في بحرالحياة ..عندما يتحرك قارب الزواج
12 ربيع الأول 1430
صفية الودغيري
كم كان ارتباطهما جميلا  في بداية الزواج ، لكأنهما كانا نجمان يتألقان ،  تغمرهما فرحة اللقاء , ينصتان لبعضهما باهتمام ، يدونان أفكارهما ، يحفظانهامنقوشة بخاطرهما .
وتمضي بهما الساعات ويتحرك  قارب الزمن في سعادة ،  وأشياء كثيرة تسبح بداخلهما ، تتقاذفها أمواج الحياة ، ثم تنطلق فتطفو على السطح ، تتنفس عطر الكلمات ، تستجيب لصوت يهتف بهما ، متناغما مع شهد الإحساس ، يشنف آذانهما بموسيقى بلا عزف ولا قيثار , تلك أحرف ضمتها الشفاه في عقد فريد , وحوار يجري له صدى  يتغلغل في الأعماق ، يغريهما بمزيد من بوح الخواطر , ويزيد قربهما قربا بقدره لقد كانا يكملان بعضهما ، يرسمان بنفس الريشة صور حياتهما ، ويكتبان معا بحبر القلم كلمات تحكي قصتهما من أول الميلاد  , ويشيدان معا البناء الأسري المبارك في تناسق عجيب ، يزيده بهاء الإيمان بالله والرغبة في العمل له ووحدة الاختيار  ، وقوة الترابط ، وتشابك روحيهما في انسجام..
كلاهما كان يلامس حقيقة أنه يحب من اختاره شريكا لحياته ، وأحلامه ، وطموحاته اختيارا يرضي ربه .. وأنه يشعر بوجوده ، وبشغف به غير معتاد ، وبمودته التي كلها أسرار , كانا يفهمان بعضهما  ، وشفاههما مطبقة على صمتهما ، لكن بريق أعينهما  يترجم كل معاني  الكلمات ، ويفك ألغاز الإشارات , وتواصل بينهما ذاك الشعور الزوجي الروحي الصادق فكانا يحبان بعضهما حبا حقيقيا ، وصادقا مخلصا  ، تحدى اهتماماتهما المادية ، وانتصر على طموحاتهما الثائرة ، وتجاوز أحلامهما المتمردة ..
إلا أن دوامة الحياة رحلت بهما عبر الزمان والمكان ، فبدآ يشعران بغربة الذات والكلمات ، واختلال ترتيب أحرف الهجاء ، وشحوب المعاني بينهما ،  وتلعثم النبرات ، ما أضفى اغترابا على الحديث بينهما , ونفورا توالد بينهما , تزايد عبر الأيام , لكأنه الخرس قد أصاب الشفاه , والنفور والانكماش قد أصاب حياة كل شخص وأخذها بعيدة عن الآخر , فصارا يعيشان في بيت واحد بروحين مغتربتين ..!
ماذا تبقى من ذكريات السعادة وفرحة الاختيار وألوان العرس ، وزينة الفرح ؟  ليس إلا ذكريات جميلة مضت  ، تلاشت تدريجيا ، وهي تذوب وتحترق كالشموع بين أنياب الخلافات اليومية البائسة وكلمات العتاب الدائمة , وسلوكيات الغضب الجارحة ..
ويوما بعد يوم تخر قواهما ، تتضاءل عزائمهما ،  تتبخر أحلامهما ،  فتذبل وردة  تزين مزهرية حياة ، وتنطفئ شمعة من شموعهما ،  فيخيم بعدها الظلام ، ويظل الأمل يحدوهما  ، ليبحرا من جديد بمنأى عن قصف العواصف ، وإعصار الاهتمامات المادية  ، وضغوط الحياة اليومية ..
وفي كل مرة كانا يواجهان معاناة جديدة ، فيتحديان الأمواج الهائجة ، والغيوم السوداء العاصفة بحياتهما ..
 وعندما يضعف نضالهما ، تهزم فرحتهما ، فيصرخ الألم ، يحط على الأغصان ، يصدح بالآهات ، يفجر أدمعا  من المآقي ، فتختنق الأنفاس بالعبرات ..
 لقد غيرتهما تقلبات الزمن ، وتكاثف  المحن ، وتراكم الشدائد ، وتزاحم النكبات  واشتداد الضربات ، ومعايشة يومية لأصناف شتى من الناس ، تختلف أمزجتهم وطبائعهم ، ومواجهة  لألوان متناقضة من المواقف والصور والمظاهر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية , لقد خنقهما احساس التقصير , وأشعل النار بينهما نفثات الشيطان , وبدأ شعور كل منهما بعدم الرغبة تجاه الآخر في مشاركته آلامه وآماله , بل حتى لمشاركته مجرد الكلمات اليومية والحكايات العارضة
اشتدت لهجتهما تجاه بعضهما ، وقست عواطفهما ، وتبلدت  مشاعرهما ، وضعفت حكمتهما ومنطق عقلهما ، فتحولا رغما عنهما  من حالة هدوء عاطفي واتزان سلوكي ، واعتدال مزاجي لحالة من التوتر العصبي ، والإرهاق النفسي والفكري والجسدي ,  تحت تأثير سلطان ما سبق وما اختزن بداخلهما .
وتأجج بركان من غضب ،  وثورة انفعالات  فجرت أمورا ساكنة بداخلهما أزكاها الشيطان بينهما , وكأن الحقوق والواجبات بينهما قد صارت جامدة جافة , تتجمد يوما وتضيع اياما  ، وتكاثرت الأنفعالات , فتطاير شظى لهيبها  ، وسرى حمما بشرايينهما  ، فطمح كلاهما للتخلص من معاناته وتخفيف ثورة قهره ، بمواجهة الآخر وحربه انتصارا على ضعفه وفشله في ردع طوفانه  ..واعتبره عدوا له لا صديقا , وغريما له لا محبا , وخصما من خصومه لا جزءا من أجزاء حياته !
هنا يتبين هل ينتصر الحب الروحي الإيماني الأسري بين زوجين  أو ينهزم ، بحسب قوة وضعف ارتباطهما بربهما وقيم نبيهما  ، وبحسب  صدق إحساسهما ، والتزامهما بالمسؤولية المشتركة بينهما في تحمل مشاق الحياة والصبر عليها..
إن  وجود حب حقيقي نقي شفاف وصادق بين زوجين  هو سلاحهما الذي يحاربان به ويتقويان على ضعفهما , هو ضماد جراحهما ، وترياق معاناتهما  ، هو حصانتهما في مواجهة تيار التحديات ومقارعة الصعاب ..
حين يدرك الزوجان أن حياتهما ووجودهما معا روحا وجسدا واحدا ، يتشاركان معا الأفراح والأتراح ، والابتسامات والدموع ، والصمت والكلام ، والهدوء والغضب , ويواجهان تقلبات الحياة بتناقضاتها بوعي ونضج فكري ، واتزان نفسي ، والتحام عاطفي حينها سيظلان يشعران بنفس الإحساس عند بداية زواجهما ، وسيحتفظان بفرحتهما ، والأجواء المفعمة بمشاعر الحب والتقدير والاحترام...
ومهما قويت شوكة التحديات ، وحجم الخسائر والمعاناة ,  فهي قاصرة عن استنزاف توجهاتهما وميولهما المعنوية ..
لكن حين يفرطان في النظر لبعضهما من منطلق معادلة مادية أساسها الربح والخسارة ، ويتعاملان وفق إيقاعات تحقيق المصالح والمكاسب ..  سيصارعان معا عوامل التصحر والجفاف العاطفي والوجداني ، ويتجاهلان اهتمامات ومصالح الآخر لدرجة يفقدان فيها  حتى الإحساس ببعضهما وجودا روحيا وجسديا  ، حتى ساعات الزمن تتحول لديهما لأرقام حسابية ، لا قيمة لصرفها ، أو تضييعها  في  تبادل  مشاعر الحب والمودة والرحمة والحنان والمعاني الجميلة
إن سر نجاح الحياة الزوجية ونماءها وقوتها ، كامن  في وجود عواطف صادقة مخلصة ، لا ينضب فيض معينها  ولا يفتر عطاؤها ، فهي الماء العذب الزلال ، هي عطر الحياة فواح ، هي زاد الروح ، وبلسم القلب ،  هي سر السعادة ينشدها الغرباء