9 ذو الحجه 1429

السؤال

نريد أن نعرف أيهما أفضل في جانب التزكية والتربية الإيمانية أن نشرح كتاب مختصر منهاج القاصدين (أو ما شابهه من الكتب) أم نشرح معاني الأسماء الحسنى و كيفية دعاء العبادة و دعاء المسألة والثناء بكل اسم ؟ مع العلم أن المادة العلمية متوفرة على منهج السلف في كلا الأمرين و الحمد لله

أجاب عنها:
إبراهيم الأزرق

الجواب

الحمد لله وبعد فأسأل الله أن يكتب لكم التوفيق والسداد وأن يثبتني وإياكم على دينه، وأشكر لكم حرصكم على مثل هذه المجالس المباركة التي يحتاجها الشباب ولاسيما في هذا العصر الذي أشغلت فيه الشواغل كثيراً من الناس عن التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فبارك الله فيكم وبارك لكم في مجالسكم.
وأحمد لكم كذلك سؤالكم عن المنهج قبل سلوكه، فكثير من الناس يريد الخير ثم يخطئ طريقه، فيبدد جهوداً لا غنى له عنها.
وأما تزكية النفس فشأن عظيم لا يوفق إليه إلاّ المفلحون، وقد قال تعالى بعد أن أقسم أحد عشر قسماً: (قد أفلح من زكاها) [الشمس: 9]، وقال: (قد أفلح من تزكى) [الأعلى: 14]، والفلاح المذكور أجله الفوز بجنة عدن، كما قال عز وجل في الآية الأخرى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار وذلك جزاء من تزكى) [طه: 76]، فيا له من فلاح! وتزكية النفس اسم جامع يشمل حملها على ما أمر الشرع به ندباً أو إيجاباً في التعامل مع الخلق أو الخالق سبحانه، وكفها عما نهى الشرع عنه تنزيهاً أو تحريماً.
وكثير من كتب التزكية والآداب تهيج إلى ذلك إما بالموعظة والترهيب، أو ذكر الأسرار والحكم مع التعليم، أو الترغيب، ويتضمن ذلك علاج الصفات السلبية في النفوس البشرية التي تخرجها عن حد الشرع إن أطلق المرء لنفسه العنان، والكتاب المشار إليه من هذا القبيل، ونحوه تهذيب القاسمي للإحياء المسمى موعظة المؤمنين، وأجل منهما بل من أصلهما مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله، وإن كان كل من الكتابين قد سلك صاحبه مسلكاً مختلفاً، فصاحب الإحياء قسمه إلى أرباع تشتمل على علوم الدين وأموره، وصاحب المنازل وتبعه صاحب المدارج قسم رُتَب السائرين إلى منازل، فهذا يُعنى بالمرتبة وتحقيقها ليترقى بعدها إلى مرتبة أعلى منها أو متممة لها، وذلك يهيج إلى التزام العبادات ومحاسن العادات ويعرف ويحذر المهلكات، ويبين المنجيات، وكأن مقصود صاحب الإحياء تزكية النفس جملة بإرشادها وتهييجها فمن مقل ومستكثر في إحياء نفسه، بينما مقصود صاحب المنازل والمدارج بيان طريق الترقي في تزكية النفس من أدنى المنازل إلى أعلاها، وللمدارج أكثر من تهذيب واختصار من أشهرها التهذيب المطبوع باسم الشيخ عبدالمنعم صالح العلي العزي، وفي هذه الكتب خير كثير، والاجتماع على قراءة تهذيب المدارج قد يكون أنفع فيما قصدتم إليه من التزكية، وثمة رسالة جامعة تصلح أن تكون متناً لأهل السنة في التزكية أو علم الأخلاق والسلوك وهي الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، أفردها غير واحد في رسالة محققة، وهي في الجزء العاشر من مجموع ابن قاسم؛ سؤال أبي القاسم المغربي، وجدير بالمربيين شرحها والوقوف معها، غير أن تهذيب النفس لا يقف عند هذه الكتب، بل يتجاوزها إلى قراءة كتب العلم بغرض الاستفادة والعمل، فالعلم والعمل بموجَبِه فرقان بين من يجهد في تزكية نفسه التزكية الشرعية، وبين غيره، ومن أجل العلم العلم بالله تعالى؛ معرفة أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العليا، والعمل بمقتضى العلم بها.
وليس شيء أنفع للمرء في هذا الشأن من تدبر كتاب الله تعالى، فمن تدبره فتح به أقفال قلبه، ووجد أثره على سائر بدنه، (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر من جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) [الزمر: 23]، وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) [الأنفال: 2]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتَتِلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد القدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه، فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها، فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل، في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقاً، والباطل باطلاً، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً؛ فيصير في شأن والناس في شأن آخر! فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وماله من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقهم وحقوق مرسلهم، وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم من حين يستقر في رحم أمه، إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد ولا تنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح، وتفصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه، وعلى تفاصيل الأمر والنهي والشرع والقدر والحلال والحرام والمواعظ والعبر والقصص والأمثال والأسباب والحكم والمبادئ والغايات في خلقه وأمره، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل، فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل! وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل!
وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه: أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد، وبالجملة: فهو أعظم الكنوز، طِلِّسْمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه..." إلخ ما ذكر رحمه الله.
غير أن هذا لا يعني إغفال ما أشرتم إليه من كتب ومجالس، ولكن لابد أن يكون معها لكل واحد منكم نصيب من تدبر كتاب الله، ومن أكثر منه فالله أكثر.
أسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يوفقنا لتزكية نفوسنا بالعلم النافع، والعمل الصالح، إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.