أبعاد إصدار مذكرة توقيف البشير وتداعياته
18 ربيع الأول 1430
هشام منور

لم يكن مفاجئاً للمتابع لسير تطورات الأحداث في السودان أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة التوقيف في حق الرئيس السوداني (عمر البشير)، بناء على طلب المدعي العام للمحكمة (لويس مورينيو أوكامبو). فمنذ أن أصبح السودان ضمن دائرة الاستهداف الدولي إثر اكتشاف المخزون الهائل من الثروات النفطية والمعدنية (فضلاً عن المائية والزراعية والحيوانية) في جنوبه وغربه بالذات، والسودان يدفع ضريبة تمسكه بوحدة أراضيه واستقلال قراره السيادي على ترابه، ورفضه لابتزاز الدول الكبرى ومحاولتها لنهب ثرواته.

 

لكن إصرار المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مثل هذا القرار الخطير إذ يسجل سابقة أولى منذ تأسيس المحكمة عام 2002، فإنه يرسم العديد من إشارات الاستفهام عن دوافع توقيته في ظل تجاهل المحكمة ومناصرو قرارها للمجازر الإسرائيلية الوحشية المرتكبة في قطاع غزة، دون أن يجرؤ أحد حتى على المناداة بفتح "تحقيق داخلي" في قصف "إسرائيل" لمقرات ومدارس منظمات الأمم المتحدة في غزة، فضلاً عن محاسبة "إسرائيل" على جرائمها التي تندى لها جباه مناصريها ومؤيديها.

 

ما من شك أن "اصطناع" مشكلة دارفور برمتها هو من صنيع دوائر غربية استعمارية، وجميع العرب والمسلمين يعلمون أبعاد القرار الصادر عن المحكمة الدولية، والذي يستهدف التأثير على القرار الوطني السوداني، وزعزعة الاستقرار الداخلي، وتفتيت السودان إلى كيانات عدة (جنوب السودان، إقليم دارفور، إقليم كردفان، إقليم النوبة في الشمال...) لتبقى (الخرطوم) تسيطر عملياً على وسط السودان فقط، أو ما يسمى بالسودان القديمة.

 

وهنا لا يمكن أن نتهم يتبني نظرية المؤامرة أو الاهتجاس بأبعادها إذا أشرنا بأصابع الاتهام إلى "إسرائيل" وعملائها في الأنظمة الغربية، وبالذات في الولايات المتحدة، ووقوفها وراء تصعيد الأزمة في هذا الوقت الذي تشهد فيه جهود الحكومة السودانية نجاحات متتالية في ملف المصالحة الداخلية؟!. ألم يعلن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي (آفي ديختر) عن هذا الموقف في الصحف الإسرائيلية في مقاله "الهدف هو تفتيت السودان وشغله بالحروب الأهلية"، وقال فيه: «السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية، وقوة مضافة إلى العالم العربي».

 

وهل بات خافياً على أحد حجم المطامع الصهيونية في السودان عامة، ودارفور والجنوب بصفة خاصة، وهي المطامع التي لخصها رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي السابق الجنرال (حاييم لاسكوف) بقوله: "إن نجاح إسرائيل في تطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية في غرب القارة - خاصة تلك الدول التي تقع جنـوب الصحراء والمتاخمة للدول العربية- سيحقق لها مـكاسب إستراتيجية كبيرة، وسيساعد على تلافي نقاط الضعف الإستراتيجي المتمثلة في إحاطتها بطوق عربي محكم، والوصول إلى الظهر العربي المكشوف في ميدان لا يتوقعه العرب".

 

وها هو (رام إيمانويل)، الحامل للجنسية الإسرائيلية، والذي يعمل كمدير لموظفي البيت الأبيض، يتعاون مع اللوبي الصهيوني في أمريكا في حملة على (عمر البشير) تحت دعوى إنقاذ أهل دارفور! ويقود حملة لجمع التبرعات من الشعب الأمريكي ومن أطفال المدارس لأطفال دارفور؛ لتعزيز حالة الاحتقان في الشارع الأمريكي ضد النظام السوداني.

 

وينطوي على قرار اعتقال البشير العديد من التداعيات والمخاطر الداخلية، والتي قد تؤجج الاقتتال الداخلي، في ظل اعتبار حركات التمرد للقرار، وفي مقدمتها حركة العدل والمساواة في دارفور "نصراً" كبيراً لها، كما أنه يتهدد إجراءات الانتخابات المقررة في شهر يوليو المقبل في ظل المناوشات الدائرة ومطالبة بعض قادة الجنوب وحزب المعارضة الرئيسي "المؤتمر الشعبي" بقيادة (حسن الترابي) بأن يذعن (البشير) لقرار المحكمة الدولية، ومطالبتهم بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد. لذا فإن تأجيلها قد يدفع قادة الجنوب إلى إعلان الانفصال من جانب واحد بدلاً من الانتظار حتى يأتي موعد الاستفتاء النهائي على تقرير المصير عام 2011.

 

وبالنسبة لتداعيات قرار التوقيف، فإنه في حال عدم تسليم البشير نفسه، أو عدم تعاون كافة الأطراف في اعتقاله، فإن المحكمة الجنائية الدولية سوف ترفع إلى مجلس الأمن الدولي الأمر لاتخاذ ما يراه مناسباً، على الرغم من عدم تبعية المحكمة الجنائية الدولية، حسب نظامها الداخلي، لمجلس الأمن، وهو الأمر الذي يفضح تسييس الأزمة بوضوح. وسوف يواجه السودان عدداً من السيناريوهات المحتملة، وفي مقدمتها لجوء الدول الغربية، والولايات المتحدة بالذات، إلى إكراه السودان على قبول الابتزازات والمساومات التي سبق أن رفضها بغية تمرير اتفاق يفضي إلى قيام دولة انفصالية في دارفور مكونة من ولاياته الثلاث، أو على الأقل، نشوء حكومة إقليمية كما هو الحال في الجنوب، دون أن نستبعد منح الإقليم مستقبلاً حق تقرير مصيره أيضاً بحيث تكون سيطرة الحكومة السودانية على المنطقة الغنية بالثروات ضعيفة، وتتولى حركات التمرد إدارة الإقليم وتطبيق الإملاءات والمطامع الغربية والصهيونية.

 

وقد يلجأ مجلس الأمن الذي تحتمي به المحكمة الجنائية الدولية لتطبيق قرارها على الرغم من عدم توقيع المهيمن عليه، الولايات المتحدة، على بروتوكولاتها، إلى فرض حصار ضار على الشعب السوداني، وهو ما يعتبره المحللون الخيار الأكثر ملاءمة للدول الغربية، وسوءاً في هذا السياق، في تكرار لمشهد حصار الشعب العراقي إبان حقبة صدام حسين.

 

 أما أن يقوم مجلس الأمن بتفعيل البند السابع من ميثاقه، واللجوء إلى استخدام القوة العسكرية لإجبار البشير على تسليم نفسه، فإنه يحول دونه صعوبات من أبرزها حالة الانكماش الداخلي التي يعرفها الجيش الأمريكي وفق رغبة إدارته الجديدة، وقيامه بسحب قواته من العراق ونقل جزء منها إلى أفغانستان، بالإضافة إلى الأزمة المالية العالمية التي تحاصر الاقتصاد الأمريكي وتطيح بوظائف العمال في الولايات المتحدة والعالم.

 

تفتيت السودان ونهب ثرواته وإضعاف العرب والمسلمين لصالح تقوية نفوذ "إسرائيل" في المنطقة، هي الأهداف الكامنة وراء إصدار قرار توقيف البشير مغلفة بذرائع إنسانية وحقوقية واهية، فهل يعي العرب والمسلمون ما يحدق بهم وينصروا العدالة الحقيقة خارج أسوار محكمة الجناية على العدالة الدولية؟!.