عطاء يكسر اليأس
20 ربيع الأول 1430
د. خالد رُوشه

 

كل العاملين كثيرا ما يحبون أن يروا نتائج جهدهم بأعينهم ويعايشوا نجاح دعوتهم بأنفسهم , فتفرح حينئذ نفوسهم بإنجازهم ويشعرون بالسعادة على نجاح سعيهم , وهي طبيعة الإنسان , فهو يحب أن يرى ما زرعت يداه كثمرة لجهوده فيفرح حينئذ بمرآها كما يفرح الفلاح برؤية منظر ثماره التي زرعها بنفسه وتعهدها بيده وسقاها من عرق جبينه .
 
 وقد يصيب الداعية إلى الله بعض الحزن والألم عندما يجد بعض الإعراض من الناس أو يرى عدم الانتشار المأمول لدعوته ولفكرته الإيمانية التي ضحى من أجلها بالوقت والجهد والمال ..
 
وهناك عدة نظرات هامة أرجو أن يعتبر بها كل من تسرب اليأس في الإصلاح إليه أو اقترب من قلبه أو راود نفسه ..
 
فإن الله سبحانه قد وعد بنصرة رسله والتابعين لهم من الدعاة إلى الله فقال " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " وقال سبحانه : " وإن جندنا لهم المنصورون " .
 
ووعده سبحانه وعد حق وصدق لا يتخلف أبدا , فيجب أن يوقن الدعاة الى الله في كل مكان بذلك الوعد الحق .
 

 

ويجب على كل أحد منهم ابتداء أن ينقي سريرته ويصلح ما بينه وبين الله سبحانه ويطهر طموحه من رجاءات الدنيا وحبها والطمع فيها.

 

وبينما هو منهمك في تنقية شوائب نفسه وعلاج أمراضها ينبغي عليه ألا ييأس ولا يقنط ولا يقعد ولا يكسل بل يمارس العمل الدؤوب والبذل المستمر سائلا الله النصرة والعون والتوفيق .
 
والعمل الدؤوب الذي أعنيه ههنا مبدؤه العمل الذاتي الشخصي من تصحيح مقام العبودية الفردية , فيتمم الداعية إلى الله ما نقص من عبادته ويسد ما ثلم من ثغرات بنيانه العبادي المرجو .
 
ثم يأتي العطاء القلبي المتدفق كخطوة تابعة لتتميم الأولى , فيبحث عما يمكن أن يقدم فيه شيئا لأمته منطلقا من قلبه لا من خطواته , بل الخطوة الأولى هي خطوة القلب , فليؤمن بما يريده من الخطى ابتداء ثم يسير نحوها عازما على العطاء بما يمكنه من وقت وجهد ومال .
 
وليدرك كل داعية تسلل اليأس في الإصلاح إلى قلبه أن هذا النصر للدعاة الى الله والرسل لا يتخذ صورة واحدة هي صورة النصر بالغلبة المباشرة ودحر العدو كما يظن البعض , بل قد تكون له صور متعددة ومتكاثرة ..
 
 فثباته على دعوته ومبادئه وقيمه رغم المعاناة هو نوع من النصر ووصول المعاني الإيمانية إلى القلوب كل يوم جديد نوع آخر من النصر , بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا مختلفات من الانتصار والظهور قد يظنها البعض انكسارا ,  ولو لم يكن للنصرغير تلك الصورة التي يظنها هؤلاء لكان كثير من أنبياء الله ـ صلوات الله عليهم ـ محكوما عليه بالإخفاق ، وحاشا لأنبياء الله الكرام أن يوصفوا بهذا، رغم قلة المؤمنين بدعوتهم  ..
 
 فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلا قليل ، قال تعالى : " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل "  .
 
 وهذا النبي يحيى عليه السلام قد قتلته يهود , و هذا النبي عيسى عليه السلام قد رفعه الله إليه .. وغيرهم كثير
وكذلك كان أمر كثير من الأنبياء فإنهم يحشرون يوم القيامة، ومع بعضهم الواحد والاثنين والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد من المؤمنين. أخرج الترمذي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: " ولما أسرى النبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد " .
 
كذلك فقد علم الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم هذا المعنى عند أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة ، فقال : " فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ " . وقال " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " , فأمر الهداية بيد الله تعالى ، وهو القائل : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .
 
وقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة غلام الأخدود وكيف أنه بذل نفسه لتنتصر دعوته فلما صدق في ذلك وفاضت روحه قضى الله بالانتشار لدعوته , بل إن هناك معنى آخر في قصة الأخدود وهو عذاب القوم الذين آمنوا بعد الغلام وإلقاؤهم في الأخاديد وثباتهم في ذلك وكأنهم قد وعو الدرس جيدا فعلموا أن النتائج بيد الله وأن عليهم الثبات إلى النهاية .
 
والقرآن الكريم قد بين أن النصر إنما يتأتى لأهل الإيمان عند تمام التسليم لربهم وهو حال شعورهم بالتضييق والتعب , بل لعل الإشارة القرآنية تدل على أهمية وجود تلك المرحلة الوسيطة بين الدعوة والاستجابة وهي مرحلة الشدة التي قد يمر بها الدعاة والمصلحون ,  وهي دلالة قوله تعالى : " وظنوا أنهم قد كذبوا " والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثة " جاءهم نصرنا "  , وإلى ذلك يشير الإمام ابن كثير إذ يقول :  " يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه ، كقوله تعالى : " وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله " .
 
وكما أحببت أن أبعد شعار اليأس عن كل داعية مخلص في سبيل ربه أحب أن أطرق طرقات على صدره منبها إياه أثناء سيره أن يحادث الناس بما يفهمون حتى يرى أثر حديثه في سلوكهم , وأن يحب الناس من حوله إذا أرادهم أن يحبوا دعوته , وأن يبدأ بالمقدور عليه مع مجتمعه إذا أراد من مجتمعه مطاوعته , وأن يدعم النفع لأفراده إذا أراد من أفراده أن يستجيبوا لندائه , وأن ينسى ذكر نفسه ومصلحتها وكسبها إذا أراد أن يعلم الناس حسن المعاني , وأن يبين أن دعوته هي دعوة إصلاح وصلاح , وقوة وبناء , وإخلاص وحب , ويسر وتيسير , وفوز في الدنيا والآخرة .
 
فياأيها العاملون لله سبحانه ويامن ارتضيتم أن تجعلوا وظيفتكم في الحياة إصلاحها بالإيمان , اجعلوا نصب أعينكم هدفكم العالي الرفيع , ولا تتركوا للياس من الأثر مكانا , فدياركم تكتب آثاركم , وخطوكم يوقع في صفحة الحياة من بعدكم .