دلالات الانقلاب المزور في العراق
29 محرم 1430
طلعت رميح

كان اللافت أن الإعلان عن "الانقلاب" العسكرى الذى قيل بصدده أن مجموعة من حزب العودة – أي حزب البعث المجدد – كانت تخطط له، قد جاء من الولايات المتحدة أولا، إذ كان من أذاع الخبر أو كشف السر هو صحيفة أمريكية سرب الأمر لها من دوائر رسمية أمريكية بالطبع.
لكن اللافت أكثر، هو حالة الهلع و الارتباك والتضارب الذى جرى بعد هذا الاعلان الامريكى- وحتى الافراج عن هؤلاء الضباط – فى داخل اروقة ومؤسسات الحكم الراهن في العراق.
لقد شهدنا هذا "الحكم"، وكان كل قطاع فيه يسبح فى منحى مختلف عن الآخر، إذ صدرت روايات متضاربة ومتضادة من أجهزة حكم، هي متكدسة في مساحة ضيقة داخل المنطقة الخضراء، حتى صار الأمر اقرب الى رمى كرة ملتهبة في داخل مخزن ذخيرة، كل من فيه يحاول النجاة بنفسه.
قيل انه تم ضبط مجموعة من الضباط كان يخططون لإحداث انقلاب، وان تلك المجموعة عددها نحو 50 ضابط، حاولوا إعادة حزب البعث للحكم. و قيل ان التهمة التى وجهت الى الضباط المعتقلين هى تسهيل الانشطة الارهابية للخارجيين على القانون ومن سماهم- المتحدث باسم الحكومة العراقية ياسين مجيد – أعضاء النظام السابق.
وقيل ان هؤلاء الضباط عددهم 25 ضابط، وأنهم من العاملين في وزارتي الدفاع والداخلية. وقيل من بعد ان المقبوض عليهم من الضباط العاملين فى مجال الخدمات التي تقدمها الشرطة (الإطفاء – المرور) وأنهم ليسوا من صلب القوة الأساسية القتالية. وقيل ان قاضى التحقيق قام باطلاق سراح جميع المعتقلين لعدم توافر دليل على ادانتهم بمحاولة إعادة حزب البعث. وقيل ان لا صحة لاتهام هؤلاء لا بتدبير انقلاب لإعادة حزب البعث، ولا بتسهيل الأعمال (الإرهابية) وان ما حدث كان خطا في التصريحات، وان هؤلاء الضباط عادوا إلى مقار عملهم، بل سيجرى تكريمهم و تعويضهم عن الاهانة الادبية التى لحقت بهم جراء الاتهامات الباطلة التي تعرضوا لها. وقال المالكى لا عودة لعصر الانقلابات، التي كانت تجرى إبان العصر الجاهلي (يقصد نظام صدام).
وهكذا توالت الروايات و التصريحات المتضادة، بين الحكومة ووزارتي الداخلية والدفاع، إضافة إلى تصريحات من اطراف اللعبة السياسية الجارية تحت الاحتلال، بما ادخل الأمر فى حالة من الفوضى منذ بدايته حتى نهايته.
هنا يبدو أننا أمام أسئلة متعددة. لم كان الإعلان عن الانقلاب.. امريكيا؟ ماذا قصدت قوة الاحتلال بهذا الإعلان؟. ولم جر كل هذا الارتباك فى دوائر الحكم الراهن وهل حدث الارتباك نتيجة مباغتة نشر الخبر الذى كان يجرى التستر عليه؟ وهل صحيح ان ما جرى كان احد تجليات الصراع بين الفرقاء المتحالفين مع الاحتلال فى داخل السلطة الحالية؟ واين ما جرى من لعبة صراع الاحتلالين الأمريكي و الإيراني؟ وما دلالات القول باننا نشهد تصفيات بين أجنحة الحكم، على هامش التحضيرات الجارية للانتخابات المقبلة في العراق ؟.. الخ.

اللعبة الحالية
الأمر المهم والأساسي فى فهم الأوضاع الحالية فى العراق، هو أن لعبة ادارة الصراعات فى هذا البلد ما بعد إقرار الاتفاقية الأمنية الإستراتيجية، لم تعد هي ذات اللعبة غى ادارة الصراعات قبل إقرار الاتفاق. ويمعنى اخر تفصيلى فان تلك السلطة التى قامت في إطار حالة (التحالف – الصراع) بين إيران و الولايات المتحدة، وكسلطة تحاول الحصول على شرعية داخلية وخارجية، لتعويم حالة الاحتلال وجعل وجود القوات الامريكية امرا مرتبطا باتفاق لا قوة احتلال دخلت البلاد بطريقة هجومية غير شرعية، هي سلطة بات مطلوب اعادة تشكيلها من جديد ووفق اهداف جديدة لتطوير الاوضاع الحالية فى العراق من جهة و للتماهى مع السياسة الجديدة لإدارة أوباما، التي تتسلم الحكم وسط تفاعلات حادة للأزمة الاقتصادية الأمريكية على قدرات هذا البلد، وكذا بالنظر إلى ان الأزمة العالمية – خاصة بانخفاض اسعار البترول – لا شك اثرت على الاوضاع فى العراق بما يتطلب احداث تغيرات فى التطلعات و القيادات. وكذا ان طريقه ادارة الصراع في داخل العراق، أو بالدقة داخل أروقة السلطة أو أسلوب السيطرة عليها، هي بدورها ستتغير مع تحول الاحتلال من السيطرة العسكرية المباشرة لقواته في شوارع المدن، وفى ضوء انسحاب قوات الدول الاخرى من العراق لتبقى قوات الاحتلال الأمريكية وحدها، وهو ما يتطلب تغيير فى أسلوب إدارة الاحتلال للحكم، يتطلب تشديد السيطرة عليه لمقابلة المظاهر الشكلية "الاستقلال "لتلك السلطة فى قرارات الحركة الداخلية في بعض الجوانب. والقصد هنا، أن الانسحاب الشكلي لظاهرة الوجود العسكري الأمريكي المباشر، لا شك سيتطلب تحقيقا لنمط اقوى من السيطرة على سلطة الحكم في العراق، وهو ما يتطلب بدوره وجود توازنات و عناصر وطرق لمثل هذه السيطرة الاكثر فعالية والأقل في شكلياتها.
والقصد، أن لعبة الانقلاب بكافة الاسئلة والإشكاليات التى تثيرها او تطرحها هى مؤشر ودلالة على تغير نمط ادارة سلطة الاحتلال في العراق، و تعبير عن دخول "أوضاع تلك السلطة إلى حالة جديدة، وان تلك هي الطريقة الجديدة، كانت أول مؤشراتها هو ما جرى في لعبة الانقلاب، سواء طريقة الإعلان عنه او حالة الارتباك التي شهدها هذا الحكم، أو ما جرى من الإفراج الفوري عن الضباط.. الخ.

طبيعة السلطة الحاكمة
فى محاولة لتوصيف طبيعة الحكم الراهن في العراق، من الطبيعي القول بانه حكم عينه الاحتلال ورعاه ويحميه، كما يمكن وصفه بانه تعبير دقيق عن حالة نفوذ الاحتلالين الإيراني والأمريكي الذي دشن وجوده التحالفي قبل الاحتلال "سياسيا"، وتحول بعد الاحتلال للعراق الى حالة "مؤسسية. و اننا امام سلطة تعبر - فى ذات الوقت - عن حالة التنافس و الصراع بين الاحتلالين، إذ كل منهما يحاول الحصول على اكبر مكاسب من العراق خيراته وثرواته ودوره، على حساب مصالح أهله واستقراره.
لكن "التوصيف" لطبيعة هذا الحكم فيما يتعلق بالمجتمع و الوطن العراقي، هو ما يبقى مهما أيضا. وفى ذلك يمكن القول بان هذا الحكم هو تعبير متطور ومتوسع عن الخطة التى يتبعها كل احتلال دخل كل بلد. كل احتلال، شرع من فور دخول قواته الى تشكيل حكم يمثل طغمه  منعزلة عن شعبها، وغير قابلة لإنتاج أي منتج وطني، كما كل احتلال دخل إلى بلد من البلاد، كان يشرع دوما فى بناء "سلطة مستقلة" عن شعبها وعن مجتمعها، وغير قابلة للاندماج مع هذا الشعب وذاك المجتمع، أي هو كان يسعى دوما لتشكيل سلطة "معلقة" فوق المجتمع، تدعى تمثيله دون ان تكون قادرة على ذلك "فعليا"، وتحاول الحصول على شرعية بوجودها من خلال إجراءات وأطر شكلية دون أن تكون سلطة شرعية بالفعل. تلك كانت هى الوصفة العامة الجاهزة لمنع اية امكانية حدوث تغييرات مع الزمن فى تلك السلطة بما يغير أوضاعها و توجهاتها الطائفية. كان الاستعمار يختار حكومات من الاقلية العرقية او القبليه في كل بلد تحتله، ليضمن أنها دوما فى حاجة إلى حمايته لها، وكان الاستعمار دوما يضع العراقيل بين السلطة التى يشكلها على عمالتها له وشعب البلد المحتل، ليظل هناك نمط من الصراع بين الشعب والسلطة المفروضة عليه وعلى المستوى العسكري، كان المحتل حريصا على الدوام، أن تكون القوات المسلحة فى البلد المحتل ذات تسليح يوقف حدود قدرتها عند قمع الشعب المحتل، دون التطور إلى ابعد من ذلك، بل هو كان يحرص دوما ان تكون مثل تلك القوات تحت اشراف وقيادة كاملة من قادته العسكرين، حدث ذلك في كل البلاد العربية التى تم احتلالها خلال حقبة السيطرة و الاحتلال الأوروبي. وفعلت ذلك كل الدول التى استعمرت دولا فى اسيا و افريقيا.
ولذلك فان مثل تلك السلطة الحالية فى العراق.حتى فى حالة تشدقها باللعبة الديموقراطية هى فى جوهرها سلطة طغمة معزولة عن شعبها ممنوع عليها التثبت وسط جماهيرالشعب المحتل وشعبها ولو هى ارادت يوما ما كما مثل تلك السلطة، غالبا ما تأخذ بوسائل القتل والارهاب لمعارضيها أو للوطنين المناوئين لها، لضمان استمرار وجودها، وكذا فان المحتل فى لعبة إدارته لمثل تلك السلطة، يلجئون دوما إلى تقسيمها إلى كتل ومجموعات متنافرة، ولذلك تكون التقلبات هى طابعها الدائم من داخلها، وبطرق الانقلابات العسكرية و اساليب القتل والاغتيال بين عناصرها و مجموعاتها.. الخ.

الانقلاب والهلع
هنا يمكننا فهم سر الارتباك الحاد، بعد تردد صدى فكرة الانقلاب وسط المجموعة الحاكمة فى العراق حاليا، باعتبارها تدرك أكثر من غيرها طبيعة الولاء الذى ترتبط به مع الاحتلال، ومدى قدرة الاحتلال على تغيير رموزها وشخوصها، والأساليب التي يتعامل بها مع من يأتي بهم من أمثالهم. فى فيتنام كان هناك مثال شهير للعبة الامريكية مع من ياتون بهم لتبوء مكان السلطة كان الامريكان قد شعرو بفشل احد الديكتاتوريين الذين اتوا هم به إلى الحكم، فقاموا بتحريك مجموعة أخرى من داخل الطغمة الحاكمة للانقلاب عليه، وفى لحظة وقوع الانقلاب، اتصل الديكتاتور المخدوع بنمط العلاقة بينه وقوات الاحتلال، ليقول لهم: انهم يطيحون بي، ان الدبابات تقترب من القصر.. أرجوكم أن تتدخلوا، ولكنه لم يسمع سوى اجابة واحدة من القادة العسكريين الامريكين: سنؤمن لك الوصول إلى السفارة الأمريكية، وهذا كل ما نستطيع فعله!
والقصد، هو أن الذين ارتبطوا بالاحتلال في العراق، ودخلوا في سلطة الحكم التى شكلها هم اكثر من يفهمون كيف تشكلت وتدار تلك السلطة وتتخذ قراراتها وتتحدد شخوصها، وهم الأكثر فهما للمخاطر التى تحيط بهم جراء عدم رضا الاحتلال عنهم، ولذلك كان مجرد الاعلان الامريكى عن الانقلاب انذارا خطرا وامرا مزعجا أو لنقل مرعبا، خاصة وان هؤلاء يدركون طبيعة المرحلة التى تمر بها السلطة حاليا في العراق، على اعتبار أن دورها "السابق" قد أصبح قاب قوسين أو ادني من "التحقق" وفق الرؤية الأمريكية، بعد انجاز الاتفاق الأمني والاستراتيجي، وعقب صدور قرار مجلس الامن بانهاء صيغة الاحتلال وفق مقولة القوات متعددة الجنسيات، ولإدراكهم أن دورا جديدا باتت تتهيأ سلطة الاحتلال لإقراره، بما يستدعى قيادات ورموز أخرى في الحكم، خاصة وان الاحتلالين الامريكى و الايرانى باتا على مرمى حجر من بدء مفاوضات بينهما، لترتيب الأوضاع في المنطقة – لا العراق فقط – بما يعنى ان العراق كله اصبح ورقة من اوراق التفاوض - وليس وجود هؤلاء فى الحكم فقط - بما يحمل نذر و احتمالات ان يجرى الاتفاق على صيغة سلطة جديدة، قد يكون بعض "الحكام" الحالين ضحية لإعادة بنائها.
كما القصد ان هؤلاء يدركون ان الولايات المتحدة التي أنهكها احتلالها للعراق، وحملها لمثل هؤلاء الشخصيات على أكتاف القوة العسكرية لها، لا شك أنها فى رؤيتها للمرحلة القادمة في العراق، ستعمل على جلب "رموز" من نمط آخر للحكم في العراق، إن لم يكن لتعزز قوة سطوتها في مواجهة إيران، فلجعل تلك السلطة ذاتها فى حالة "أعمق" من الانقسام، من خلال إدخال رمزيات لفئات اخرى من المجتمع وهو ما سيكون على حساب "وظائف" و"ادوار" يحتلها الحكام الحاليين.

  الانقلاب.. نكته!
وبالعودة إلى اصل حكاية الانقلاب، فلا شك اننا أمام مزحة ثقيلة، أو قصة مليئة بالمرارة، على نفس نمط اقوال محمود المشهدانى رئيس برلمان الاحتلال، الذي اضطر في لحظة ضيق ان يوبخ النواب بتذكيرهم بدور "الكلب" الامريكى في انعقاد جلسات البرلمان، إذ كل عضو بالبرلمان لايدخل الى قاعة الاجتماع إلا بعد أن "يشمشم" فيه كلب أمريكي مدرب على اكتشاف المفرقعات.
حكاية الانقلاب في حد ذاتها نكتة، وفى ذلك يظهر درجة الخوف والرعب و الهلع التى يعيشها هؤلاء الحاكمين المرتبطين بقوات الاحتلال، إذا جاءتهم إشارات بغضب الاحتلال عليهم، حتى لو كانت فى شكل كاريكاتورى كتلك التى جرت فى قصة الانقلاب البعثى كما هو يؤكد ان هؤلاء الحكام يدركون ان الامريكان سيغيرونهم بين يوم وليلة، وأنهم يفهمون جيدا ان قصص و روايات وحكايات الديموقراطية ليست الا وهما يروج له لدى عامة الناس، لكنه لا اصل له فى ادارة الصراع و تغيير الأشخاص الحاكمين.
في قصة الانقلاب البعثى، فالنكتة هنا، هي من هذا المجنون الذى ينقلب على المالكى الذى تحميه قوات أمريكية يبلغ قوامها نحو 160 ألف ضابط وجندي؟. وهل هناك من يتصور انه سيحقق تغيرا فى سلطة اقامها الاحتلال ويحميها يجنوده ويديرها هو؟
أما قصة الرعب، فما كشف عنه هذا الارتباك و الهلع، هو أن السلطة الحالية، تدرك انه إذا جرى انقلاب، فلن يكون إلا بحماية ورعاية الاحتلال، الذي من مصدر حمايتهم، ولان أي رفع لغطاء حمايتهم من قبل الاحتلال، قد يعنى تسليمهم للشعب العراقي، ليعطيهم المكافآت التي يستحقونها على ارتباطهم بالمحتل.
لقد كشف ما جرى، كيف أن تلك الطغمة الحاكمة في العراق مهتزة، وتابعة وذليلة أمام الاحتلال، خائفة ومرعوبة حتى من هؤلاء يحظون بنفس الحماية من ذات المحتلين.