التربية والإعداد ممهدات لتجاوز العقبات!
4 ربيع الثاني 1430

خرج بنو إسرائيل من أرض مصر يتبعون موسى إلى حيث أمره الله، ومن رسالة الموسى التي أمر بها أن يخرج بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، يدل على ذلك قوله عز وجل: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طـه:47)، فالمطالبة بإرسال بني إسرائيل مع موسى كانت مع بدء الدعوة، قال الله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ} (الأعراف:104، 105)، ولهذا قال فرعون فيما أخبر الله عنه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} (طـه:56، 57)، وهذه الكلمة تلقفها الملأ من قومه عنه أو تلقفها عنهم، فقد قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (الأعراف:109، 110)، بل لما نزل بقوم فرعون الرجز قالوا ما أخبر الله به: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف:134-136).

 

والمقصود من هذا التذكير بأن بعثة موسى كان من أهدافها استنقاذ بني إسرائيل، وقد أعلن موسى هذا الهدف منذ اللحظة الأولى للجهر بالدعوة، وقد كان ذلك الاستنقاذ إلى جهة معينة، ولهذا توجه موسى ببني إسرائيل جهة البحر مع أنه يعلم أنهم متبعون ولم يسلك بهم الجهة الجنوبية أو الغربية التي لا بحر فيها، كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} (الشعراء:52)، وقال سبحانه: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} (الدخان:23).

 

والشاهد من هذا التقرير أن بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم خارجون إلى أرض آبائهم وهي الأرض المقدسة بيت المقدس وأكنافه من قرى الشام وبواديها، فتحملوا المشاق وخاطروا هاربين من فرعون، فلما قاربوا بلوغ الغاية نكص من نكص، وهذا يشبه ما قصه الله تعالى عن أتباع لهم من بني جلدتهم جاءوا بعدهم قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:249)، فهم خرجوا قاصدين قتال من أمرهم الله بقتالهم، وهم يعلمون شأنهم وخطرهم، فلما قاربوا بلوغ الغاية نكص من نكص منهم.

 

وفي هذا الموقف دروس أقف مع اثنين منها:
1- من الناس من يشرع في العمل وهو يعلم ما سوف يلقاه من العنت نظرياً، لكن تدفعه الحاجة إلى دخوله دون إيمان راسخ وقناعة كافية، ومثل هذا ينقطع عن المواصلة أول ما تنقطع حاجته ويستغني أو أول ما يلاقي من العنت والمشقة ما يفوق حاجته، وهكذا قوم موسى علموا ما يراد بهم ومنهم، لكن الإيمان لم يتمكن من نفوس كثير منهم، وإن كان معهم أصله الذي هو التصديق، فخرجوا مع موسى فراراً من فرعون الذي كان يُذَبِّح أبناءهم ويستحي نساءهم ويستعبد عامتهم، حتى بلغ استغلاله واستعباده لهم منعهم من العودة إلى أوطانهم والخروج مع موسى، فلمّا أبصر قوم موسى بارقة أمل تنجيهم من فرعون وقومه أطاعوه وخرجوا معه، وفي أثناء هذا الخروج بدرت منهم البوادر التي تدل على عدم تمكن الإيمان من نفوس أكثرهم، ولو كانت الكثرة لمن تمكّن الإيمان منهم، لكانت الغلبة لهم، ولما استطاعت القلة من جعل العجل معبوداً، ولاكبتوا هارون ومن معه لما نهوهم عن عبادة العجل، ولا اختار موسى أربعين فقط من جمهورهم، ولا تجرأ من تجرأ على إيذاء موسى وإشاعة رميه بالأدرة، ولا أرجفوا عندما أتبعهم فرعون وجنوده وتصايحوا: (إنا لمدركون)، ولا كان ما قاله ما قد كان مما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة:24، 25)، والله عز وجل إنما ذكر مخالفة رجلين فقال: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، على اختلاف في المراد بالرجلين هنا!

 

وهذا يقودنا إلى نتيجة مهمة وهي أن التربية الإسلامية، والبناء الإيماني من الأهمية بمكان قبل أن يتأهل المرء للعمل الإسلامي الذي تعرض له فيه فتن السراء والشدة، وقد يبتلى فيه بالبأساء والضراء، فإذا كانت التربية الإيمانية هشة رخوة قعد العامل عن العمل لإدراك الهدف العالي المنشود، والتمس بنيات الطريق، وتنازل عن الأهداف العليا والمقاصد الكبرى قانعاً بما هو دون مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وهذه قضية شائكة يختلط فيها على العاملين أمران:
الأول: التنازل عن الأهداف والمقاصد إلى أهداف ومقاصد دنيا يرتضيها ويجعلها غاية همه، وهذا هو المذموم.
والثانية: عمل الممكن والإعداد والترقب لما فوقه عند الإمكان حتى بلوغ الغاية المنشودة، وهذا هو المطلوب.
وضعيف الإيمان يسلك المسلك الأول ويلبس زاعماً أنه من أصحاب المسلك الثاني، والعقلاء ينظرون إلى فعله، ويقيمون وضعه ويعلمون الممكن، ويعرفون من لحن قوله حاله على الحقيقة، وحسبنا أن الله تعالى مطلع على عباده لا تخفى عليه خافية، فمن يخادع الأفاكون؟ وعلى من يبهرجون!! وقد فضحت سنته سبحانه وتعالى أمر هؤلاء إذ مثلهم لن يوصل الأمة إلى الأهداف السامية المرضية، بل غاية هم أحدهم ومبلغ جهده حمل الأمة على التنازلات وتسويغ ذلك بالرخص المقيدة والأمور المشتبهة.

 

2- كثير من الناس قد يتحمس لعمل إيجابي ويبدأ معك فيه، فإذا جد الجد انقطع، وهو أول الأمر صادق الرغبة، لكنه ما تأهل لتحمل الأعباء والمشاق، فيظن في نفسه قوة وقدرة، فإذا عالج الأمور بدت له نفسه على حقيقتها، وكم من رجل غرته نفسه فانخذل عند أول اختبار، وعند البلاء –عافانا الله وإياكم وأسبغ علينا ستره وأدام نعمه وفضله- يتمحص الناس، وغالباً ما يثبت من تهيأ لتحمل المشاق، ولهذا كان من حكمة الله عز وجل أن هيأ العهد المكي وأحكامه للعصابة المؤمنة الأولى، فصقلت التربية النبوية في ذلك العهد طلائع التمكين، فتأمل ما كان منها، وخذ على سبيل المثال لا الحصر مثلاً واحداً هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك البهراني الكندي المعروف بالمقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يروى أنه سابع سبعة في الإسلام، اضطره التضييق إلى هجرة الحبشة الثانية وقيل هاجر الهجرتين إلى الحبشة، تأمل هذا الرجل الذي عاصر العهد الأول، ماذا كان منه؟ يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه –وناهيك به- أنه قال: شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم و هو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:  (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك.
قال: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك و سره.
و في رواية: جاء المقداد يوم بدر و هو على فرس، فقال: يا رسول الله، فذكره(1).
إذاً فالواجب أن لا يغتر المرء بكثرة الأتباع والجمهور العريض، وعليه أن يعول كثيراً على أولئك الذين حققوا الإيمان وتربوا التربية الشرعية وصقلتهم التجارب والأحداث، فمثل هؤلاء أجدر بالثبات ومواجهة الملمات من غيرهم في الغالب.

______________
(1) انظر تاريخ مدينة دمشق 60/160-162.