روسيا وأمريكا: القوة الصلبة والقوة الناعمة
27 شوال 1429
طلعت رميح




منذ انتهاء الحرب الباردة مع انتهاء الاتحاد السوفيتى، والولايات المتحدة هى من يستخدم القوة الصلبة فى تحقيق اهدافها العدوانية تجاه الدول الأخرى, بينما كانت روسيا مكتفية باستخدام القوة الصلبه داخل اراضيها خاصة ضد جمهورية الشيشان دون ان تخرج قوتها خارج حدودها , حتى جاءت أحداث جورجيا , لتتبادل روسيا والولايات المتحدة الادوار , اذ تدخلت روسيا عسكريا لتفرض مصالحها بالقوة العسكرية, بينما وقفت الولايات المتحدة عند حد استخدام أساليب وأدوات القوة الناعمة, إلى درجة أن باتت تبرر هذا الخيار، حيث أعلن مسئولين منها انهم نصحوا جورجيا بعدم الدخول فى مواجهة عسكرية مع روسيا , لانها ستكون فى صالح روسيا، وهو ما يعنى انهم ابلغوا جورجيا  بعدم قدرتهم على التدخل العسكرى , او تقديم الدعم العسكرى فى مثل تلك المعركة، كما الولايات المتحدة ما تزال تراوح مكانها في التعامل مع روسيا، بإعلانات تتحدث ولا تفعل شيئًا؛ إذ هي ما تزال عند حدود التهديد بإعادة النظر في العلاقات مع روسيا، وبالوقوف ضد انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية.. إلخ.

وفى خروج القوات الروسية الى خارج الحدود , والاعتداء على جارة لها , تبدأ روسيا هى الاخرى في تحقيق مصالحها العدوانية باستخدام القوة الصلبة , وفق ذات المبررات التى كانت تعتمدها الولايات المتحدة والغرب فى الاعتداء على الدول الاخرى.

 لقد جاء استخدام القوات المسلحه الروسية ضد جورجيا , وفق تبريرات تتعلق باوضاع داخليه فى هذا البلد (غزو القوات الجورجية لاحد اقاليمها الداخلية) بما يذكر بتبريرات العدوان الامريكى على العراق وافغانستان لاسباب داخلية , اذ بررت الولايات المتحدة غزوها لافغانستان بعد تسليم طالبان لبن لادن, كما بررت غزوها للعراق بتصرفات صدام ضد الاكراد والشيعة وبسعيها لتحقيق الديموقرطية داخل العراق. وهو ما يعني أننا أمام شيوع تبريرات استخدام القوة المسلحة من دولة ضد اخرى, بسبب أحداث داخلية فى الدولة المعتدى عليها – من قِبل أمريكا وروسيا – كما يعنى التوسع فى ظاهره تحقيق الدول الكبرى لنفوذها بالاعتداء العسكرى على الدول الأضعف.

لكن الامر يطرح زاويه اخرى هامة, تتعلق بالفارق بين استخدام القوة الصلبة فى الصراعات, من جهة , واستخدام وسائل القوة الناعمة من جهة اخرى، في ضوء تبادل الأدوار بين الولايات المتحدة وروسيا.

الصلبة.. والناعمة

الغزو والاحتلال والقتل والتدمير، يجري بالقوة الصلبة, هكذا الامر واضح، لكن من قال ان القوة الصلبة هى وحدها من تقتل وتدمر , انما هو مخطئ فى التقدير حيث الغزو والاحتلال والقتل والتدمير يجري وبذات نتائجه، باستخدام القوة الناعمة، حتى يمكن القول أن من تصور يومًا أن القوة الصلبة وحدها هى التى تقتل وتدمر وتبيد وتحتل، ولم يفهم "أن الفتنة اشد من القتل" مات بالقوة الناعمة وبالفتنة ،وهو يصرخ مندهشا مما يجرى له.

وتلك هى اخطر مشكلات الوضع العربي.. السياسي والثقافي والإعلامي، على صعيد النخب والجهود معًا؛ إذا جاز الوصف.

والقوة الصلبة ،هى استخدام للقوة العسكرية والامنية (السلاح) فى الفعل المباشر من دولة ضد دولة اخرى ومن جيش ضد اخر، وفى ذلك يقال ان الحرب هى امتداد للسياسة بوسائل الاكراه والقتل والتدمير، وان السياسة الخارجية هى امتداد للسياسة الداخلية.

أما القوة الناعمة، فهى مجموع الوسائل السياسيبة والديبلوماسية والاقتصادية والقانونية والاعلامية ،التى تستخدمها الدول ضد بعضها البعض لفرض ارادتها على بعضها البعض. أي لتحقيق سياستها الخارجية التى هى امتداد للسياسة الداخلية ايضا .

وهنا يطرح سؤال:

وهل تقتل القوة الناعمة كما تقتل القوة الصلبة ؟

الفهم السائد ،او دعونا نقول :الفهم الذى يروج له ،هو ان القوة الناعمة لا تقتل .

لكن .. القوة الناعمة هى ايضا تقتل ،بل فى بعض الاحيان تكون اخطر من القوة الصلبة، على صعيد القتل والنتائج السياسية والاقتصادية، وعلى صعيد عدم القدرة على مواجهتها، حيث مفاعيلها اكثر خبثا ودهاءا ،واشد وطاة.

نماذج ونماذج

لكن لنر أولاً نماذج من استخدام القوة الصلبة، وأخرى من القوة الناعمة؛ لنوضح الفارق بين الاثنين. في الصراع الروسي الجورجى كان الأمر واضحا من كلا الطرفين  اذ استخدمت جورجيا قوتها المسلحة ضد اوسيتيا الجنوبية , فقامت روسيا باستخدام قوتها المسلحة ضد جورجيا , ليس بهدف رد العدوان فقط انما لاجهاض قوة الجيش الجورجى .

وكذا الأمر كان واضحًا فى تجربة العراق، إذ جرى استخدام القوة الصلبة حلال حربين فى عامى 1991 و2003 . كانت القوات المسلحة الأمريكية (والبريطانية.. إلخ)، خلالهما هي من يقتل ويهاجم ويدمر.

ولكن الأمر مختلف في حالة السودان، التي في فهمها نجد أنفسنا أمام تجربة واضحة لاستخدام القوة الناعمة، إذ جرى استخدام وسائل القوة الناعمة فى تمرير المخططات الامريكية والغربية، دون استخدام للقوة العسكرية من أي جيش غربي، حتى وصلنا إلى حالة إصدار مذكرة باعتقال الرئيس السوداني.

وفى موضوع الصراع العربى الاسلامى ضد الصهاينة فى فلسطين، جرى استخدام القوة الصلبة بصفة مستمرة منذ بداية الصراع وحتى الان فى صورة الاعتداءات العسكرية والمذابح والاغتيالات ،كما جرى استخدام اساليب القوة الناعمة من مفاوضات واساليب ديبلوماسية وحصار اقتصادى ..وغيرها .

وهنا تطرح الحالة الفلسطينية تساؤلاً هامًا هو: هل تستخدم القوة الصلبة دون مفاعيل القوة الناعمة، والعكس بالعكس، أم أن كل وسيلة من تلك الوسائل تستخدم بمعزل عن وسائل الأخرى؟.

واقع الحال، أنه ليس هناك "فصل تعسفى" بين استخدام القوة الصلبة والقوة الناعمة ،اذ كل استخدام للقوة الصلبة تضمن دومًا استخداما لوسائل القوة الناعمة، كما أن كل استخدام للقوة الناعمة ،استند الى التهديد باستخدام القوة العسكرية الصلبة أيضًا، كما هو يشهد انماطا من استخدام القوة العسكرية لكن ليس من البلد المعتدى، وإنما من خلال أطراف غير مباشرة الارتباط بالبلد المعتدي.

كان العدوان على العراق وافغانستان –وكذا الحال فى العدوان الاثيوبى على الصومال – هى النماذج المعاصرة لاستخدام القوة الصلبة ،اذ استخدمت القوات المسلحة الامريكية والبريطانية والاثيوبية فى تحقيق هدف العدوان من احتلال الارض واطاحة السلطة السياسية. وكذا الحال فى النموذج الجورجى.

لكن استخدام القوة الصلبة في كل تلك الحالات، لم يجر أبدًا دون مفاعيل القوة الناعمة ايضا .

فخلال العدوان على العراق وعبر كل مراحله جرى استخدام كل الضغوط السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والمخابراتية كما هو الحال فى استخدام الامم المتحدة، للتضييق والخنق والحصار للعراق وللدول العربية المؤيدة للعراق ،كما جرى استخدام سلاح القروض والاموال مع دول اخرى ،وذلك كله خلال استخدام القوة الصلبة .

وفى المقابل وفى نموذج استخدام القوة الناعمة ،فان السودان الذي يتربع على نموذجها ، والذى يجرى ضده العدوان  منذ سنوات وحتى الان، قد شهد استخدام وسائل القوة الناعمة ،من خلال الضغوط السياسية والدبلوماسية والامم المتحدة والحصار السياسى والديبلوماسى والاقتصادى –حتى وصل الى منع رئاسة رئيس السودان للقمة الافريقية-كاساس لتطويع ارادة السودان والحكم القائم فيه ،لكن ذلك لم يعن ولا يعن ان اساليب القوة الصلبة لم تستخدم، بل الصحيح انها استخدمت بشكل غير مباشر ،او عن طريق وسائل الفتن والحروب والتمردات الداخلية ،التى تصل نتائجها على مستوى القتل الى ما قد لا تصل اليه بعض الحروب المباشرة او باستخدام القوة الصلبة .

وكذلك يمكن القول بان استخدام القوة الناعمة ياتى فى اغلب الاحيان مرتبطا بالتهديد بالحرب، لإجبار الخصم على التجاوب مع ما يعرض عليه باستخدام وسائل الحرب بالقوة الناعمة .

الناعمة.. أخطر

لكن لم نقل ،ان القوة الناعمة على نفس درجة خطورة القوة الصلبة ،وان كانت الابطا ،بل لم نصل حد القول , ان القوة الناعمة ربما تكون الاخطر فى نتائجها ؟

 لناخذ نموذج السودان الذى شهد استخدام القوة الناعمة بأعلى درجات من الاستخدام. لقد جرى قصف الخرطوم عقب عمليتى تفجير سفارتى الولايات المتحدة فى افريقيا، إذ أغارت الطائرات الامريكية على مصنع الشفاء وقت حكم الرئيس الامريكى بيل كلينتون , وكانت تلك اشارة تخويفية بان الولايات  المتحدة جاهزه لاستخدام القوة الصلبة على نطاق واسع، أو كان ذلك اشارة واضحة الى ان الولايات المتحدة يمكن لها ممارسة فعل القوة الصلبة .

ولكن وبعد مجىء الرئيس بوش للحكم ،وضمن خطة الاستيلاء على منابع النفط فى العالم ،جرت عملية ضغط وخنق لنظام حكم الانقاذ فى السودان، سواء عن طريق منع السودان من الحصول على قروض من البنك الدولى او من خلال فرض الحصار على الصادرات والواردات السودانية. كما جرى قطع العلاقات الديبلوماسية مع السودانية – وهى بالمناسبة لم تجر اعادتها حتى الان رغم وجود ممثل ديبلوماسى هو البرتوا فريناند – وكذا جرى تحريك مجلس الامن ضد السودان لتصدر عشرات القرارات خلال 10 سنوات. وخلال ذلك وصل الامر حد التهديد بالاعتداء على السودان صراحة، وفي ذلك كان اللافت أن هذا التهديد لم يصدر فقط من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا؛ إذ شهد تهديد السودان سابقة هى الاولى من نوعها، حيث كان أول من هدد باستخدام القوة الصلبة هو الاتحاد الأوروبي عبر القوة الأوروبية الوليدة التي كانت وقتها قد تشكلت بالكاد، والتي من بعد كان أول نشر لها قرب حدود دارفور في تشاد حاليًا.

وفى ظل تلك الضغوط من وسائل القوة الناعمة ،جرى توقيع اتفاق مع المتمردين فى الجنوب برعاية من الدول التى استخدمت القوة الناعمة –امريكا وبريطانيا خاصة-اقر فيه حق الجنوب فى الانفصال، بما مثل تطورًا يحدث لأول مرة على مدار الحرب التى بدات فى عام 1955 .

وهكذا وقع الاتفاق النهائى عام 2003 ، ليحقق أخطر مفاعيل القوة الناعمة, لكنه في ذات الوقت كان هو ما فتح الطريق أمام الفتنة لتقوم بدورها الأوسع، إذ اندلع تمرد دارفور ،الذى حول صراعا على المرعى الى صراع بسبب العنصر والأصل، ثم جرى تصوير ما يجري على أنه حرب إبادة وتطهير عرقى ،ثم تتالت مفاعيل القوة الناعمة ليطلب محاكمة مسئولين سودانيين امام المحكمة الجنائية الدولية ووصل الامر الى اصدار مذكرة باعتقال رئيس الدولة ومحاكمته .

وهكذا بالقوة الصلبة احتل العراق واعدم رئيسه ويجرى تفكيكه .

وهكذا بالقوة الناعمة جرى اشعال الفتن وتفكيك السودان ..وطلب اعتقال رئيسه ومحاكته.

وفي كلا الحالتين جرت عمليات القتل والحرق والإبادة.

القوة الناعمة: البعد الثقافى

عند نزول قوات الاحتلال لأرض أي بلد – أيًا كانت الدعايات المضللة والكاذبة – سرعان ما تكتشف الألاعيب، وتتولد طاقة مقاومة تجابه العدوان.

لكن مفاعيل القوة الناعمة تجري، دون نزول قوة احتلال بشكل مباشر على أرض البلد، وفي ذلك يسهل استمرار الخداع ,لارتباطه بالقوانين الدولية التى هى جائرة وظالمة، لكنها تحقق الظلم وفق حالة من الشرعية , ولكونه يجرى بالطرق الدبلوماسية المعتمدة على الدهاء وبالطرق الاعلامية وبالأعمال التحتية من خلال الاعيب تظهر نتائجها ولا يعرف من يقوم بها.

لكن السؤال الاهم هو :

لم ننخدع ؟ لم لا نملك مناعة حقيقية فى مواجهة خطط الاعداء والخصوم فى الاعيب القوة الناعمة؟ لم حين يستخدم المعتدى خطة القوة الصلبة نجد من يسمع للدعايات المضللة ويرددها، ولم ينخدع البعض من الكلام المنمق الذى يثير خلال مفاعيل القوة الناعمة الفتنة رغم الادراك بأن الفتنة أشد من القتل؟.

لم لا نملك مناعة حقيقية فى مواجهة خطط الاعداء ايا كانت ؟

هنا , يبدو أن :

الأمر ناتج عن عدم الارتباط بهوية حضارية (عقائدية وفكرية وسياسية ونفسية وثقافية)، تفصل بيننا وخصومنا، تولد في عقولنا مناعة من الاصل، تجعلنا نرفض ما يقال ويدعى تبريرا لافعالهم واعتداءاتهم ،وتمكننا من كشف من يردد افكارهم من داخلنا.

وأننا لم ندرك بعد، ان الاستقلال الحضارى هو الاصل وليس الاستقلال السياسى او الاقتصادى أو العسكري؛ إذ كل أشكال الاستقلال لا تحقق المنعة الا فى اطار الاستقلال الحضارى .

الاستقلال فى الاصل هو الاستقلال الحضارى.. فهو المنعة من الانخداع فى اباطيل الخصوم والاعداء ،وهو اساس البناء المستقل. بناء الامة هو بناء حضارى وليس مجرد تشييد مدارس او مصانع او طرد المحتلين من الاراضى.

وكل بناء لا يستند الى الاستقلال الحضارى ،جاهز للانهيار تحت ضربات القوة الصلبة، للتفكيك تحت ضغوط مفاعيل ووخداع القوة الناعمة .

الاستقلال الحضارى .. هو الأصل فى البناء .. للانسان لا للاشياء المادية .

وحينها لا القوة الصلبه  .. ولا القوة الناعمة , تمكن خصومنا من تحقيق اهدافهم .

لقد عادت روسيا بعد امريكا لاستخدام القوة , أو أصبحنا امام تبادل للادوات وتبدل فى الاستراتيجيات  او تكامل لها , بما يطرح السؤال: كيف نواجه نحن تلك الحالة؟، وهل من بديل أمامنا إلا تحصين الذات، من خلال مفهوم الاستقلال الحضاري؟.