ما بعد محنة غزة
23 صفر 1430

إن شئتَ قلتَ غَزَّة، أو قل إن شئت عِزَّة، فقد غدت غزة بعد معركة الفرقان عنواناً للعزة والإباء؛ وإن شئتَ قلتَ محنة أو قل إن شئت منحة، فبرغم الألم والأسى لما حل بالأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال، وبرغم كثرة الخراب وقسوة التدمير إلا أن عاقبة هذه المحن كانت خيراً على أهل الجهاد وأهل فلسطين والأمة جمعاء، وقد ذكرنا نزراً يسيراً منه في كلمات سابقة.

 

لقد كانت ملحمة غزة واحدة من الملاحم التي ذاقت فيها الأمة طعم العزة والإباء، ورفضت الذل والخنوع، وانتصرت على المؤامرات والمكر الكُبَّار، بعد أن لفها اليأس -أو كاد- من توالي المصائب والكوارث عليها سنين عددا، ثم إذا بها تنتفض كالمارد من تحت الأنقاض، وتنفض عنها تراب الذل والخضوع الذي ظن أعداؤها أنهم قد وارَوها فيه.

 

وحيث إن المعركة لم تنته بعد، بل الآتي أكبر وأشد لسعي أعداء الأمة لتبديد نصرها وحرمانها من جني ثماره، فإن الأمة تحتاج في المرحلة المقبلة إلى أمور كثيرة لتحافظ على انتصارها، ولتحول الحماسة والتعاطف والمشاعر الجياشة إلى عمل جاد فعال، وفيما يلي نمر على بعضها سريعاً:
1. الصبر والثبات والعزة والتفاؤل، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن دوماً، فهذا يعقوب عليه السلام برغم بعد عهده بيوسف عليه السلام وطول فراقهما، تبقى ذكراه حية في نفسه ويبقى الأمل في اللقاء رغم طول السنين حتى قال له أبناؤه: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]، فيجيبهم بيقين الإيمان جواباً ملؤه الأمل: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87،86]، فقال: القوم الكافرون، ولم يقل الفاسقون أو الظالمون، لبيان عظم جرم اليأس من روح الله، وإنني والله لأعجب أن يوجد في الأمة يائس مع هذه الانتصارات الضخمة الرائعة التي تحققت في هذه الأسابيع الثلاثة!

 

إن النفوس المهزومة لن تستطيع أن تهزم عدوها، والمؤمن مهما حل به فإنه يبقى متفائلاً موقناً بنصر الله الموعود، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أشد المتفائلين في أصعب الأوقات، فيوم الأحزاب الذي قال الله فيه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10،11]، كان بأبي هو وأمي متفائلاً ويبشر بفتح فارس والروم، فعلينا أن نتأسى به في تفاؤله، إذ جاء بعد آيات قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]؛ وقد احتل النصارى بيت المقدس أكثر من تسعين سنة، وكانت الأمة حينها دويلات متفرقة متشرذمة كحالها اليوم، بل أسوأ لأنها كانت تتقاتل فيما بينها، ثم هيأ الله لها محمود نور الدين زنكي رحمه الله وبدأ يعد إعداداً عظيماً، وهو الذي هيأ الوضع والبلاد ثم جاء صلاح الدين رحمه الله فأكمل المهمة، فالباطل مهما انتفش فإنه إلى زوال، ولا بد من تمام اليقين بذلك.

 

2. الحفاظ على وحدة المجاهدين التي تحققت على أرض غزة، إذ الذي أضاع ثمرات الجهاد في كثير من بلاد المسلمين فيما مضى هو اختلافهم وانقسامهم، ونعني بالمجاهدين من  كان قتالهم في طاعة الله ورسوله أي لتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وأما من كان من الفصائل يقاتل حمية أو وطنية أو غير ذلك فلا بد من مناصحتهم ليكون قتالهم في سبيل الله حتى لا يخسروا الآخرة.

 

3.  إسقاط أسطورة إسرائيل التي لا تقهر من القلوب، بعد أن سقطت على أرض الواقع في غزة وقبل ذلك على يد أطفال الحجارة، ولا شك أن انهيار الانبهار والخوف من اليهود له ثماره التي لا تخفى في العاجل والآجل، وهو خوف مبني على أوهام يبددها قوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 13،14].

 

4.  إحياء روح الجهاد في الأمة لتحرير فلسطين وغيرها من البلاد المغتصبة، وإسقاط   مشاريع السلام الدائم، بل مشاريع الذل والاستسلام التي يلهث خلفها بعض أفراد الأمة وحكامها من أكثر من ثلاثين سنة، لم يزل قتل الفلسطينيين وتشريدهم مستمراً فيها؛ فقد ثبت فشل هذه المشاريع، والذي يثق في اليهود ومواثيقهم لا يفقه قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]. ولن تستطيع الأمة أن ترفع الذل، وتستعيد شرفها وعزها إلا بالرجوع إلى دينها -والجهاد ذروة سنامه- كما قال عليه السلام: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(1).

 

5.  استثمار ما تحقق من ارتفاع ملحوظ في مستوى الوعي لدى الأمة رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وبخاصة ما يتعلق بإحياء عقيدة الولاء والبراء التي أريد لها أن تطوى من الوجود وتُمحى من الذاكرة، وعدم التفريط فيما تحقق على أرض الواقع من اجتماع شعوب الأمة عرباً وعجماً على هدف واحد ووجهة واحدة تحت راية واحدة هي راية الإسلام، مما يبشر بإزالة كثير من الحواجز التي وضعها الأعداء للتفرقة بين أوصال الأمة.

 

6.  العلماء صمام الأمان بالنسبة للأمة وهم بمثابة الربان للسفينة، وقد لمسنا خلال المعركة بداية استعادتهم لدورهم الريادي في قيادة الأمة، وهذا فاتحة خير، ولكن لا بد من المحافظة على ما تحقق والارتقاء إلى مستويات أعلى وآفاق أرحب، فالملايين من المسلمين يتطلعون إلى علمائهم ويعلقون على دورهم آمالاً عظاماً.

 

7. من أعظم ما تحتاج إليه الأمة اليوم؛ التربية الجادة وحسن استثمار هذا الانتصار لتنشئة أجيال مؤمنة تحمل هم هذا الدين وهم الأمة، ودور المرأة في هذا المضمار كبير، فالأمة تنتظر أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين ومحمد الفاتح وأحمد ياسين، والتاريخ يحكي أن وراء كل مجاهد عظيم أم عظيمة، تنجب وتربي، لكننا نريد من علماء التربية أن يضعوا لنا برامج عملية واقعية لتحقيق هذه الأهداف السامية.

 

8. لقد ثبت خلال المعركة الأثر الفعال لوسائل الإعلام المختلفة، المسموعة والمقروءة والمرئية، ورأينا كيف تحرك الصور مشاعر الناس على مختلف معتقداتهم في مشارق الأرض ومغاربها، ورأينا كيف دخلت كلمة التوحيد التي كان يرددها المجاهدون أو المصابون أو يهتف بها المتظاهرون كل البيوت، فنريد وسائل إعلام تكون في المقدمة، وتساعد في عملية تربية الأجيال.

 

9. تفعيل المقاطعة المتدرجة والمحسوبة بحيث لا يشق بها على الناس، مما يضمن استمرارها وثباتها بدل أن تكون طفرة وفورة ما تلبث أن تفتر وتتراجع، مع ضرورة وضع أهداف محددة يُسعى لتحقيقها من خلالها حتى لا تفقد أثرها.

 

10. وأخيراً فلا بد أن تعي جماهير الأمة أننا كما قال عمر رضي الله عنه: "كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(2)، وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بفهم خير هذه الأمة؛ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم، فتدخل في شرائع الإسلام كلها، وتتجنب كل ما يخالفه من مناهج منحرفة وتيارات فكرية دخيلة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].

_____________
(1) سنن أبي داود 2/296 (3462)، وصححه الألباني.
(2) رواه الحاكم في المستدرك 1/130 (207)، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.