المتحدة مساحة واسعة من السيطرة على القرار الدولى، دفعت امتنا ثمنها.
قامت العولمة التى جرى الترويج لها منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، على فكرة "وحدة العالم تحت الهيمنة الامريكية" او هى كانت وفق صيغة "امركة للعالم اجمع " اذ جرى تصوير مرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها مرحلة "نهاية التاريخ" الانسانى عند سطوة الولايات المتحدة والغرب عموما ومنظومته القيمية الليبرالية فى الفكر والسياسة والاقتصاد.
وفى ظل العولمة القديمة، جرى تطوير الوضع الاقتصادى الدولى، لتصبح الولايات المتحدة والغرب، اكثر احكاما لقبضتهما عليه، فجرى تشكيل منظمة التجارة العالمية، لتصبح اداة دولية تنتهى عند الانضمام لها حالات الاستقلال الاقتصادى لدول العالم الثالث بشكل خاص، باعتبار المنظمة قام دورها على تحقيق فتح الحدود الدول والغاء الجمارك التى كانت تحمى من خلال فرضها صناعاتها الوطنية غير القادرة على منافسة السلع الغربية الاشد تطورا وقدرة على المنافسة، كما جرى تسريع اداء الصندوق والبنك الدوليين، لتغيير هياكل الاقتصادات الوطنية –التى نشات ما بعد الحرب العالمية الثانية وتطورت خلال مرحلة الحرب الباردة -الى اقتصادات تابعة للاقتصادات الغربية، اذ كرس صندوق النقد والبنك الدوليين جهودها لانهاء المؤسسات الصناعية والزراعية لتلك الدول، وكسر وتحويل اقتصاديات الاحتشاد –التى جرى من خلالها تعبئة الفوائض المالية من اجل تطوير القطاعات السلعية من الزراعة والصناعة –الى اقتصاديات يخترقها راس المال الاجنبى (الغربى) ويديرها وفق مقتضيات ومصالح النمو والربح الراسمالى فى الدول المتقدمة .وفى ظل تلك المرحلة، جر توحيد "السوق " فى العالم ليصبح سوقا واحدا بعد ان كان هناك سوقين او منظومتين اقتصاديتين منفصلتين ومتصارعتين هم السوق الاشتراكى والسوق الراسمالى.كما جرى تطوير النشاط الاعلامى والثقافى باتجاه تعميق ظواهر الغزو الثقافى الغربى، او تسييد الثقافة والقيم الامريكية فى جميع مجالات الحياة والسلوك باعتبارها "قيما عالمية تنهى التمسك بالثقافات المحلية والوطنية، وفى ذلك جرى رسم اطار فكرى وسياسى ينهى استقلال الدول والمجتمعات، اذ كان الابرز والاشد وطاة هو ان تلك المرحلة من العولمة -وفق نظرية الامركة -قد شهدت انهاءا لمعالم السيادة القومية للدول واستخدام القوة العسكرية الامريكية فى فرض شروط تلك العولمة التى ادخلت الدول فيها بالقوة او تحت ضغط التلويح بها .وقد كانت امتنا هى موضع كل افعال ونشاطات العولمة الامريكية سياسيا واقتصاديا وثقافيا ..وعسكريا .
لكننا الان امام مرحلة جديدة من العولمة، او نحن امام عولمة جديدة، تقوم على تعدد الثقافات والهويات والاقطاب الدولية فى السياسة والاقتصاد والثقافة، او يمكن القول باننا امام مرحلة العولمة الحقيقية، التى تعود الى الوضع الطبيعى للعالم وفق تاريخه الانسانى، الذى هو متعدد الهويات والثقافات، الى جانب تعدد مصادر قوته اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، حيث تعدد الاقطاب ليس مسالة سياسية واقتصادية وعسكرية فقط، بل هو يحمل معنى شاملا، ويقوم من الاصل على الاعتراف بتعدد الهويات والثقافات والحضارات، وبوضعها جميعا على خارطة التاثير فى العالم .ما نشهده الان، هو نهاية سطوة العولمة حسب الفهم والدور والرؤية الامريكية المنفردة، وبداية للعولمة القائمة على تعدد مراكز التاثير والنفوذ فى العالم، ليعود المجتمع الانسانى الى وضعه الاكثر صحة واتساقا .وفى القلب من كل ذلك لقد بدانا العودة الى فكرة السيادة القومية للدول وفق نمط تفاعلى من العلاقات الدولية لا وفق نمط قسرى تجبر فيه الدول على الانصياع للشروط الامريكية تحت تهديد السلاح .
ويمكن التأريخ للعولمة الجديدة، بعوامل واحداث متعددة فى مجالات متنوعة، باعتبارها ظاهرة عالمية متسعة الارجاء والابعاد والمجالات.واذا كان انهيار الاتحاد السوفيتى السابق هو نقطة انطلاق العولمة الامريكية، فان المقاومة العراقية والفلسطينية والصومالية وغيرها، هى من اعاد التوازن المختل فى العالم، بانهاك القوة والقدرة الامريكية، وبمنحها الوقت اللازم لاستعادة بعض القوى الدولية عافيتها والبعض الاخر استثمر وقت المعركة الامريكية معها لتطوير اوضاعه وتعزيز تقدمه، حتى جاء غزو القوات الروسية لجورجيا نقطة الاعلان الاصرح عن انطلاق العولمة الجديدة –لا من حيث فكرة استخدام القوة والغزو-ولكن من زاوية ان تحريك القوات الروسية جاء اعلانا بان قطبا دوليا اخر دشن وجوده واصبح قادرا على التاثير فى مجريات صياغة السياسة الاستراتيجية على المستوى الكونى .وهنا يمكن القول، بان الانهيار المالى الحادث فى الولايات المتحدة حاليا، وما سبقه من تناقص نسبة مساهمة الولايت المتحدة فى الانتاج السلعى العالمى، وتلك الهزيمة التى تلقتها محاولة اعادة تشكيل الشرق الاوسط ليكون زاوية لانقاذ الاقتصاد الامريكى من التدهور والتراجع ..الخ، كلها اعلانات صريحه على اخلاء الولايات المتحدة قدرتها على السيطرة على العالم، وعلى طبع العولمة او العالمية بصبغة فكرية وسياسية واقتصادية وسياسية امريكية .
الانهيار الكبير

والاهم فى كل ذلك ان ندرك المعنى والمضمون الاجمالى للازمة، وان نرى الجانب المفاهيمى او القيمى فى ما يجرى .فنحن امام مجتمع واقتصاد امبراطورى تتطور الازمة الداخلية فيه الى درجة الكارثة .ونحن امام ولايات متحدة تهزم على الارض فى العراق وافغانستان، وفى المواجهة مع اقطاب دولية صاعدة، وينهك اقتصادها الذى من اجل انقاذه قامت بالعديد من عمليات الغزو والاحتلال .ونحن امام امة اسلامية فى المقابل تتجمع فى داخلها عوامل التغيير وتنفتح امام مرورها الى التاثير الدولى فجوة واسعة بحكم التغييرات الجارية فى مخاض بماء نظام دولى جديد .