هل بالفكر وحده تصلح الأمة ؟!
24 شوال 1429
د. أسامة عثمان
بعد هذه العقود التي مضت على قوى وأحزاب تنتهج الفكر طريقا للنهضة والإصلاح الشامل للأدواء والعلل التي تعمقت في الأمة, لم تحقق تلك القوى الاحتضان الكافي, ولم تفلح في ترسيخ فكرها إلى درجة تفضي إلى التفاعل الجماهيري مع أطروحاتها الدعوية .
 
فأين المعضلة؟
 هل هي في الظروف التي مر فيها العالم العربي, وحرمته من الانطلاق الحر, بسبب التحكم الاستعماري والتبعية لمناهجه في التفكير والسياسة اتباعا مشوها؟ قد يكون لذلك حظ من الأسباب؛ إذ تقوم حالة المسلمين على فصام نكد بين عقيدة الأمة من جهة, وحياة الفرد, والحياة العامة, من جهة أخرى, ففي معظم البلاد الإسلامية يكاد يُحصر الإسلام في قوانين الأحوال الشخصية, وفي العبادات, وفي مادة التربية الإسلامية, أو الثقافة الإسلامية, في التعليم. فنحن نعاني من حالة اختلاط وتناقض فكري وشعوري, يحرمنا من أي تحرك منتج؛ فلا نحن على تماهٍ مع المناهج الغربية , ولا نحن, كذلك, على وفاق تام مع الدين وأحكامه وحضارته.
 
ولكن, وبقطع النظر عن الآثار السلبية التي سببها الاستعمار, والمعيقات التي تعمد, دون كلل, وضعها في طريق نهوضنا؛ فإنه ما كان له أن ينجح, في البدء, ولا في الحاضر, لولا انطواؤنا على أسباب الضعف الذاتي.
 
فما أسباب الضعف؟ هل هو افتقاد الفكر؟
 
أعلى بعض المفكرين والمثقفين من قيمة الفكر لأسباب, منها ما رأوه في الإنسان الفرد والمجتمع, وما خرجوا به من تجارب التاريخ؛ فالفرد يقوده في المقام الأول عقله, القوة الواعية, والمميزة, فسلطان الفكر هو الأقوى, والإنسان لا يملك أن يغلق عقله أمام الفكر والحقائق. الأمم تنهض بالفكر؛ لأنها إن سادت فيها القيم الرفيعة والأفكار الصحيحة والمشاعر المتجانسة مع فكرها فقد توفرت على البناء المتين, وأضحت قادرة على النهوض, والتأثير.
 
 وعزوا تخلف الأمة إلى افتقادها للتفكير السليم المبني على عقيدتها, أو المنبثق عنها. في المقابل استحضروا التجارب التاريخية في ثورات الشعوب, ونجاح ( المصلحين) فرأوا للفكر الحظ الأكبر في إحداث كل الإنجازات والتحولات الحضارية. كما حدث في الثورة الفرنسية, والبلشفية, مثلا.
 
ولا ريب أن الأمة ليست على الحال المطلوبة فكرا وثقافة؛ ما يحرمها من رؤية واضحة مبلورة, كما يجعلها عرضة للاستلاب والانقياد, والذوبان, إلى غير ذلك من الأضرار التي لا تخفى, ولا تنكر, لكن السؤال الذي يتجدد: هل بعد هذه العقود من العمل الفكري والسياسي ما زال العائق الحقيقي هو جهل الأمة, أو القوى المؤثرة فيها, وفقرها الثقافي والفكري, أم أن ثمة أسبابا أعمق؟
 
المشكلة الأعمق في العقيدة والإيمان:
 
تكاد محورية الإيمان, وأوليته في حياة الأمة, الحياة الحقة, لا تحتاج؛ لبداهتها إلى أي دليل, فلا وجود للإسلام في الفرد ولا في الجماعة, ولا لآثاره, طبعا, إذا انعدم الإيمان, أو تراجع إلى مستويات تتغلب عليه فيها الدوافع الغريزية, والرغبات الدنيوية, ولا يسد حينها مسد هذه الفجوة شيء؛ فما لم تملأ منطقة الإيمان في الفرد والأمة به؛ فلن يغني عنها فكر, أو ثقافة. صحيح أن تلك الأفكار قد تكون منبثقة من الدين, ولكن طريقة تناولها, وخطاب الدعوة إليها, لا يكون إيمانيا, وإنما هو في الحظ الأغلب منه يصب في التكوين الثقافي والفكري والمعرفي, ومعروف أن الإيمان شيء غير المعرفة, ثم إن هذا الخطاب الفكري إن صلح مع نخبة من الناس في ظرف من الظروف؛ فلن يصلح مع عمومهم, ولا حتى مع تلك النخبة في كل الظروف.
 
ومع ذلك لا يضر أن نعرض بعض المؤشرات التي تؤكد افتقاد العمل التغييري في الأمة, والإصلاحي النهضوي إلى الإيمان, أولا, ودائما. منها:
 
 
- أن الإيمان هو الأساس, وأي تراجع في الالتزام, ولا سيما بعد العلم, يكون مرده إلى ضعف الإيمان, قطعا. لذلك لم يكن غريبا أن يمكث القرآن المكي والرسول- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاما, يركز عليه, ويرعاه في المسلمين؛ حتى تحقق, وأثمر.
 
- أن الأجيال الإسلامية, ومنذ فترة ليست بالقصيرة, لم تتلق الإيمان على نحو كاف وسليم ومؤثر... فكيف يتولد الإيمان الفاعل, والإيمانُ, بطبيعته, عرضة للتراجع, ما لم يتعاهد؟! فكيف, وهو لم يبن- كما ينبغي؟!
 
- أنك واقعيا لا يمكن أن تقيم حياة إسلامية, ولا حتى أن تتوقع استماعا, وتقبلا من أناس لا يعنيهم أمر الدين, إلا بالقدر الذي لا يؤثر على مصالحهم....
 
- صحيح انه قد يصعب أن تحقق الإيمان في الجميع بالقدر العالي, لكن لا بد من قاعدة واسعة تتلقى الخطاب الإسلامي, بوصفه الإسلامي التعبدي, لا بأي وصف آخر.
 
- كثير من الناس لا يستجيبون للخطاب الإسلامي لأسباب معنوية ونفسية, تتوزع بين الإحباط من الهزائم التي منيت بها الأمة والخيبات المتكررة, واستشعار التفوق الكبير للدول الكافرة على المسلمين النازفين.وهذا الاستشعار ينبع- كما هو معلوم- من ضعف التوكل على الله.
 
ومنهم من يعود انصياعه للفكر الغربي والثقافة والتشريعات الكافرة إلى زعزعة ثقته بأحكام الإسلام, وهو سبب, إن محصته, وجدته يرتد إلى ضعف الإيمان بحاكمية الله, والعياذ بالله, أو انعدامه.
 
 
- أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد شخص الداء الذي ترتهن له الأمة اليوم في حديثه الذي أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني, وقال عنه الألباني:"لا يشك حديثي في صحة هذا الحديث البتة", ذاكم هو الحديث المشهور على ألسنة الخطباء والدعاة:" " يوشكالأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " ، فقال قائل : ومن قلة نحنيومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله منصدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " ، فقال قائل : يا رسول الله وماالوهن ؟ قال : " حب الدنيا ، وكراهية الموت" علق عليه الشيخ الألباني بقوله:{ بل الغاية منه... هو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالب الأمم وهجومهمعلينا ، ألا وهو " حب الدنيا وكراهية الموت " فإن هذا الحب والكراهية هو الذييستلزم الرضا بالذل والاستكانة إليه والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلافأنواعه من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك ، وهذا هو حال غالب المسلميناليوم مع الأسف الشديد .

فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذهذا العامل ، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة ، حتى يعودوا كما كانأسلافهم " يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة
" .

وما أشار إليه هذا الحديثقد صرح به حديث آخر فقال -صلى الله عليه وسلم- : " إذا تبايعتم بالعينة ،وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " .

فتأمل كيف اتفق صريح قوله في هذا الحديث " لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنىالذي دل عليه كتاب الله تعالى أيضاً ، وهو قوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتىيغيروا ما بأنفسهم)

فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين منالاستمرار في " حب الدنيا وكراهية الموت " ، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمينتنبهوا له وعملوا بمقتضاه لصاروا سادة الدنيا ، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار ،ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلي ، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله -صلى الله عليهوسلم- في أحاديث كثيرة ، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها ، فقال عليه الصلاةوالسلام:" " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدرولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله بهالإسلام وذلاً يذل الله به الكفر  .}
 
وما دام قد ثبت أن أس الداء هو حب الدنيا, وتفضيلها لدى الكثيرين على الآخرة؛ فلا علاج ناجعا لهذا الداء العضال, سوى دعوة الناس إلى الإيمان, ورعايته فيهم, دوما؛ فإذا صلحت الأمة إيمانيا, وتراجع في قلوبها حب الدنيا؛ فلم يستحوذ عليها, حينها يسهل بأقل الجهد والتوجيه أن تصوب مسيرتها, وتسدد رميها, وتغادر غثائية لا تُبرئها الآراء الفكرية, ولا السياسية, هذا مع عدم التنكر لتلك المادة الفكرية ما دامت وثيقة الصلة بالدين, أو محتاجة لها الأمة لتصويب الرؤية, وتحديد الموقف, لكن دون أن تتفوق في مقدارها, أو في مكانتها, فتصبح هي أساس البناء. وعلاج الداء.