الرسوم المسيئة لـ"المسيحية" هذه المرة!
1 ربيع الأول 1430
د. محمد يحيى
عرضت القناة العاشرة في التليفزيون "الإسرائيلي" منذ أيام برنامجًا رأى فيه بعض المشاهدين سخرية من النبي عيسى عليه السلام ومن أمه.
 وقد ثارت ـ وإن في وقت متأخر نوعًا ما ـ ثائرة بعض الكنائس "المسيحية" داخل الأراضي المقدسة كما يسمونها في فلسطين، ثم أصدر الفاتيكان بيانًا احتجاجيًا على هذا الموضوع دونما أن يشير في نفس الوقت إلى إلغاء زيارة بابا روما المتوقعة إلى الأراضي الفلسطينية ردًا على هذا التحرك "الإسرائيلي"، وقد سارعت هيئات إسلامية عديدة إلى استنكار هذا البرنامج وما بث فيه من إساءات إلى نبي يقدره الإسلام باعتبار أن المسلمين أولى بعيسى وأولى بغيره من الأنبياء.
 والسؤال الذي يثار هنا هو: إن جهات علمانيه دأبت خلال مدة أزمة نشر الرسوم الساخرة المهينة للإسلام في بعض بلاد أوروبية على القول بأن المسلمين يتعمدون إثارة نزاعات وصراعات، وحزازات وبث التحريض حول قضايا لا أهمية لها، وكأن نشر الرسوم المسيئة للرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أمر لا يجب أن يثير ضجة، ولا يجب حتى أن يثير أي رد فعل.
وقد دأب هؤلاء العلمانيون على تقريع المسلمين وتذكيرهم بأنهم قوم يبادرون إلى ردود الأفعال وأنهم يتلقطون أي أزمة عابرة لكي يقيموا حولها ضجة لإثبات وجودهم، كما أخذ العلمانيون في العالم العربي يتندرون حول ردود أفعال المسلمين على أزمة الرسوم المسيئة واصفين إياها بالعشوائية والاعتباطية والانفعالية وما إلى ذلك من أوصاف تحط من قدر المسلمين، وتشكك في دوافعهم في الغيرة على نبيهم الكريم، بل وتطالب بإلغاء هذه الغيرة أصلاً، سواء أتعلق الأمر بالنبي أم بالقرآن أم بعقائد الإسلام وشريعته وتعاليمه، لكننا الآن نجد أن النصرانية أو على الأقل قطاعات منها لم تسكت على إهانة المسيح وأمه بل تحركت دفاعًا عنه، وإن كان تحركها ضعيفًا في تصور يثير التساؤل ويثير الشكوك، فلماذا جاء تحرك الفاتيكان مثلاً متأخرًا، ولماذا جاء ضعيفًا؟، ولم يقترن بمواقف قوية والسبب الواضح في ذلك هو أن إهانة المسيح لم تجيء عن طريق دولة إسلامية أو جهة إسلامية، وانما جاءت عن جهة "إسرائيل"، وهي نفسها التي كان بابا روما يصرح حتى في إبان أزمة برنامج القناة "الإسرائيلية" العاشرة بأنها فوق النقد، وأنه مصمم على زيارتها رغم مذابح غزة، وأنه مرتبط بـ"إسرائيل" وأنه يعد أن أي إنكار لما يسمونه بالمحرقة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية هو أمر لا يغتفر، بل وذهب إلى معاقبة بعض قساوسته الكبار الذين شككوا في مسألة المحرقة أو على الأقل في أبعادها الواسعة، وهكذا نجد أنفسنا أمام فصل جديد ومثير من لعبة إهانة الأديان والإساءة إليها، فإذا أسيء للإسلام مثلاً على يد بعض التافهين في أوروبا من طالبي الشهرة والباحثين عنها، أو من المدفوعين والمأجورين لإثارة المسلمين ودفعهم إلى ردود أفعال غاضبة تتخذ حجة عليهم بعد ذلك، فهؤلاء مغفور لهم، وهؤلاء لا تثريب عليهم، بل هم في نظر أوروبا أبطالاً لحرية الرأي والتعبير، وعلى الجانب الآخر، فعندما يساء للمسيح أو أمه تتحرك ردود الأفعال في أوروبا دفاعًا عنه دون أن يتهمهم أحد بأنهم إنفعاليون أو إعتباطيون أو متطرفون أو من أنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حول قضايا تافهه، ولكن في نفس الوقت فإنه من الملاحظ كما أشرت فيما سبق إلى أن رد فعل الكنيسة "المسيحية" عمومًا، وبالذات في أوروبا على هذا الحدث جاء ضعيفًا، وليس هذا إيمانًا منهم بحرية الرأي والتعبير أو من باب سعة الصدر، وإنما لأن الإهانة لـ"المسيحية" جاءت هذه المرة على يد "دولة" لا يستطيع أحد في أوروبا أو في أمريكا أن يراجعها في أمر اتخذته، حتى لو كان هذا الأمر هو إهانة عقيدة حلفائها وأصدقائها الذين تعيش من معوناتهم وأموالهم ودعمهم السياسي والعسكري.
 ولنا أن نتصور لو أن إهانة المسيحية جاءت مثلاً على يد هيئة إسلامية أو عالم مسلم هنا أو هناك مهما كانت درجته منخفضة أو بعيد عن التأثير الرسمي والشعبي، لوجدنا أوروبا كلها تنتفض، بل وربما أعلنت حروباً صليبية دفاعًا عن المسيحية، واستغل هذا الحدث للتدخل العسكري هنا أو هناك، لقمع من قام به، وقمع الدولة والشعب بأسره الذي ينتمي إليه هذا الجاني الأثيم، ولكن لأن الصدفة شاءت أن تأتي إهانة المسيحية هذه المرة على يد الدولة العزيزة التي يعتمدون عليها الآن لضرب الإسلام في منطقة الشرق الأوسط وما حولها، فلم يحدث رد فعل كبير، بل على العكس، كل ما حدث هو بيان احتجاجي هزيل لم يتبعه أي تحرك كما قلت يقضي بإلغاء زيارة البابا أو بسحب السفراء أو بما أشبه، وفي هذا الموضوع بأسره دلالات عميقة لا تخفى على أحد، وأبرز هذه الدلالات هو أن إهانة الأديان قد تحولت الآن إلى لعبة تقطع فيها يد الضعيف إذا أهان دين من الأديان، بينما يقرب القوي والمتجبر إذا قام بنفس الفعلة، فقد أصبح المعيار الآن والمحك في لعبة إهانة الأديان هو المصدر التي تأتي منه هذه الإهانة، فلو كان هذا المصدر مقبولاً لدى الغرب كما في حالة أصحاب الرسوم الدانمركية وغيرها مما كثر في أوروبا أو كان ممن يهم الغرب أمره مثل "إسرائيل"، فإن الإهانة تصبح مقبولة وتمر كعملية تعبير عن حرية الرأي حتى لو كانت هذه الإهانة لا تنطبق فقط على الإسلام بل تمتد إلى المسيحية كذلك، أما إذا جاءت إهانة الأديان من جانب أشخاص مغضوب عليهم أو من جانب تيارات لا يرضى عنها الغرب، وهي الآن التيارات والأشخاص الإسلاميون، فإن الأمر يتحول إلى قضية عالمية كبرى تثار فيها الحروب، وتشتعل سماء الإعلام والسياسة بالبيانات والزيارات وأظن أن في هذا ما يشير إلى حقيقة أوضاع العالم جيدًا في هذه الفترة.