قبل توقيع الاتفاقية الأمنية "العراقية"/الأمريكية أو تمزيقها
26 شوال 1429
أمير سعيد
في هذا الموسم السياسي المحموم في العراق تتراص مكعبات الأزمة ويتدفق الزيت على النار تحت مرجل الصراعات في مرحلة الاحتلالين الأمريكي والإيراني للعراق، ليزداد الموقف اشتعالاً مع جملة من الاستحقاقات التي يجدها الأمريكيون والإيرانيون وقادة المقاومة العراقية ورموزها السياسية والعسكرية من العلماء والقادة الميدانيين والساسة أمامهم طالبة منهم موقفاً يأخذ بالاعتبار ما يتخلف عن رفض أو قبول الاتفاقية الأمنية بين الجهات المحسوبة على إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والقاضية بوجود دائم للاحتلال الأمريكي في العراق، ومثله الإيراني، وإن ليس على نحو معلن.
المواقف المعلنة حتى الآن هو الرفض الواضح من قبل أهل السنة بكافة أطيافهم المعتبرة، وتقية سياسية في المقابل من قبل المراجع الشيعية بالترافق مع تحفظات من قبل الحكومة التوافقية العراقية (والتوافقية هنا لا تعني إلا التوافق الإيراني الأمريكي)، وتأجيل البت في أمرها لأجل يستوفي عنده رجال إيران في العراق أغراضهم.

سيل من الفتاوى انهمر من الجانب السني يتسق مع ثوابت الإسلام التي لا مقايضة بها لدى العلماء الأجلاء؛ فقسم الفتوى بهيئة علماء المسلمين في العراق (بزعامة الشيخ حارث الضاري) أفتى  بعدم جواز التوقيع على الاتفاقية ناصاً على أن "هذه الاتفاقية إذا ما تمت بين الحكومة الحالية المنصَبة على العراق وبين الإدارةالأمريكية المحتلة للبلاد، فإنها تعد محرمة شرعا وباطلة عقدا، ولا تلزم أبناءالعراق بشيء؛ ولأن الأمر هنا متعلق بحق الأمة، فإن من يجيزها أو يمضي عليها من ساسةالحكومة الحالية سواء منهم من كان في السلطة التنفيذية أو التشريعية (مجلس النواب) فانه يعد مفرطا في المصالح العامة للأمة، وغير محترم لإرادتها وبالتالي فانه يقع فيإثم الخيانة لله ورسوله والمسلمين من أبناء الشعب العراقي وغيرهم."

(نص الفتوى)

والشيخ الأصولي المعروف عبد الكريم زيدان صدح أيضاً بالحكم الشرعي قائلاً في فتواه  : "لا يجوز للحكومة عقد هذه الاتفاقية كما لا يجوز لمجلس النواب تأييد هذه الاتفاقية أو الموافقة عليها لان عقدها لا يجوز وما لا يجوز فعله يعتبر منكرا، والمنكر حقه الإزالة والإبطال وليس التأييد له والموافقة عليه والإبقاء".

(نص الفتوى)

ومن خلال كتاب باسم " نقض المنطق السلمي " تناول الاتفاقية في صيغتها الأولى الخالية من النص على الانسحاب ثم فتوى صريحة تناولت النص الجديد القاضي بالانسحاب الأمريكي في عام 2011، رفض الشيخ محمد أحمد الراشد العزي الاتفاقية، وجاء في فتواه ما نصه "والمعاهدة الحاضرة تتجاهل كل ذلك وتتجاوزه وتُصر على ممارسة عمليات سحق الجهاد الذي تسميه خروجاً على القانون ، وبذلك فإنها لا توفر أبداً معنى جدولة الانسحاب ، ولا هي في مصلحة العراق السياسية ، ولا في مصلحته الاجتماعية ، وتزيد الطين بـِلّة ، وتطعن خاصرة الإسلام ، وتستمر في ظلم المجاهدين ، وبذلك يستمر وصفها المذموم ويتضح عنصر الضرر فيها ، ولا يمكن تأويلها بخير ، بل هي منكر  وحرام في عقيدة التوحيد وأحكام الشرع ومفهوم القانون الدولي والقانون الدستوري ، بل وفي الأعراف والأخلاق ، ولا مجال لنا غير الإفتاء بحرمة التوقيع عليها وإثم مَن يقترف ذلك من البرلمانيين والوزراء ورجال الدولة الرؤساء ، وإسقاط هذه الاتفاقية هو واجب الوقت ، وهو الأهم في سلسلة الواجبات المزدحمة ، وينبغي أن لا يتقدم عليه أي واجب آخر".

(نص الفتوى)

وكان موقف معظم أركان العمل السياسي السني متماهياً مع هذه المسلمات، لكن ثمة رأي آخر كان لأطياف الحركة السياسية الشيعية المنظمة متسقاً بدوره مع الموقف البراجماتي الواضح لطهران؛ فممثل السيستاني طالب بالمزيد من التروي وعدم الاستعجال ونوه إلى ضرورة اعتماد الثوابت التالية وهي المصالح العليا للشعب العراقي وعدم التفريط بها، وعدم المساس بسيادة العراق وعدم التفريط بها، والحفاظ على استقلال العراق.
وإمام الحسينية الفاطمية في النجف والقيادي في المجلس الأعلى "الإسلامي" بقيادة عبد العزيز الحكيم، صدر الدين القبنجي نصح الإدارة الأميركية بضرورة عدم إصدار تصريحات استفزازية وقطع الطريق على من يريد تأزيم الموقف السياسي.
أما المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد السنة النائب عن الائتلاف وإمام جامع براثا جلال الدين الصغير؛ فقد قال في خطبة الجمعة "يفترض بالسياسيين أن يراعوا مصلحة العراق وبما يمكن أن يؤمن عدم تفكك المجتمع العراقي لان تفككه يمكن أن يطيح بأي حصاد من الاتفاقية فيما لو وقعت أو رفضت"؛ فـ"عقد الاتفاقية فيه سلب وإيجاب .. فيه محاسن ومساوئ، وعدم عقدها يؤدي أيضا إلى محاسن ومساوئ"!!
كما اقتصر دور المرجع الشيعي الحائري بقم الإيرانية وتلميذه مقتدى الصدر على الرفض الدعائي للاتفاقية ووافقهم المرجع الشيعي اللبناني فضل الله على الرأي ذاته، لكن في المجمل؛ تبقى القوى الشيعية العراقية رهينة موقف براجماتي يجعل مسألة الخيانة والإخلاص، والاستقلال والتبعية أسهماً في بورصة الأمريكيين أو سلعة لدى البزار الإيراني.
لا غرو، هذا هو المنتظر والطبيعي والسياق العام الذي لم يخذله تعاقب الليل والنهار منذ نهار التاسع من إبريل في العام 2003 وحتى لحظة التفاوض على الانسحاب الأمريكي المزعوم من العراق، لكن الأهم فيما تقدم، هو السؤال عما إذا كان التعطيل الإيراني ـ عبر الأدوات ـ للاتفاقية سيفضي إلى مزيد من تحقيق مكاسب على أرض العراق لأهل فارس.
الحقيقة يسوقها بكل صراحة وشجاعة محمد الدايني، عضو البرلمان العراقي عن جبهة الحوار الوطني التي تحتل 11 مقعداً حين صرح بأن "إيران باتت تسيطر على 70 % من العراق (..) وهناك علاقة خفية بين إيران وأمريكا، وهناك اتفاق إيراني/إسرائيلي" [صحيفة البيان الإماراتية 10/10/2008]، فماذا لو كان تعطيل الاتفاقية معناه رفع هذه النسبة إلى حد السيطرة الكاملة، سواء عبر تفاهم أكثر واقعية مع الأمريكيين يغض الطرف عن إنتاج القنبلة النووية الإيرانية، أو استلاب ما تبقى من أوراق اللعبة لدى بعض القوى السنية في العراق، أو توسيع رقعة النفوذ الإيراني في دول الخليج العربية التي فقدت إلى جانب مئات المليارات في الأزمة الاقتصادية الثقة بالتعهدات الأمريكية بحمايتها من الأخطار الأخرى في الخليج.
أو حتى على افتراض أكثر الاحتمالات خيالاً، في حال وضعت الولايات المتحدة الحكومة العراقية الموالية لإيران أمام استحقاق مذهل بالانسحاب، وهو ما حاول التسويق له وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري في تصريح لقناة الحرة قبل أيام عبر الإيحاء بأن رسالة مبطنة قد وصلت من القيادة العسكرية الأميركية إلى حكومة المالكي تفيد بأنها تفكر جدياً بالانسحاب من العراق إذا لم توقّع الأخيرة الاتفاق الأمني المزمع مع الولايات المتحدة بنهاية هذا العام، ما يضع حكومة المالكي وجها لوجه أمام المقاومة العراقية!! ومع الاسترسال ـ فرضاً ـ مع هذا السيناريو؛ فإن أمام المقاومة أيضاً أياما صعبة قد لا تقل صعوبة عما قبل الانسحاب المتخيل.
الخلاصة أن ثمة من يؤجل التوقيع على الاتفاقية بانتظار الحصول على غنيمة أثمن في العراق الآن، مكرراً بحذافيرها قصة الإبقاء على موضوع الرهائن الأمريكيين في نهاية حكم الرئيس الأمريكي جيمي كارتر حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتعامل من ثم مع صقر البيت الأبيض رونالد ريجان في موضوع تزويد إيران بالأسلحة وقطع الغيار.
الاتفاقية إذن باتت رهينة الابتزاز الإيراني للولايات المتحدة قبل أسبوعين من الانتخابات الأمريكية التي لا يعرف تحديداً من هو مرشح قُم المفضل لها.. ولا بأس حتى تعلن النتائج من بعض المواقف "الشجاعة" لبعض "الآيات" وتنضج الصفقة!!