بناء الجدران أم بناء الإنسان ؟!
15 ذو الحجه 1429
يحيى البوليني
لن يكون عسيرا أن نتفهم أن هناك ظروفا تجبر الأب في بعض البلدان على السفر لخارج بلده أو داخلها وترك أسرته سعيا وراء زيادة رزقه وتأمين مستقبل أبنائه وبالمثل لن نتهم الأم بالإهمال إن اضطرت الأم أيضا إلى الخروج للعمل والاقتطاع من الوقت الممنوح لأبنائها ولن نتهمهما في ذات الوقت بالجشع أو الطمع أو حب اكتناز المال
 
ولكننا في ذات الوقت لابد وأن ننتبه وننبه أن هناك ثمنا يدفع من جميع أفراد الأسرة مقابل الحصول على ذلك المال أو نيل تلك الفرصة وغالبا ما يكون ناتج تلك السنين بعد احتساب العائد المادي المتحقق من السفر والثمن المعنوي الذي تدفعه الأسرة كلها غالبا ما يصب في جانب الخسارة لا الربح , بل ربما إن ما يتم خسارته لا تعوضه كنوز الأرض
 
فالزوجة التي تجد راحتها وسعادتها في كنف زوجها وترى أنه حصنها النفسي وداعمها القوي لابد وأن تتأثر بغيابه فتجد نفسها في مهب الريح فهي كزوجة لا تجد زوجها الذي تحتاجه لتلقي على كاهله ما يؤلمها فيسمع لشكواها ويخفف ألمها وتحتاجه لإشباعها النفسي في زمن كثرت فيه الفتن
 
وتصبح الزوجة قائدة لسفينة الأسرة بمفردها بما لم تعتده من قبل وعليها أن تقوم بدورها كأم بكل ما تحمله الأمومة من مهام مرهقة وشاقة وفي ذات الوقت تقوم بدور الأب وتمارس مهامه وواجباته
 
وتتنازعها المشاعر الإنسانية وتضطرب داخلها الوظائف فتضطر لأن تمزج لين الأم وحنانها بشدة الأب وحزمه وعليها أيضا أن تواجه العالم الخارجي وتحاول التغلب على المشكلات التي تتعلق بالأسرة من تعاملات وعلاقات وإنهاء متعلقات وهي التي من المفترض أن يقوم بها الزوج حال وجوده فيشتد الأمر عليها وتتحمل من الأمر مالا تطيق مما يعرضها دوما لاختلال وظائفها فلا هي بالتي تستطيع الاحتفاظ بوظيفتها كأم ولا تؤديها حق تأديتها ولا تستطيع القيام بدور الأب لعدم تكيفها على ذلك
 
ففي عدة دراسات حديثة أظهرت أن زوجات الموظفين ورجال الأعمال الذين يسافرون كثيرا أكثر عرضه للإصابة بمشكلات نفسيه وعقليه بحوالي ثلاث مرات من زوجات الموظفين الذين لا يسافرون مما يؤكد ذلكم الأثر السيئ لغياب الزوج عن زوجته
 
ولا أنكر أن هناك زوجات فاضلات اضطررن إلى أداء الدورين معا قدرا وحتما بموت الزوج أو بغيابه القسري كسجن أو انفصال بين الزوجين ولكننا في الوقت ذاته لن ننكر معونة الله لهن عند وقوع ذلك القدر, لكن الحديث يختلف تماما عندما نتحدث عن سفر الزوج لزيادة الدخل والتأثير السيئ لغيابه عن أسرته على زوجته فالزوج في هذه الحالة حي وموجود ومتصل ولكنه يعهد ببعض مهامه إلى زوجته رغبة وليس حتما وقدرا فالمعونة على قدر البلاء
 
أما التأثير الأكبر والأعظم خطرا يقع على الشريك الأكبر في دفع ثمن الغربة ألا وهم الأبناء الذين يدفعون ثمن قرار لم يشتركوا في أخذه حتى وإن تمت مشاورتهم فستكون صورية فقط لا حقيقية لعدم اكتمال عقلهم ولتزيين الأب والأم لهم ما انتهيا من تقريره
 
فالطفل يحتاج للتوازن التربوي الذي كفله الله باختلاف فطري بين مواصفات الرجل والمرأة لأنهما جناحان يطير بهما الطفل ويحلق بعيدا عن الأمراض النفسية والخلقية ويصعب أن يطير بجناح واحد فيتخبط مشوها
 
والطفل يحتاج إلى الأب كداعم نفسي يشعره بالأمان والطمأنينة فيقول الدكتور أحمد السيد محمد إسماعيل في كتابه مشكلات الطفل السلوكية : إن علاقات الحب القوية المبكرة مع الأب لها تأثير كبير في التنشئة المثالية، وإنه رغم التدخلالبسيط من الأب في شئون الطفل اليومية فإنه يلعب دورًا كبيرًا في نمو وتطور الطفل،ومجرد شعور الطفل بوجود الأب بجانبه له دور خطير في تشكيل سلوك الابن واستقراره النفسي ولهذا تشير نتائج أحدث الدراسات التربوية بالولايات المتحدة الأمريكية إلى مدى تأثير الحالة الاجتماعية وحضور الآباء الفعال على تقدم الأطفال في مراحل التعليم المختلفة بداية من فترة الحضانة الأولى، فالأطفال الذين ينحدرون من عائلات طبيعية بين أب وأم وجد أنهم يتمتعون بقدرات أفضل فيما يتعلق بالقراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية من أقرانهم الذين ترعرعوا في كنف عائلات بدون أب حيث تتحمل الأم هنا كافة الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية
 
وهناك وهم يسيطر على المغتربين وزوجاتهم دائما ألا وهو أن هذا العام هو العام الأخير في الاغتراب , فالاغتراب له مرارته وله ثمنه
 ومايلبث يعود الأب إلى موطنه ويستريح في إجازته حتى يعاوده الحنين للسفر مرة أخرى وينسى آلام السفر ومتاعبه ومشكلاته ولا يتذكر إلا المال الذي جمعه ويلح عليه هاجس السفر من جديد ..
 وههنا ربما تساعده في ذلك زوجته وربما أبناؤه الذين اعتادوا على ما يأتيهم به من مال إذ إن مكثه في بلده لن يحقق له ذلك .
وربما بطول الوقت يمله أولاده وتمله زوجته لانقطاع جسور المحبة بينهما حتى تصير العلاقة بين الأب وأبنائه علاقة مادية بحتة ليس فيها دفء المشاعر ولا تبادل الأحاسيس ولا يخرج منها إلا لغة الأرقام .
 وهكذا يجد الزوج نفسه منبوذا من أبنائه وزوجته والكل يدفعه للسفر للتخلص من ثقل وجوده الذي ما اعتادوه ولا يريدون أن يتحملوا تدخلاته في حياتهم
 
 
يتعرض الأطفال بسبب غياب الآباء وسفرهم سفرا طويلا لأزمات وأضرار نفسية متتابعة فلا يكاد الطفل يتذكر ملامح والده إلا من الصور أو من الكاميرات الرقمية على الإنترنت فلا يشعر به أبا بل هو كائن هلامي يظهر في سماء بيتهم شهرا في كل عام أو عامين يأتي ومعه الهدايا ويذهب ليأتي بالمزيد وتظهر المشكلات النفسية للأطفال على شكل اضطرابات في حياة الطفل وتكون أكثر وضوحا في مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب الطفل بين الحين والآخر وخاصة أثناء النوم أو على هيئات عدة مثل قضم الأظافر - تبول لا إرادي -  عدم التركيز- كثرة النسيان- الميل للعزلة وغيرها أو على شكل تغير مفاجئ في السلوك لم يكن معروفًا قبل سفر الأب وكثيرا ما تكون هذه الأعراض النفسية والسلوكية بمنزلة رسالة لا شعورية موجهة للأب يطالبه فيها الابن بالعودة فما نخسره سويا يا أبي لا يعوضه ما تأتينا به
 
إن سفر الأب الطويل وابتعاده عن أسرته جريمة في حق الأسرة مهما كانت أسبابه التي تريد أن تلبس ثوب المنطقية والتعقل فالأسرة ليست فندقا لتناول الطعام والمبيت , فالأسرة صلة وعلاقة ربانية أقام دعائمها ووثق علاقاتها وضبط معاملاتها الشرع الإسلامي الحنيف وجعل هدفها بناء الإنسان لا بناء الجدران فما أسرع انهيار الجدران إن لم يكن هناك بناء للإنسان وتربية شخصيته وضبط أفكاره ومعتقداته
 
ويجب أن ننبه على نصائح لابد وأن يسعى الأب لتحقيقها عند سفره
-         ينبغي أن يفكر الأب جديا في عدم انفصاله عن أسرته سواء بالبقاء معهم في بلده أو باصطحابهم معه في سفره
-   ينبغي أن يتخذ قرارا حاسما بإنهاء فترة سفره وغيابه عن أسرته في وقت محدد لا يتجاوزه تحت أي مبرر كان بعد أن يضع مطلبا ثابتا كأداء دين أو شراء أصل ثابت وليعد بعدها إلى أسرته
-         ينبغي أن يكون السفر آخر الحلول لأن ابتعاده عن أسرته سيسبب كثيرا من المشكلات التي لن تعالج بالمال المكتسب
-   ينبغي إن كان هناك سبب اضطراري للسفر أن يكون السفر في بدايات الزواج أو عند صغر الأبناء ولا يسمح به إطلاقا إذا كان الأبناء في سن تحتاج وجود الأب وعندئذ لابد أن يترك الأسرة تحت رعاية أحد المحارم الموثوقين الأمناء والقادرين على الحزم والتوجيه , وينبغي عندئذ أن لا يطيل فترة السفر بأن يعود إلى أسرته في أوقات متقاربة حتى ولو كلفه بعض المال كي لا تنقطع الصلات بينه وبين أسرته , كما لابد وأن يتواصل الأب مع أسرته بالسؤال الدائم عن كل صغير وكبير والآن الأمر ميسور بفضل الله عن طريق شبكة الإنترنت التي يتواصل فيها الرجل مع أسرته ويجب أن تساعد الأم في ذلك بان تطلع الأب على كل كبير وصغير وتشركه في كل صغير وكبير لأن الضرر الناتج عن إخفاء الأمور عن الأب أكبر بكثير من الألم الناتج عن عدم علمه به
-   يجب أن يخطط ويجعل هدفا له أن يفكر لنفسه عن عمل مرض له في بلده ويسعى إليه ويطيل التفكير فيه ويجتهد له ولا ينسى هذا الأمر وهو يعمل في غربته
وأسال الله أن يجمع شمل تلك الأسر المشتتة وأن تكون أسرنا نافعة لنفسها ولمجتمعها وأن يخرج منها من يرفعون شان أمتنا