أيا حجر..تحتك أشلاء الأحبة
14 صفر 1430
صفية الودغيري
كلنا حملنا في قلوبنا غزة ، وجعا لا يخف ولا يهدأ ، و جراحا نزيفها لا يفتر.. حياتنا تغير طعمها فصار علقما ، وتعكر صفوها فصار قاتما أسود ..
 كلنا صرنا نعيش مشاهد القتل والدمار ، كلنا صرنا تحت الحصار ,ثورة النفس تشتد وعيوننا تنوح ، تبوح بأدمع شلالها لا ينضب .
قلوبنا احترقت في صمت , وأصواتنا تعلو ، تصرخ من الوجع ، والدم ، والأشلاء .. ترج أرجاء الأرض بصوت الرعد ، وقصف الصواريخ.. ، عساها تهزم ذاك الضعف والانكسار الساكن فينا.. في الحلق لهيب نار  كلما أوشك أن ينطفئ ، اندلع بركانا يغلي غصصا من المرارة ..
بيوتنا صارت تشتكي لواعج الوحشة والغربة ، فلا يدفعها جمال هندسة العمارة ، ولا زخرف  الأثاث ، لأنه  ينقصها رونق الإحساس بالأمان..إنها أشبه بأطلال لم تخلف إلا آثار معالم باهتة ، وأجسادا  أنهكها تعب المشاهد المؤلمة والمتكررة , بيوتنا تحمل شوقا وأملا ينتظر صبحا ، شمسه تشرق دفئا  ، فتنشط من جديد دورة الحياة .
بيوتنا تحمل بداخلها أجسادا عليلة ، تلهت في صحاري عطشى ، وكلها أمل في غيث يطفئ جمار الآلمفي الماضي كنا إذا ما طرقنا أبواب بيوت استوطنها الوجع ، أو صافحنا وجوها علاها الحزن والألم ، تثور بداخلنا أشجان ثم ما تلبث أن تتلاشى وتنتهي , لكننا اليوم ونحن نحمل في قلوبنا غزة ، صوتنا الذي لا يخمد ، لا نجد أبوابا حتى نطرقها ، فكلها تساقطت ، ولا أسوار وحيطان نستظل بها فقد خربت ، ولا بيوتا نلجها فقد انهارت .
 ليس إلا أكوام الحجارة ، توشك أن تبلغ عنان السماء ، تتعالى في شموخ الجبال ، وتحتها تسكن الأشلاء ، تفوح بمسك يعطر الأجواء ، فتتوه معها الأنفاس ، وشلال الدماء العارم ينزل ثرثارا ، ودخان الدمار يلون زرقة السماء بوشاح السواد ،  وليل لا ينجلي من معاناة رهيبة ..
إننا لا نملك أن نحدد معالم الصورة ، أو نبرة الأصوات ، أو نرسم بالريشة ألوان الحقيقة..  إننا نعيش إحساسا فريدا ، يحمل وجعا بلغ من الجهد أقصى مداه ..
لقد بلغ السيل الزبى ، وتجاوز كل الخطوط ، وتعدى كل التصورات ، حتى الخيال والأسطورة ، واخترق كل القوانين والمبادئ والقيم ، وأحرق كل الأوراق ، وتمرد على كل شيء حتى العقل والمنطق والعاطفة ..
إننا نعيش تجربة جديدة ، أعظم وأقوى منا .. إنه طوفان يغرقنا ، وإعصار شديد يهزنا من صميم  ، وزوبعة تقتلعنا من الجذور ، فتتوقف خلالها كل الأحاسيس وتتجمد ، حتى حركة الجوارح ، ولا يظل فينا إلا صوت نبض القلب يعلن عن استمرار دورة الحياة ..
لقد فكرت كثيرا قبل أن أحمل قلمي ، وأخط بحبره هذي الكلمات ، حينها هبت علي عواصف من الأسئلة :
ماذا ستقولين للناس وللعالم من حولك ؟
ماذا ستقدمين لهم أصدق من نبض الصورة على أرض غزة  تتحرك ، تصرخ ، تستغيث أمامهم يوميا ، وعلى مرأى منهم ومسمع ،  تنقلها إليهم وسائل الإعلام المتعددة والمختلفة ..؟
لقد ارتجف قلمي بين أناملي مرارا عاجزا أن يخط أي كلمات ، وتوقف عن الكتابة ، سألته ورجوته أن يسعفني ، ويعبر عما يخالج نفسي من ثورة ألم ، ويوصل ما بداخلي وما بداخل الكثيرين ممن يألمون كما يألم أهل غزة ..لكنه أجابني وهو يتلعثم خجولا على غير عادته :  ماذا سأخط بحبر السواد ؟ ومن اين أبدأ .. وأين مرفئي ومرساي..؟
فحبري اليوم جف .. وقاموس الكلمات ضاع .. وترجمة اللغات فقدت .. والتعبير خان ..والمشاعر سلبت ..فكيف لي أن أعبر ورسم المشهد يتكلم ، يصرخ ، يستغيث ، يمتد يشق كبد السماء ؟ كيف لي أن أعبر عن وجع أمة : أطفالا وشبابا ورجالا ونساء ، وويلات القتل والدمار؟كيف لي أن أصور مذبحة الإنسان ، وإبادة الحضارة  ، وأحلام الأطفال الجميلة والبريئة ؟وكيف لي أن أكتب.. وكيف لي أن أكتب ..وكيف لي أن أكتب ..؟؟حينها أدركت أن قلوبنا ليست وحدها من تحمل غزة ، بل كلنا صرنا نحملها حتى أقلامنا صارت تشتكي ، تحمل نزيف الجمل ، ونحيب الكلمات ، وصرخة الحروف ،  وشجن أوجاع تتضاعف ، لكنها تأبى أن تخرس  ، أو تنهزم ، أو تنكسر ..أقلامنا حرة أبية ،  تناضل في صمود رغم شدة الإعصار ، وحرب الدمار ، ورفات الأشلاء ، ورائحة الموت تخنق الأنفاس ..ستطبع على صفحات التاريخ  قصص البطولة ،  وستحكي للأجيال القادمة كيف يكون الفداء ..أقلامنا ستتكلم من تحت ركام الحجر المتساقط ، والمساكن المتصدعة ، والبيوت المنهارة ، حبرها دماء الشهداء ..أقلامنا ستسجل شهادات هؤلاء ، ممن خرست أصواتهم تحت ردم البناء ، واختنقت أنفاسهم وهي تأبى الإستسلام..أقلامنا ستوصل صرخات هؤلاء ، وإن دست تحت التراب .. ووئدت وهي تحمل روح الحياة.. سترسم البسمة مشرقة على وجهها ، وتزف لمن سيولد أمل النصر ..أقلامنا ستعبر الحدود ، ستكسر الأغلال ، ستفك القيود ، ستتعدى الأسوار ، ستخترق البيوت والخيم بعد الدمار ، وستصل لكل القلوب وتحركها لأنها تحمل قضية أمةأقلامنا قوية بما تحمله من حق ، يتغلغل في الصدور ، فتنفك له الأقفال ، وتعلو له الأصوات كلنا أبناء غزة ، كلنا أبناء الأرض الأوفياء الشرفاء ..أقلامنا ستقف فوق كوم الحجارة ، تغرس فيها كلمات ، وتحفر من جديد طريقا للبناء ، ستصدع بالحق معلنة أننا أمة التمكين والنصر، أمة العزة والكرامة ، سلاحنا أقوى من أي سلاح دمار ،  إننا أمة ابتعتنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة إن غزة اليوم تنتظر منا أن نمد إليها أيدينا ، ونمنحها الثقة أننا معا نملك أن نتحدى كل شيء ،  ونسقي نباتها بعطر الحياة الطيبة ، فتتفتح الزهور في رياضها ، وتُسَر النفوس لمحاسنها، تميل وجدا ، كأغصان تداعبها نسائم الربيع..إنها تتشوق  لمن يروي ظمأ قلوب عطشى هدها جرح الألم ،  وأنهكها طول انتظار بلا أمل ..فلا معنى لحياة فيها غزة تعاني ، ونحن نحمل في صدورنا قلبا أنانيا تجمد في عروقه الدماء ، وتوقف في مجراه الإحساس ..لا معنى لحياة فيها أهالي هم أهالينا من أمتنا  تستغيث ، تصرخ ، تموت ....فمتى نحمل أقلامنا ولا يعشش فينا الاستسلام ؟