سباحة عكس التيار
27 ذو الحجه 1429
هيثم الكناني
هو مشهد غريب؛ نرى أحياناً في بعض المدن الكبرى سيلاً هائلاً من البشر الذين يتحركون حركة حثيثة في اتجاه واحد، ثم نلمح وسط الجموع رجلاً هنا ورجلاً هنا وآخر هناك يسيرون عكس التيار!
 
ترى أي عنت ومشقة تقابل مثل هؤلاء الرجال وهم يشقون طريقهم وسط هذه الجموع؟
قد ينظر بعضهم إليهم شزراً أن خرجوا عن المألوف، قد يصدمهم هذا، وقد يدفعهم ذاك، لكن شيئاً لا يثنيهم عن مواصلة طريقهم، وكثرة المعاكسين لا تضعف عزائمهم إذ قد حدد كل واحد منهم هدفه وعرف طريقه.
 
 وفي زماننا الذي كثرت فيه الفتن والخطوب، وعز الناصر والمعين، يجد المؤمن نفسه وحيداً فريداً في مواجهة سيل جارف من الشبهات والشهوات التي تتناوشه من كل جانب؛ لتوقف سيره إلى الله، أو تعرقله، أو تجرفه في طريقها إلى الهاوية، ويجد حاله مع كثير ممن حوله كحال أولئك الرجال تماماً، يسير عكس التيار، فهل تراه يكون أقل شأناً منهم فيتراجع وينساق مع الجموع؟
 
إن النفس بطبعها تأنس بالموافق وتركن إليه، ويزداد أنسها وتطمئن إن كان الموافق هو الأكثر والغالب، وهي بطبعها كذلك تتطلع إلى الشهوات وتميل إليها، والمؤمن إذ يسير عكس التيار يخالف أول ما يخالف نفسه التي بين جنبيه في كل ما تركن إليه وتأنس به، لكن مما يهون عليها الخطوب، ويؤنس وحشتها خلال الطريق، أن يُذَكِّرها ويُعَلِّلَها، كما تعلل الأم طفلها الرضيع؛ "إنما هي أيام قلائل" ثم "غداً نلقى الأحبة، محمداًَ وصحبه"!
 
ولئن كانت نفسه تستوحش من قلة الناصر والمعين فليُذَكِّرها {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة: 14].
 
أو كانت تحن إلى كثرة تأوي إليها وتأنس بها فليُذَكِّرها {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]،{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]،{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]،{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70]،{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 71].
فمن أي قلة تستوحش وبأي كثرة تستأنس!
 
ولئن كان أهل الإسلام اليوم بين أهل الكفر قليل، فإن المتمسكين بدينهم في الأمة كذلك قليل من قليل، والمتمسكين بالدين الصافي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قليل من قليل من قليل؛ هم النُّزَّاع من القبائل، وهم الذين يَصلحون إذا فسد الناس، وهم الذي يُحيون ما أمات الناس من السنة.
 
فيا أيها السابح عكس التيار!
إن اعتصرت الآلام قلبك أو أحرق الجمر يدك، أو أصابك من السائرين عكسك ما أصابك، فإياك أن تتراجع أو تلقي الجمر!
 
فعما قليل يخف زحام المخالفين وتنطلق وحدك، ثم لن تلبث ويلبثوا إلا قليلاً، حتى يقف الجميع في موقف أشد زحاماً كلهم يطلب جهة واحدة، فإن كان ذا فقد حان وقت عرسك: "فطوبى للغرباء"