وقفات مع قاعدة: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
23 شوال 1429
انجوغو مبكي صمب
تمهيد:
تعد قاعدة ( الصبر واليقين ) من أشهر القواعد الشرعية وأوسعها مضمونا، وأرحبها مجالا، ويرجع كل ذلك إلى أصالة القاعدة وموافقتها للقرآن والسنة، ثم لكثرة استعمال العلماء والدعاة لها تأصيلا وتنزيلا، حتى غدت حجة على لسان كل فقيه، ونبراسا على يد كل مربي و داعية. وهذه وقفات للتأمل والنظر في هذه القاعدة الذهبية، تكشف عن نسبها الأصيل، وتبرهن على صحتها ، وتبحث عن مجالات تطبيقها، فكثير من يستشهد بهذه القاعدة ويكررها في أحاديثه قد يغفل عن كثير من معانيها، فضلا عن البحث عن أدلتها، والله ولي التوفيق والسداد:
الوفقة الأولى: نسبة القاعدة.
 
إن القواعد الشرعية عبارة عن معان مستنبطة مما تقرر في شرع الله بدلالة الكتاب أو السنة أو الإجماع، غير أن أهل العلم من الفقهاء أو الأصوليين أو المتكلمين وغيرهم يقومون بصياغتها ووضعها في قالب يجعلها جامعا مانعا مختصرا ووافيا، ثم يستدلون لها بما يشهد لها بالصحة والاطراد، الأمر الذي يسوغ نسبة تلك القواعد إليهم ولو على سبيل التجوز.
ومن هذا الباب نقول إن هذه القاعدة منسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فالمطلع على كتبه وكتب تلاميذه يجدها واردة فيها بكثرة تصل إلى حد التواتر، حيث يذكرها شيخ الإسلام في تعليقاته على بعض الآيات القرآنية الدالة على معنى القاعدة، أو يصف بها بعض أئمة الدين ممن
سبق من أتباع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، أو من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وغيرهم من الأئمة والمصلحين، ومن ذلك على سبيل المثال:
 - قوله رحمه الله تعالى: (( فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماما في الدين )). .
- وقوله في موضع آخر (( ولهذا كان الصبر واليقين اللذان هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين)). 
 - وكذلك وصفه أبي بكر الصديق رضي الله عنه بأن الله قد جمع له بين الصبر واليقين، و بهما استحق وصف الإمامة في الدين. 
- و في وصفه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بالإمامة في الدين معللا ذلك بقوله (( ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم ما اتصل إلى غيره، فصار له من الصبر واليقين الذين جعلهما الله سببا للإمامة في الدين، بقوله عز وجل { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُون َ}   )) إلى غير ذلك من مواضع متعددة في كتب متنوعة يذكر فيها هذه القاعدة بصيغ لا تختلف كثيرا
. و قد نسب إلى شيخ الإسلام بن تيمية قاعدة الصبر واليقين غير واحد من تلاميذه، ومنهم على سبيل المثال: -
ابن قيم الجوزية رحمه الله حيث يقول في كتابه مدارج السالكين: (( سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين )) .
- وكذلك ابن كثير رحمه الله في كتابه تفسير القرآن العظيم، عند تفسير الآية ( 25) من سورة السجدة، حيث نسب القاعدة إلى بعض أهل العلم على سبيل الإبهام، والذي يعرف العلاقة التي تربط بين الإمامين ليكاد يجزم بأن ابن كثير لا يقصد بقوله بعض العلماء إلا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمهما الله، والله أعلم.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن نسبة قاعدة الصبر واليقين إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، أو نسبة أي كلام آخر لأي عالم آخر، لا يعني بالضرورة أن يكون أول من جرت ألفاظ تلك القاعدة أو الكلام على لسانه، وفاض معانيها على قلبه من العلماء، وعليه فإن نسبة القواعد أو المذاهب العلمية إلى فلان من الناس لا تعني أكثر من شهادة له بمزيد من العناية بتلك القاعدة أو ذلك المذهب، تظهر في صياغته لتك القاعدة بألفاظه، أو تواتر تلاميذه وأتباعه على رواية ذلك المذهب عنه، وهذا في أغلب الأحوال وأكثر الأحايين، والنادر لا حكم له. 
الوقفة الثانية: أدلة القاعدة الشرعية.
 
إن مجرد نسبة قاعدة أو رواية مذهب إلى زيد أو عمر من العلماء، مهما بذل فيه الإنسان من جهد في البحث والتحقيق، لا يكفي لإكساب تلك القاعدة أو ذلك المذهب الأصالة الشرعية أو الصوابية المطلقة، إذ لا حجة في الشرع لغير كلام الله وكلام رسوله “صلى الله عليه وسلم”، وما شهدا له بالحجية كالإجماع والقياس وغيرهما من الأدلة، ولهذا نسعى في هذا المبحث جاهدين لذكر ما نراه صالحا للاستدلال على صحة قاعدة الصبر واليقين، والله المستعان وعليه التكلان، فنقول وبالله التوفيق:   دلت على قاعدة ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) آيات كثيرة من القرآن الكريم، وأحاديث صحيحة من السنة النبوية، كما أن معناها متفق مع مقصود الشارع الحكيم في أحكام الإمامة وهديه في الدعوة والتربية، وأصول المدنية والعمران البشري. أومن الآيات القرآنية الدالة على القاعدة:
 
1- قوله عز وجل { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ }   ، والآية تخبر بوضوح بأن الإمامة لم تحصل لهؤلاء الموصوفين بها إلا بعد صبرهم على طاعة الله وعزوفهم عن لذات الدنيا وشهواتها، و(( كونهم أهل يقين بما دلهم عليه الحجج الشرعية، وأهل تصديق لما تبين لهم من الحق من التوحيد وجميع مسائل الإيمان )). كما يقول الإمام الطبري رحمه الله، ويمكن القول بأن هذه الآية نص على
القاعدة لما أخبر الله فيها من جعل أولئك النفر من بني إسرائيل أئمة، مع ذكر الأسباب الموجبة لبلوغهم تلك المنزلة وهي اجتماع اليقين في دين الله والصبر الذي لم يذكر في الآية متعلقاته إمعانا في التعميم ليشمل كل أنواع الصبر، من صبر على طاعة الله بامتثال أوامره، وصبر عن معصية الله
باجتناب نواهيه، وصبر على قضاء الله وقدره يمنع النفس عن التسخط و يمسك اللسان عن الشكوى، وينهى الجوارح عن التشويش، ويهدي القلب إلى الرضا، ويرشد العقل إلى البصيرة في التعامل مع الأقدار بصفة إيجابية.
2- قوله تعالى { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ و إِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ }    وهذه الآية نزلت في الفئة المسلمة من آل إبراهيم عليه السلام، والتي تولت قيادتها نشر الدعوة وتربية المؤمنين من بعده، على أساس من التوحيد الخالص والعمل الصالح، قال
الإمام الطبري رحمه الله: (( وقوله: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } يقول تعالى ذكره وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتم بهم في الخير في طاعة الله في إتباع أمره ونهيه و يقتدي بهم ويتبعون عليه )) .
والهداية بأمر الله تقتضي كون الهادي عالما بشرع الله موقنا بآياته، عاملا بما علم و داعيا إليه وصابرا على الأذى فيه، و إلا سلك بنفسه وبمن تبعه سبيل الضالين العابدين الله على جهل، أو المغضوب عليهم المخالفين لأوامر الله.  
3- قوله تعالى: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ }    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( فالأيدي:القوة في أمر الله , والأبصار: البصائر في دين الله فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه ))
.
وأهل الصبر واليقين هم حملة الدعوات المهتدية في كل زمان ومكان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (( ومن المستقر في أذهان المسلمين أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله ورسوله , فهؤلاء أتباع الرسول “صلى الله عليه وسلم” حقا , وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت , فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, فزكت في نفسها , وزكى الناس بها وهؤلاء هم الذين جمعوا بين
البصيرة في الدين والقوة على الدعوة , ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } )) .
 
4- قوله سبحانه وتعالى عن ملك بني إسرائيل طالوت { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }   وفي الآية إشارة إلى شرطي الصبر واليقين في الملوك والأمراء، بل المطلوب في حقهم أن يكونوا على بسطة منهما، لقوله { وزاده بسطة في العلم والجسم } قال السعدي رحمه الله (( أي بقوة الرأي والجسم الذين بهما تتم أمور الملك لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب حصل الكمال، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع...، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفد الرأي الذي لا ينفذه شيئا ))      
ثانيا: الأدلة من الأحاديث النبوية.
و يدخل تحتها كل حديث اشتمل على الأمر بتصحيح الإيمان أو تكميله بالنسبة لأئمة المسلمين، أو تضمن الحث على الصبر والقوة في إقامة الدين ونصرته، وخاصة ما كان الخطاب فيه موجها بصراحة أو ضمنا إلى طائفة العلماء والأمراء، ومن جملة تلك الأحاديث:
 
1- قوله “صلى الله عليه وسلم” ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من   يجدد لها دينها )   والمعنى الإجمالي للحديث هو عصمة الله تعالى لمعالم الإسلام من الإندراس الكلي والذهاب الأبدي، بمن يقيضهم سبحانه من أئمة الدين الذين يقومون بتجديده وإحياء معالمه بين فترة وأخرى، وقد أورد صاحب عون المعبود بعض أقوال العلماء في بيان معنى تجديد الدين فقال: (( من يجدد مفعول ( يبعث لها ) أي لهذه الأمة ( دينها ) أي يبين السنة من
البدعة، ويكثر العلم، وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم، قالوا : ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، قاله المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير: وقال العلقمي في شرحه معنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما )) ، وكلها معان
متقاربة لا تخرج عن وظائف أئمة الدين من المجددين وغيرهم، وإن كان دور المجددين في القيام بها آكد وأبلغ، وذلك لظهور أعمالهم التجديدية بين الناس وتأثيرهم في أحداث زمانهم كما قال الإمام السيوطي في قصيدته المسماة التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة:
والشرط في ذلك أن تمضي المائة      وهـو على حـياته بين الفئـة
يشار بالعلم إلى مقامــــــه      وينشر السنة في كـــلامه
وما يقوم به المجدد من إقامة دين الله لا يتأتى لغير عالم بالدين أصوله وفروعه، صابر محتسب على ما يلقى في سبيل الله، وقد يتفاوت المجددون في التحلي بصفتي الصبر واليقين، فتبرز في بعضهم صفة اليقين وفروعه كالمشتغلين بعلوم الشريعة من فطاحل المفسرين والفقهاء والمحدثين وغيرهم
فيكون مجال تجديدهم في جانب العقائد والتصورات غالبا على غيره من الجوانب، كما تكون صفة الصبر وما يتفرع عنه أظهر عند آخرين منهم فيكرس كل جهوده التجديدية في إصلاح ما اندرس من الشعائر وإحياء ما انطمس من السنن، والمجدد قد يكون من العلماء أو من الأمراء واشتراط الصبر واليقين في هؤلاء من المتقرر في الشريعة الإسلامية. 
2- قوله “صلى الله عليه وسلم” ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن   يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) ، ومفهوم الحديث يدل على خطورة اتخاذ الأئمة من غير أهل اليقين والصبر، لأنهم لا يهدون الناس إلى الصراط المستقيم، سواء كانوا مفتين كحال من ذكر وصفهم في الحديث، أو كانوا قضاة، أو دعاة إلى الله، فإنهم ما لم يصدروا عن ورع وفقه
في الدين فإنهم من أهل الضلال والإضلال والجهل والمخالفة لأوامر الله، لأن الإقدام على الفتوى أو القضاء ونحوهما بغير علم ناتج عن عدم الصبر على تحصيل الشروط الواجبة في المفتين والقضاة، وأما ضلالهم وإضلالهم فهو بسبب إفتائهم وقضائهم بأهوائهم وعقولهم المجردة، نقل المناوي في فيض القدير عن الراغب قوله في صفة هؤلاء ما نصه: (( ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق وأحدثوا بجهلهم بدعا استغنوا بها عامة، واستجلبوا بها منفعة ورياسة، فوجدوا من العامة مساعدة بمشاركتهم لهم، وقرب جوهرهم منهم، وفتحوا بذلك طرقا منسدة، ورفعوا به ستورا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوها بالوقاحة، وبما فيهم من الشره، فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصابا لسلطانهم ومنازعة لمكانهم، فأغروا بهم أتباعهم، حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم، فتولد بذلك البوار والجور العام والعار)) .
3- قوله “صلى الله عليه وسلم” ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين ) ، حيث بين رسول الله “صلى الله عليه وسلم” أن حماة الدين وحراس العقيدة في كل جيل من أجيال الأمة الإسلامية المتعاقبة هم عدوله، والعدالة المستجمعة لشروطها وصف جامع لمعاني اليقين والصبر، إذ عرفها أهل الاصطلاح بتعريفات كلها يفيد الاستقامة على دين الله في الاعتقاد والقول والعمل والثبات عليه، و مما قالوه في تعريف العدل: (( العدل هو من عرف بأداء فرائضه ( الإسلام ) ولزوم ما أمر به وتوقى ما نهى عنه وتجنب الفواحش المسقطة، وتحرى الحق والواجب في أفعاله ومعاملته، والتوقى في لفظه مما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه...))   وهذه كلها من صفات أئمة الدين وقادة المؤمنين.
 ثالثا: كون القاعدة متفقة مع مقاصد الشريعة:
وأما المسلك الثالث من مسالك الاستدلال على صحة القاعدة فهو كونها متفقة مع الغايات و العلل التي من أجلها شرع كثير من الأحكام السلطانية، والآداب المرعية في حق الأئمة والعلماء والدعاة، يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله: (( مقصود الشارع في الناس هو تحصيل مصالح الدين والدنيا, في الحياة الأولى والآخرة، ولا يتم ذلك إلا بحمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم و آخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء )). 
ولهذا نجد جل ما يذكر في حق الخلفاء والعلماء بوظائفهم المتعددة، من شروط وآداب من فروع اليقين والصبر، وإن شئت راجع أقوال الفقهاء في شروط الخليفة، والمفتي، والقاضي، والداعية، أو المربي، ستجد جملة منها كبيرة لا تخرج عن هذين الأصلين العظيمين، وذلك مثل ( الإسلام – العدالة – بلوغ درجة الاجتهاد – الشجاعة الورع – التقوى... )   وغيرها مما يؤدي نقصانه أو فواته إلى قدح في كمال الإمامة أو في صحتها.
ومناسبة اشتراط الصبر واليقين للخليفة والسلطان راجعة إلى كونه هو المسئول عن إقامة الدين الذي هو عصمة أمر الأمة، وسياسة الدنيا التي فيها معاشهم، وحماية حوزتهم التي بها مقامهم، وأما اشتراطهما في المفتي فلكونه المقصود للكشف عن حكم الله في النوازل واستنباط الأحكام في الشرع، وكذلك القاضي الذي يفصل في الخصومات ويحكم في النزاعات، والداعية الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فجميعهم في منصب لا يقوم بواجبه فيه بغير الصبر واليقين.  
رابعا: استقراء سير الأئمة.
 إن استقراء تاريخ الدعوة الإسلامية وسير الملوك والخلفاء منذ ابتداء فترة النبوة والرسالة إلى يومنا هذا، يفيد بأن كل من عهد الله إليه بمهمة الرسالة، أو فوضت إليه الأمة أمر القيادة، كانوا ممن توفر فيهم اليقين والصبر، فلم يجعل الله قط الرسالة والنبوة في من ليس من أهل العلم واليقين، أو من يستغل الناس في تحقيق مآربه الذاتية وتحصيل منافعه الشخصية، قال تعالى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُون َ} ، والأنبياء والمرسلون أكمل الناس علما ويقينا لكونهم يتلقون الوحي من الله تعالى، كما أنهم أقوى الناس صبرا وثباتا على دين الله، ولهذا اختارهم لرسالته، فبلغوا الرسالات وأدوا الأمانات ونصحوا الأمم، قال تعالى { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين َ}   , وقد ثبت في الحديث النبوي ( أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي..) , قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (( قوله: تسوسهم الأنبياء أي أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله لهم نبيا يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروا من أحكام التوراة )) ,
و قال النووي رحمه الله (( أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه )) ،
وفي الحديث: (( إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريقة الحسنة وينصف المظلوم من الظالم..)) ،
ومهمة سياسة الأمة، وكذلك تعليم الكتاب والحكمة للناس وتزكية نفوسهم بعد ختم النبوة برسولنا محمد “صلى الله عليه وسلم” تعد من وظائف أئمة المسلمين العلماء والأمراء، يؤدونها امتثالا لأمر الله ونيابة لرسول الله “صلى الله عليه وسلم” في إقامة الدين. خامسا: القاعدة وأصول المدنية والعمران البشري.
إن من أصول المدنية والعمران البشري أن أمر الأمم والشعوب مؤمنة كانت أو كافرة، لا يستقيم ولا ينضبط إلا بالإمامة والقيادة، وذلك مغروس في طبائع البشر وفطرهم، سواء من سكن منهم في الحواضر، ومن قطن البوادي، ومن عاش في مجتمع كبير أوفي ٍٍمجتمع صغير. وقد جرى في عرف البشرية أنه لا يرشح ولا يترشح لمنصب القيادة والملك إلا أهل البسطة في العلم والجسم، المهتدون بعلمهم إلى نصح الرعية وسياستهم على مقتضى المصلحة، والمتوصلون بالقوة والصبر إلى رعاية مصالحهم ودفع المضار عنهم، فلم يؤثر قط في تاريخ الإنسانية أن أمة من الناس سودوا المخاريق والضعفاء عليهم، ثم أفلحوا ودام لهم ملك وسؤدد، فإن قيل فكيف يتوصل أهل الكفر والإلحاد إلى العلم واليقين، وقد عرفتهما بما سبق، قلت: إن العلم واليقين في كل إمامة بحسبها، فمن أم قوما مؤمنين قصدهم طاعة الله ونشر دينه وإعلاء كلمته كان اليقين والعلم الواجب في حقه ما كان متعلقا بأصول الدين وفروعه، وطرق إقامة الدين ووسائل نشره، وأما من قاد أمة كافرة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فاليقين والعلم الواجب في حقه ما يتوصل به إلى جلب المصالح الدنيوية ودفع المفاسد الدنيوية فقط، وما قيل في اليقين يقاس على ما يقال في الصبر.   
الوقفة الثالثة: تصنيف القاعدة.
 
إن القواعد الشرعية تختلف بحسب الفنون والعلوم التي تصنف ضمنها، فهناك القواعد الفقهية، والقواعد الأصولية، والقواعد التربوية والدعوية , وغيرها من القواعد... ترى، فإلى أي نوع تصنف قاعدة الصبر واليقين ؟ الذي أرى هو أن هذه القاعدة تعتبر من القواعد الجامعة التي يمكن تصنيفها ضمن القواعد الفقهية، أو تعزى إلى علم السلوك والتربية، وإن شئت قل إنها من قواعد فقه الدعوة والتغيير.
أما علاقتها بالفقه الإسلامي فهي من جهة دخولها في باب الأحكام السلطانية وخاصة فصل ( شروط الخليفة أو الإمام و واجباته ) لأن كل ما يذكر هنالك من الشروط والواجبات مندرج تحت الأصلين العظيمين الصبر واليقين، وكذلك باب القضاء والفتوى، لاسيما ما يتعلق منه ب ( شروط القاضي والمفتي )، وغير ذلك من الولايات الشرعية كالوزارة، وقيادة الجند... ونحوها.
و أما صلة القاعدة بعلم السلوك والتربية فواضحة وبينة، لما عرف من عناية المربين بأصول الأخلاق الإسلامية التي على رأسها خلق الصبر المانع من اقتراف الشهوات، و اليقين العاصم من اتباع الشبهات، وكل من الشهوات والشبهات مرضان من أمراض القلوب المؤثرة على تدين الإنسان واستقامته، قال تعالى عن مرض الشهوات ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً )   وقال عن مرض الشبهات ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) ،
وغاية مقصد أطباء القلوب هو قطع أو منع مادة الفساد عن العقول والجوارح، ولا أنفع في ذلك من دواء ين هما الصبر واليقين.
و كذلك تصنيف القاعدة في علم فقه الدعوة والتغيير يعد صوابا من جهات مختلفة، فالعلماء والدعاة من جنس أئمة المسلمين الذين تجب طاعتهم والرد إليهم، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )   وولاة أمور المسلمين لا يهدون بأمر الله، إلا إذا صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون، ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ).
ثم إن وظيفة أهل العلم والدعوة هي التربية والتعليم، بكلما تحمل الكلمتين من معنى، قال تعالى ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) ، ولا يقوم بالتربية والتعليم والدعوة إلى الله على الوجه الذي يرضي الله ورسوله من لم يتوفر
فيهم اليقين والمعرفة بما يدعون الناس إليه ويربونهم عليه، وكذلك الصبر والثبات على ما يلقونه في سبيل ذلك من الأذى.
كما أن مسؤولية الأمراء والحكام في الدعوة والتغيير بما عهد الله إليهم من واجب إقامة دين الله وسياسة الدنيا به، ولا يقومون بهذه الوظائف الجليلة ما لم يتحلوا بصفتي الصبر واليقين.  
فقاعدة ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) إذن قاعدة شرعية جلية في فقه الدعوة والسياسة الشرعية، ومصباح منير في طريق السالكين وبالأخص من ترشح منهم لقيادة وإمامة المسلمين.   
 
الوقفة الرابعة: العلاقة بين مفردات القاعدة.
 
هناك علاقة وطيدة وصلة وثيقة بين كل من الصبر واليقين من جهة، و بينهما وبين الإمامة الشرعية والقيادة الدينية من جهة أخرى.
وأما العلاقة بين الصبر واليقين: فيبينها ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض تفسيره للآية الكريمة { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} ، قال رحمه الله: (( فأمره بأن يصبر، ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم، فإنهم لعدم صبرهم خفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين الحق لصبروا وما خفوا ولا استخفوا، فمن قل يقينه قل صبره، ومن قل صبره خف واستخف، فالمؤمن الصابر رزين لأنه ذو لب وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش، يلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف والله المستعان )). ولا مزيد في الحقيقة على هذا الكلام الوجيز والمفيد في بابه، والذي نستفيد منه أن العلاقة بين الصبر واليقين علاقة تلازم، لأن العلم التام بالشيء وما يجلبه للمرء من خير أو يدفعه عنه من شر، يستلزم قوة وصبرا في أداء ذلك الفعل، وقل مثله فيما يقتضيه ذلك العلم من الترك وما يترتب عنه من نتائج. فالمترشح لإمامة المتقين إذا كان من أهل اليقين بحقائق دين الإسلام من عقائد صحيحة وشعائر فاضلة وشرائع عادلة، وعلم بأن لا فلاح في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بأهدابها، لا بد أن يكون ذا رزانة و شخصية عالية لا تنقاد لشبهات البدع والضلالات، ولا ينساق وراء مختلف الشهوات، وانظر إلى حال الأنبياء عليهم السلام وكذلك ورثتهم العلماء من بعدهم لما كانوا أهل يقين بما أمر به الله من الإيمان والعمل الصالح، كيف عرفوا بطلان غيره وقبحه، ولم يلتفتوا إلى شبهات الكفار والمشركين وأهل البدع في معارضة الحق، كما لم يمنعهم من العمل بما علموا رغبة ولا رهبة , قال تعالى { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين   وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين   فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } .
وما مظاهر الحور بعد الكور التي نرصدها في حياة الدارجين في سلك الإمامة من غير أهلها ممن يقصر في علم أو في عمل فيخلط علما بجهل، أو يشوب سنة ببدعة، أو طاعة بمعصية، ليس ذلك إلا دليلا قاطعا على أهمية تحصيل الصبر واليقين وضرورتهما في بناء الشخصية القيادية المنشودة لنيابة صاحب الشرع في القيام بوظائفه المتنوعة.   
العلاقة بين الصبر واليقين وبين الإمامة في الدين:
 
أما العلاقة بين الصبر واليقين وبين الإمامة في الدين فهي علاقة شرط بمشروطه، والشرط في اصطلاح الأصوليين هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، و جل شروط الخلافة، و كذلك أكثر آداب العلماء وصفات الدعاة إلى الله تعالى عند التأمل نجدها مندرجة تحت هذين الأصلين العظيمين: الصبر واليقين، وفوات بعضها مناف لكمال الإمامة في الدين، كما أن انعدام بعضها الآخر مناف لصحتها، ولا يوجب توفرها في كل شخص من المسلمين تبوئه على منزلة الإمامة في الدين لمانع أو لآخر.