الحكومة الصهيونية الجديدة: الدلالات والتوقعات
27 ربيع الأول 1430
طلعت رميح

ما مغزى هذا الارتباك البادي في محاولة تشكيل الحكومة، ولم يخاف حزب كاديما من الانضمام لحكومة نتنياهو إلا بشروط معقدة، وأين نضع موقف أيهود باراك الساعى لانضمام حزب العمل الى تلك الحكومة رغم ألاختلاف بينه ونتنياهو و”إسرائيل” بيتنا –رمزي الحكومة الجديدة-وما هى السياسة المتوقعه لتلك الحكومة تجاه القضية الفلسطينية وفي العلاقات والصراع مع المحيط ...

كلها أسئلة متكاثرة في محاولة فهم ما جرى ويجرى داخل الكيان الصهيوني .هنا يبدو السؤال المفتاح هو :ما طبيعة التغيير الذي جرى في الكيان الصهيوني بعد انتخابات الكنيست وكيف نقرا دلالاته من داخل التجمع الصهيوني، وهل نحن أمام مجرد حالة معتادة مثل كل انتخابات، إذ تأتى النتائج مختلفة عادة عن سابقاتها، ومن ثم تأتى مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة مجرد حالة من حالات المساومة المعتادة التي طالما مر بها الكيان الصهيوني، أم أننا أمام تغيير جوهري في ذهنية ومفاهيم ورؤى باتت تسيطر على الوضع العقلى والسياسي والنفسي للتجمع الصهيوني جراء ما يعيش من حالة رعب وخوف من التفكك والانهيار، انعكست في اختياره لعناصر الخريطة السياسية والفكرية للقادة المعبرين عن هذا الكيان في المرحلة الراهنة، وصارت معطى معقد على صعيد تشكيل الحكومة ؟!.

للإجابة على تلك الساؤلات،يبدو ضروريا الخروج قليلا من حالة التعامل المباشر مع لنتائج الانتخابات، للبحث في الخلفيات الكلية الجارية في داخل الكيان الصهيوني، التي جعلت هذا التحول نحو العناصر الأشد تطرفا وعنصرية ضروريا بل وحاسما، ولنكتشف أن الخلفيات الكلية الجارية في داخل التجمع الصهيوني هي السبب الحقيقي لما نراه في تعقيدات الصراع، خلال تشكيل الحكومة، وكيف انها الحاكمة لهذا التشكيل وللسياسة التي ستسير عليها تلك الحكومة من بعد .
هناك في الولايات المتحدة، ومنذ فترة، أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA تقريرا حول الأوضاع المستقبلية للكيان الصهيوني -ما يزال حاضرا في وسائل الإعلام – جرى فيه رسم صورة مأساوية لما ينتظره، إذ شدد التقرير بوضوح وبلا لبس أو إبهام، على أن الكيان الصهيوني سيتعرض للانهيار التام خلال نحو 20 عاما، شانه في ذلك شأن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو شأن الاتحاد السوفيتي السابق.التقرير أشار إلى أن الكيان الصهيوني سيشهد موجات هجرة عكسية غير مسبوقة ستؤدي إلى تفريغه من سكانه اليهود، في الوقت الذي يتفوق فيه عدد المواليد بين السكان العرب، بما سيحدث انقلابا ديموجرافيا لا حل له .

 هذا التقرير للـ CIA  هذا جرى توزيعه على نواب مجلس الشيوخ الأميركي –صانعي السياسة الأمريكية -مدققا بالأرقام المتوقعة للهجرة ومحددا الأوضاع التي وصل لها التجمع الصهيوني، فأورد أن أكثر من مليوني “إسرائيل”ي بينهم 500 ألف يحملون البطاقة الخضراء أو جواز سفر سوف يتوجهون إلى أميركا للإقامة الدائمة فيها، خلال الأعوام الـ 15 المقبلة، مضيفا أن حوالي مليون و600 ألف “إسرائيلي" يستعدون للعودة إلى أوطانهم في روسيا وأوروبا الشرقية والغرب. وهو ما يعنى ان ما يزيد على 2 مليون صهيوني باتوا في عداد الجاهزين للمغادرة ..الخ.

هنا يمكن فهم نتائج الانتخابات الصهيونية الأخيرة، باعتبارها توجه من التجمع الصهيوني نحو العناصر الأشد تطرفا جراء الشعور بالياس المطبق من استمرار هذا الكيان تحت قيادة الأحزاب القديمة، التي طالما تبادلت مواقع الحكم دون ان تستطيع تامين مصير استمرار الكيان وتثبيته بلا قدرة من اعدائه على اقتلاعه .
ولذلك جاءت نتائج لانتخابات لتمثل تغيرا نوعيا في الحالة السياسية الصهيونية، باعتبارها مبنية على تنامى الشعور داخل "التجمع" الصهيوني بتضاؤل القدرة على البقاء والاستمرار، خاصة بعد العدوان على غزة، إذ لم يكن مصادفة، أن تحدث تلك النتائج وهذه التغييرات بعد تلك المعركة في غزة، التي كانت محاولة أخيرة من الأحزاب القديمة الحاكمة لاستعادة الجمهور الصهيوني من خلال إظهار قوة الجيش وقدرته على تحقيق الأمن والاستمرار للتجمع الصهيوني، فكان لنتائج المعركة- العكسية -تاثير حاسم على اختيار الناخب الصهيوني، إذ أثبتت المقاومة تصاعد قدرتها على مواجهة الجيش الصهيوني واستمرار قدرتها على اختراق عمق هذا الكيان، بما دعم الاستخلاص العام السائد في داخل التجمع الصهيوني، بان قوة الخصوم والأعداء قد تصاعدت وفق اسس تمكنهم من إيقاع الهزيمة بالكيان الصهيوني وبان الإمكانيات لدى المقاومين باتت تتوافر رويدا رويدا، بما يجعلهم قادرين على تحويل حياة الأفراد الصهاينة إلى جحيم، والأهم هو ان هذه المعركة ثبتت مقولة ان هذا التغير الحادث في أوضاع الكيان الصهيوني أصبح يفوق قدرة الكيان الصهيوني على إعادة تغييره –من خلال استخدام قوة جيشه -وفق ما كان جاريا في مراحل سابقة، باعتباره تغيير مرتبط بتغييرات في الوضع الإقليمي والدولي –جاء على حساب الحماة الدوليين لهذا الكيان –ولقوى المقاومة التي لم تعد تلك الحالة القديمة التي كان يواجهها الكيان ويجهضها بين فترة وأخرى، بل هي صارت مقاومة تستهدف وعلى أسس عقائدية انهاء الكيان كليا.

هنا صار تشكيل الحكومة حالة متداخلة من التعقيدات، باعتبارها تجرى في مرحلة تفوق فيها المتطرفون لكن بلا نصر حاسم على خصومهم،وبالنظر الى كونها حكومة تواجهة ازمة مصير.

الأحزاب والجيش..والمأزق
الدارسون للكيان الصهيوني يتحدثون دوما عن معلومة تاريخية لا باس  من التذكير بها لأهميتها وهى أن الأحزاب الصهيونية كانت اسبق في تشكيلها من إعلان الكيان الصهيوني، إذ ان النشأة القائمة على اغتصاب الأرض وطرد أهلها جعلت الأحزاب تسبق قيام الكيان وتلك حالة خاصة من حالات المجتمعات.
والأهم هنا ان تلك النشأة جعلت الأحزاب وقيادتها في مكانة أعلى من الدولة وذات تأثير حاسم عليها، فإذا زدنا على ذلك ان تلك الأحزاب كانت في جوهرها تشكيلات من عصابات مسلحة ادركنا طبيعة هذا التاثير على دور الجيش الذي أصبح هو الحالة الأعلى من ذات الأحزاب، في دوره على صعيد مصير التجمع الصهيوني، وعلى اعتبار ان كل فرد صهيوني هو مجند في الجيش (احتياط) .
والمعنى هنا، ان اضطراب وضع الأحزاب والتحولات في عوامل القوة والضعف بين القديم والجديد فيها وتضعضع أوضاع قدرة الجيش في ذات الوقت، على صعيد الحفاظ على بقاء الكيان، هي المؤشرات التي يبنى عليها الفرد الصهيوني شعوره بالبقاء أو الاندثار للتجمع الصهيوني، إذ هو يعيش في دائرة يتحول فيها بين الساسة بمعيار ما يراه من قوة وضعف الجيش .وهنا لا باس من التذكير بان نمط الأحزاب المسيطرة على قيادة الكيان الصهيوني مع نشأته صارت تتغير مع الوقت بالانتقال من حزب العمل الى تجمع الليكود –بما يعكس حالة من التغيير التدريجي في تلك المعادلة- اذ كان حزب العمل صاحب سيطرة مباشرة وقوية ومستمرة على تلك الدولة حتى نهاية حقبة الستينات، ليحتل مكانته الليكود لفترات،وهو يخلى إلان مكانه على نحو كبير لدور الأحزاب الأشد هوسا وتطرفا .

وهكذا ففي نتائج هذه الانتخابات، نحن أمام تطور كيفي، ولسنا فقط أمام  مجرد تغيير في مواقع الأحزاب بحكم كم  الأصوات الذي حصل عليه كل منها في عملية التصويت.نحن أمام تثبيت شبه نهائي للتغيير الذي جرى كميا خلال السنوات الماضية على قوة حزب العمل الذي سيطر على قيادة الكيان الصهيوني منذ عام 48 وحتى فترة السبعينات تقريبا .ومن ناحية ثانية، نحن أمام تغيير في معالم قوة الحزبين الرئيسيين (الليكود والعمل)، لصالح الأحزاب السياسية الجديدة في الكيان الصهيوني.
لقد أصبحت تلك الأحزاب التي بدأت هامشية بعد تشكيلها منذ فترة قصيرة، الحقيقة الأقوى في الحياة السياسية في الكيان الصهيوني، إذ صارت وحدها من يقوى وتنمو شعبيته بشكل متصاعد على حساب الأحزاب السياسية القديمة .
لقد تراجع الحزب الذي سيطر تاريخيا على الحكم في الكيان الصهيوني الى حزب رابع، كما ظل الليكود في مرتبة الحزب الثاني، بعد ان احتل حزب جديد اخر الموقع الأول (كاديما)، بما جعل الحزبين الأساسيين (العمل والليكود) غير قادرين على تشكيل الحكومة، كما كان عليه الحال منذ وجود الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية ككيان.

ومن ناحية ثالثة، يجد المدقق في أوضاع الحزب الأول الذي جاء الليكود تاليا له –أي كاديما –، حزبا تلفيقيا اقرب الى التفكك مع تعقد الأوضاع أكثر –وقد كان شهد فعلا حالة تفلت قبل إجراء الانتخابات بالفعل -إذ هو حزب شكله شارون كمحاولة لإنقاذ الوضع السياسي في الكيان الصهيوني، في حالة اقرب إلى تشكيل بعض أحزاب السلطة في المنطقة العربية، إذ مثل الشخص (شارون) العامل الأساس في تشكله .

والخلاصة من كل ذلك، ان الأحزاب الأشد عنصرية وتطرفا هي الأحزاب الثابتة الآن ومستقبلا في قيادة الكيان الصهيوني، و أنها صارت البديل الممكن والفعلى لكل التشكيلة السياسية القديمة في الكيان الصهيوني، وهو ما أفادت به دراسات وتقارير واستطلاعات للراى اكدت ثبات موقف الجمهور الصهيوني على رفض "الطبقة الحاكمة ومؤسسات الدولة القائمة .
فإذا أضفنا إلى ذلك، أن الجيش الصهيوني بات هو الآخر محل شك في قدرته على تامين بقاء هذا الكيان واستمراره، وفق ما ظهر خلال العدوان على غزة، ندرك تأثير التقرير الصادر عن الاستخبارات الأمريكية ومدى تعبيره عن ما يتفاعل في داخل الكيان الصهيوني.

الحكومة والدلالات
هنا يبدو من الطبيعى والبديهى القول ان ما جرى في تشكيل الحكومة ليس نمطا من صراعات معتادة كسابقاتها في تاريخ الكيان الصهيوني وأنها تأتى لتعبر عن ازمة الكيان لا أزمة الصراعات الحزبية، كما يمكن القول بأننا نشهد انعكاس الأزمة المصيرية في خلافات وترددات تشكيل الحكومة، بل اننا أمام حالة صافية لمغزى ونتائج ان تشكلت الأحزاب الصهيونية –تاريخيا-على تنوع الرؤية حول كيفية مواجهة الخارج، إذ ها هو الخارج يفرض الارتباك في الداخل الى هذه الدرجة، على الأحزاب وعلى عماد بقاء الكيان الصهيوني، أي الجيش.

ومما يزيد حالة التغيير المرتبكة وضوحا في دلالاتها هو أن أية مقارنة بين الأحزاب الجديدة والقديمة في الكيان الصهيوني، تظهر كيف اننا أمام تغيير هام في الفكر والسياسات والرؤية على نحو اكثر حدة مما كان من قبل .فاذا كان حزب كاديما هو الحزب الذي مثل حالة إنقاذية للحياة السياسية "القديمة"، فان حزب  “إسرائيل” بيتنا و شاس هى احزاب اشد تطرفا وعنصرية دون قبول لأية مواربة أو إتباع لأساليب الدبلوماسية ..الخ، كما الحزبان لهما رؤيتين متناقضتين حول قضايا أساسية في داخل الكيان الصهيوني -إذ احدهما علماني والآخر توراتي –بما يدفع التجمع الصهيوني إلى مزيد الصراع بين التيارين الجديدين في المجتمع الصهيوني ومزيد من الانقسام الجغرافي السكن والسيطرة السياسية على المدن، بين المناصرين والى حد الاقتتال الداخلي، وعمليات الاغتيال ..الخ .
والاهم بالنسبة لنا أن الاتجاه العام الأساس في فكر كل تلك الأحزاب، يأتي في مرحلة تطرح فيها أولوية إعلان الدولة كدولة يهودية ذات نقاء عرقي لليهود، وهو ما لا يتحقق إلا بطرد الفلسطينيين من داخل حدود عام 48، وذلك هو ما بات يعلن صراحة الآن، وهو ما ستكون له تداعيات خطرة على تطور مسار الصراع، الذي سيشهد حالات من العنف هي الأشد دموية منذ ظهور الكيان الصهيوني وحتى الآن، إذ هو يعود إلى معركة مصير تحت شعور بخطر الزوال بعد كل ما خاض من حروب بالأسلحة التقليدية وحتى آخر ما أنتجته الترسانة الأمريكية.