عشر صور لهزيمة "إسرائيل"
22 محرم 1430
أمير سعيد

"وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا"، صدق الله العظيم..

 

 

مخطئ أولمرت حين أعلن أنه قد أوقف إطلاق النار بعد الاتفاق على تفاهمات مع أطراف دولية وإقليمية تضمن إضعاف حركة حماس؛ فالحرب التي دارت رحاها في غزة لم تكن إلا الحل الأخير، ودواء الكي الذي تناولته "إسرائيل" من أجل إضعاف أو إلغاء حماس بعدما أخفق محور عباس ـ دحلان في تنفيذ هذا الهدف "الإسرائيلي" عبر جملة آليات العرقلة المحلية والإقليمية لمسيرة حماس بدون إراقة دماء صهيونية.. لا يوجد في جعبة الصهاينة اليوم شيئاً لإخراجه، بعد حرب ضروس شنوها بكل شراسة على الفلسطينيين، والقيام بأكبر عملية عسكرية عرفها القطاع متناسبة مع قوة المقاومة التي بلغت حد إدارة معركة عسكرية متكاملة الأبعاد..

 

نحن هنا لا نكتب لندغدغ المشاعر، لكن لنؤكد الحقائق التي ما فتئت تحاول "إسرائيل" إخفاءها في حربها التي أصيبت خلالها بالارتباك الشديد بما دعاها لأن تبدل أحصنتها ويتقاذف ساستها وعسكريوها كرة المسؤولية الملتهبة في أوج المعركة وأعنف لحظاتها، بما لم يجافِ واقعاً ظلت المقاومة تشدد عليه، وعليه تقسم، وهو أن "إسرائيل" قد مضت نحو حتفها إذ جرها كبريائها المزعوم إلى مقاتلة المقاومة في وقت لم يكن فيه العدو الصهيوني في أقوى حالاته، وكانت فيه المقاومة في أقوى حالاتها على الإطلاق.

 

نعم، لقد كان للمقاومة الفلسطينية إبان نضال فتح في خارج حدود سايكس بيكو لفلسطين قواتٍ نظامية تدعمها قوى عربية، لكنها أبداً، لم تكن تملك هذه القوة وهي تقاتل ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية كجيش نظامي أو هكذا تبدت أمام قوة صهيونية لا تمثل حجماً محدوداً من الجيش الصهيوني بما يشبه حملات الشرطة التأديبية، بل بمعظم القوة الضاربة في جيش العدوان معززاً بقوات جوية تقوم بطلعات جوية مرهقة له ومستنزفة لقواه العسكرية، بما استدعى تدخلاً إنقاذياً من الولايات المتحدة لتعزيز هذه القوة شابه إلى حد ما الجسر الجوي الذي اضطر إليه الكيان الغاصب إبان حرب أكتوبر مع أعظم قوة عربية نظامية (الجيش المصري ـ إلى جانب الجيش السوري وبضعة مشاركات عربية رمزية).

 

انتصرت المقاومة ولم تكن الأنظمة العربية في صفها إلا كلاماً، وانتصرت المقاومة وهي تخوض حرباً لا أخلاق لها ولا حدود من جانب الغاصبين، وتعددت معها صور الهزيمة الصهيونية؛ فكانت كما يلي:

 

أولا: تدني سقف الأهداف الصهيونية وتبدلها خلال المعركة، وهذا مع علمنا أن "إسرائيل" ليست من النوع الذي يتعاطى الخطاب الحنجوري بل تتهيأ بالفعل لإنجاز الأهداف المعلنة، والتي كانت قبل المعركة لها عنوان واحد، هو "سحق حركة حماس" و"إعادة سلطة عباس إلى القطاع"، لكن الهدف ذاته انسحق إلى "منع حماس من إطلاق الصواريخ على البلدات اليهودية نهائياً"، ثم تراجع إلى "الحد من قدرة حماس على إطلاق الصواريخ"، ثم آل الحديث في النهاية إلى تصريح باراك المبهم عن أن "إسرائيل حققت غالبية أهدافها من الحرب إن لم يكن كلها" ثم أتبعه أولمرت بخطاب الهزيمة الرسمي/وقف إطلاق النار من جانب واحد.

 

ثانياً: تغير المواقف العربية من حركة حماس من الضغوط عليها إلى تبني مطالبها وإلقاء التبعة جميعها على الكيان الصهيوني، وإن كان هذا الحديث سابق لأوانه إلا أن ما يلمح في هذا الصدد مواقف باتت لا يصلح معها التراجع بصورة كبيرة، لاسيما تلك التي اتخذت إجراءات حيال "إسرائيل"، والموقف الأظهر في ذلك، هو ما بدا جلياً في عبارات وزير الخارجية المصري الذي ساعده الوضع الميداني في التحول من إدانة حماس في أول تصريح له في أول الحرب إلى اعتبار أن "التعنّت الإسرائيلي هو العقبة الأساسية" وإلى وصف "إسرائيل" بأنها "شربت من خمر القوة والعنف"، وهو أعنف تصريح يصدر عن وزير لا يمكن تصنيفه إلا في خانة "الحمائم" في تعاطيه مع الشأن الصهيوني. وتجدر الإشارة إلى أن مطالب حماس هي فتح المعابر والانسحاب الصهيوني وفك الحصار، هو عينه ما أضحى المطلب العربي الآن بالإجماع، وهو ذاته ما تبناه "محور الاعتدال" العربي فضلاً عن غيره.

 

ثالثاً: الارتباك الدبلوماسي والسياسي الصهيوني، والذي حدا بوزيرة الخارجية الصهيونية إلى اتخاذ غطاء سياسي أقل ما يوصف به أنه أخرق حينما طارت إلى العاصمة الأمريكية لتلتقي بالراحلة عن الإدارة الأمريكية بعد يومين اثنين كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية لمنحها اتفاقاً مضحكاً لم يؤثر إلا سلباً في الأحداث عندما وجه ضربة غير موفقة للدبلوماسية المصرية، الأمل الوحيد للصهاينة كوسيط يمكن أن يجسر المسافة إلى هدنة من جانب حماس في تلك المرحلة. ومن قبل كان تحمل الثلاثة، أولمرت/باراك/ليفني لمسؤولية الحرب عنواناً أولياً للهزيمة التي لا يريد كل منهم أن يتحملها بمفرده.

 

رابعاً: القصف الأهوج في الأيام الأخيرة التي سبقت إعلان الهزيمة، وهو أمر كان متفهماً من طريقين، الأول أن "إسرائيل" بدت فيه ماضية نحو محاولة حرق الزمن والقطاع ما لتحقيق مكاسب اللحظة الأخيرة، وهو أمر مشهود في كل حالة تسبق وقف إطلاق النار في العالم، حيث يتبارى الطرفان في الساعات الأخيرة في تعزيز أوضاعهما التفاوضية، لكن "إسرائيل" ظهرت عاجزة على تعزيز ذلك على الصعيد العسكري، حيث أخفقت في التقدم على الأرض، وتجللت بالهزيمة حين ردت على أعقابها في غير ما محور وهي تلملم جيفها من أرض المعركة، حتى تلك التي حاولت فيها أن تظهر نصراً ميدانياً، وهو تل الهوى (وهو حي راقِ حديث لم يجاوز بناؤه 15 عاماً، وطرقه واسعة، وكان من الممكن أن يوفر للكيان الصهيوني نوعاً من الاختراق لاعتباره خاصرة رخوة بنيوياً)، أخفقت فيه أيضاً ووقعت في شراك المقاومة ما أجبرها على الانسحاب منه وقصفه بشكل عشوائي عبيط. كل ذلك إنما يعني أن القصف لم يكن يعني إلا إرهاصاً للهزيمة.

أما الثاني؛ فهو أنه قد أعقب سلسلة من الشراك والمكامن والفخاخ التي وقعت فيها القوات الغازية وتكبدت فيها خسائر فادحة ما بان في أعقابه أن القصف إنما قد جاء تعبيراً عن هزيمة ميدانية موجعة.

 

خامساً: وهو وإن كان لاحقاً بما تقدم إلا أنه واحدة من أكبر تجليات المقاومة التي تستأهل إفراداً لها، وهو ما يمكن أن يعبر عن الهزيمة في أوضح معالمها المرئية، إذ إن قصم ظهر الصهاينة حقيقة قد جاء على يد مقاوم عززته أيدٍ رفعت لله العلي القدير بأن يسدد رميه فوقعت ضربته الصاروخية في مصنع للبتروكيماويات بمدينة أسدود ناسفاً كل الدعاوى عن عبثية الصواريخ، ورافعاً مؤشر الانزعاج العسكري والسياسي والهلع "الشعبي" الصهيوني إلى أقصى درجات المؤشر، حيث لم تتمكن أجهزة الرقابة العسكرية المحكمة في إخفاء النيران المشتعلة بشكل لم يسبق له مثيل في المدينة منذ أنشئت وضارباً بكل قواعد اللعبة عرض الحائط.. نود أن نقول هنا، تذكيراً، أن نصر الله زعيم "حزب الله" اللبناني قد أكد على أن قواته لم ترد إصابة مصنع للبتروكيماويات في حيفا حرصاً على عدم توسيع نطاق الحرب في جانب "المدنيين"، وهو ما يعني أن تفاهماً معيناً ربما يحكم الصراع، وقد أمكن السيطرة على أهداف الصواريخ إبان حرب 2006، لكن حركة حماس لا تلتزم بمثل هذه التفاهمات، وإن افترض أنها تلتزم جدلاً، فلا تسعفها بدائية الصواريخ، وحيث يقول أعداؤها إنها "عبثية" فلتكن كذلك ولتكن خبط عشواء، وهو ما قد كان فأنارت ليل أسدود لهيباً. ولم يطق الصهاينة مزيداً من الوقت لتكرار مثل هذه الضربة، فضلاً عن أن أحد لم ولن يتحدث عن أثر تلك الصواريخ على القواعد العسكرية الجوية وغيرها التي سقطت فيها وما الذي أحدثته في عقر دار العسكرية الصهيونية لأول مرة.

 

سادساً: الفشل الأكبر في استهداف قادة حماس، وهو ما كان هدفاً معلناً حتى قبل بدء المعركة بأيام، وهو وإن نجح في حالتي الشيخين نزار ريان وسعيد صيام رحمهما الله تعالى؛ فإن ذلك لا يمثل إلا استثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها، بدليل أن الأول استشهد وهو غير مستخفٍ، وبالتالي فلا انتصار بالمرة للاستخبارات الصهيونية ولا السلاح الجوي الذي نفذ الجريمة؛ فيما لم يبق من جسم حماس السياسي والعسكري إلا الشيخ صيام قد تم اغتياله، وهو هدف واحد (مع تقديرنا الكامل لشخصه ولكون الرجل ليس رقماً واحداً في المعادلة) من جملة قادة كثيرين كان اغتيالهم هدفاً معلناً للحرب، وكان يمكن تنفيذه دون تلطيخ وجه العسكرية الصهيونية في الوحل هكذا. وإذا ما عدنا إلى الوراء تبين لنا أن "إسرائيل" تتراجع في هذا الخصوص ـ والحمد لله ـ وأنها لم تعد تملك هذا الجيش من العملاء في غزة الذين كانوا يرشدون العدو لمكامن ضعف الأسيجة الأمنية المضروبة حول قادة حماس السياسيين والعسكريين، ما وشى بأن "إسرائيل" قد أضحت عاجزة حتى عن استخدام سلاح الخسة هذا على نحو واسع، مثلما كانت تفعل من قبل في زمن شارون وما قبله.

 

سابعاً: الفشل الأكبر في الصعيدين السياسي والإعلامي، إذ أخفقت "إسرائيل" في إنجاز حربها في أيام لتقلل من الأعباء الثقيلة المتعلقة بسمعتها الدولية وسمعة الدول الأوروبية المساندة لها، وتجلى المشهد عن انكشاف دولي كبير للكيان الصهيوني، من مقاطعة معلنة إلى توبيخ أوروبي وإيقاف مسار مباحثات الشراكة الأوروبية معها، مروراً بخسارة الحليف التركي، وتجميد العلاقات مع قطر (الجسر الخليجي لها دبلوماسياً) وموريتانيا، وجفاء وقتي ـ ربما ـ مع مصر، وإدانة شعبية عالمية لها، ومطالبات بمحاكمة قادتها بتهم جرائم الحرب، وفشل إعلامي ـ لأول مرة ـ في لملمة الآلة الصهيونية الإعلامية لصور جرائمها بعدما طال أمد الحرب وأضحى إخفاء الجرائم عصياً على وسائل الإعلام في زمن الانترنت، في وقت نجح أعداؤها (حماس) في رفع شعبيتهم وإبراز عدالة قضاياهم، والاعتراف الشعبي الدولي بهم والرسمي أحياناً وهو ما قلب المعادلة تماماً من "سحق حماس" إلى "الاعتراف بحماس"، وزيادة الكراهية الشعبية الدولية للكيان الصهيوني.

 

ثامناً: تحول مزية التوقيت الاختياري لوقت المعركة إلى وبال على العسكرية والسياسة الصهيونية التي وجدت أنها بدلاً من أن تنجز حملتها في أيام، حشرت ذاتها في وقت قد طال بها ليقترب أمام استحقاقين لابد من إنهاء المعارك قبلهما، وهما حفل تنصيب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي سيواجه صفعة صهيونية له إن استمرت الحرب، من أول يوم في أيام ولايته 20 يناير الحالي، والانتخابات الصهيونية في 10 فبراير المقبل، وهو ما جعل المقاومة ليست في عجلة من أمرها، وأدار كأس السم ليتجرعه المعتدون.

 

تاسعاً: تسديد ضربة نجلاء إلى حليف "إسرائيل" وواشنطن في رام الله، من حيث لم ترد السياسة الصهيونية، التي جعلت من بين أهم أهداف حربها إعادة الانقلابيين إلى الحكم في غزة، فانقلب السحر على الساحر، ومرت فترة ولاية محمود عباس في قلب المعركة، وهو حائر بين القمم، والتي قذفت به في النهاية خارج دائرة الفعل الفلسطيني، بعد أن نسفت الحرب ما يُسمى بعملية السلام، التي كان يمثل هو "شرعيتها" ووضعت أوسلو وأنابوليس في دائرة النسيان، وأحيت الطموحات في الضفة الغربية في استنساخ نموذج حماس هناك، والذي نجح معه الفلسطينيون في تحقيق استقلال في رقعة من الأرض ـ وإن كانت صغيرة ـ يبنون عليها دولتهم، وهي بالطبع قابلة للاتساع عبر منهج المقاومة لا منهج الاستسلام..

 

عاشراً: خروج "إسرائيل" ضعيفة إقليمياً، منبوذة شعبياً في محيطها، بما يكسر كل محاولة لإدماجها في الإقليم، ليعيدها الآن إلى مربع اللاءات العربية الماضية، وإن قهراً، ويحول بينها والاندماج مع العرب في مشاريع كالأورومتوسطية أو المتوسطية أو الشرق الأوسط الجديد، أو ما شابه، وبما يعيد تشكيل أحلاف في المنطقة بعيداً عن "إسرائيل" ويعيد النظر في بعض الاتفاقات بينها وبين دول عربية، أو على الأقل لا يسمح لها بتطوير هذه العلاقات لسنوات على الأقل..