اعتذار البابا
12 ربيع الثاني 1430
د. محمد يحيى

في سابقة جديدة من نوعها أرسل بابا الفاتيكان مؤخرًا خطابًا إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية يعتذر فيه إليهم عن قراره الذي كان أصدره منذ شهور قليلة بإعادة ثلاثة من الأساقفة الذين يوصفون عادة بأنهم من التقليديين إلى مناصبهم بعد أن كان البابا السابق قد عزلهم، وكان أحد هؤلاء الأساقفة الذين أعيدوا على يد البابا الحالي هو الأسقف الذي أثار ضجة مؤخرًا بسبب ما ذكر من أنه يرفض مسألة الهولوكوست أو المحرقة ويشكك في وقوعها على الكيفية التي تقول بها الدعاية الصهيونية، وكان هذا الموقف من جانب الأسقف المذكور سببًا في مطاردته من جميع وسائل الإعلام الغربية، وسببًا أيضًا في طرده من الأرجنتين التي كان يقيم فيها حيث يدير مؤسسة دينية تابعة للفاتيكان بل وكان أيضًا سببًا في أن تطلب ألمانيا محاكمته وتسليمه إليها من انجلترا حيث يقيم الآن لكي تحاكمه في أراضيها وفقًا لقانون ألماني يحرم بل ويجرم أن إنكار أو تشكيك في مسألة إبادة اليهود المزعومة.

 

وذكر البابا في خطاب اعتذاره غير المسبوق إلى جميع أساقفة كنيسته أنه عندما اتخذ قراره بإعادة الأسقف المذكور لم يكن يعلم بأنه يتخذ مثل هذا الموقف من المحرقة بل ويروج له على موقعه في شبكة الإنترنت العالمية.
والحق أن مثل هذا الخطاب هو يدل على مدى قوة وسيطرة اللوبي الصهيوني على أوروبا والغرب عمومًا إلى درجة تصبح معها أي إهانة أو أي تصرف يزعج هذا اللوبي ولا يوافق عليه قضية كبرى تخضع لها أعناق جميع مؤسسات الغرب بما في ذلك الكنيسة الكاثوليكية التي تفاخر بأنه ينتمي إليها أكثر من بليون نسمة والتي يقول عنها الكثيرون أنها ذات نفوذ خفي وصامت في جميع دوائر الغرب وبالذات المالية والاجتماعية منها، لكن هذا الخطاب يثير أيضًا تساؤلات حول مصدر قوة هذا اللوبي الصهيوني.

 

إنه بالقطع لا يستمد قوته من دولة "إسرائيل" لأن "إسرائيل" نفسها تحتاج إلى الغرب لوجودها ولاستمرار الدعم المالي والسياسي والعسكري لها، إنما يشير خطاب الاعتذار الذليل هذا، ويشير أيضًا في تعميمه على أساقفة الكنيسة الكاثوليكية بالذات التي ينتمي إليها البابا إلى أن نفوذ اللوبي الصهيوني إنما يستمد من مؤسسات وأوضاع أخرى غير "إسرائيل"، وغير أيضًا ما يشاع عن القوة المالية لليهود في الغرب، ذلك لأن هذا اللوبي إنما في تصوري يستند إلى مؤسسات وقوى مختلفة عاملة على الساحة الغربية وهي التي تدعمه بالقوة وتمده بالأسباب التي تجعله يثير الخوف والرعب في قلب مؤسسة كبرى مثل الكنيسة الكاثوليكية، هي نفسها تثير الرعب في قلوب شتى الدول الأوروبية، ولا ننسى مثلاً الدور الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية في إسقاط الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، وعلى رأسها النظام في دولة بولندا، وأيضًا الأنظمة في دول أخرى مثل المجر ورومانيا بل وحتى داخل روسيا نفسها.

 

إن اللوبي الصهيوني بلا شك يعتمد على نفوذ للأندية والمحافل الماسونية والأندية أيضًا التي تشابهها في الحركة مثل أندية الروتاري والليونز وما شابه كما يعتمد أيضًا على مؤسسات مثل الهيئات المالية الدولية الكبرى ونفوذها المتشعب وعلى الشركات العملاقة متعددة الجنسيات وعلى الشبكات الإعلامية الغربية أو على الأقل بعضها ممن له سطوة في أنحاء العالم مثل الإذاعة البريطانية وبعض المحطات الأمريكية الأخرى، وكل هذه القوى تساند هذا اللوبي وتدعمه ويقف ورائها مجموعات من مراكز الأبحاث والجامعات والمطبوعات التي تروج باستمرار لفكرة الهولوكوست والتي تدعم المواقف الصهيونية و"الإسرائيلية" على طول الخط، وإذا كان بابا الفاتيكان وهو الذي يدور الآن ويصول ويجول على المسرح العالمي متزعمًا لكنيسته ومدعيًا القوة الجبارة وهو الذي يهاجم الإسلام والمسلمين ولا يخجل منهم.
أقول إذا كان هذا البابا يقع أو يخر أمام اللوبي الصهيوني ويرسل خطابات اعتذار ذليلة لأساقفة كنيسته، فما بالنا ما يحدث في أرجاء عالمنا الإسلامي والعربي حيث الحكومات ضعيفة وحيث النخب هشة وحيث الدول ومؤسساتها أصبحت خاوية ومتهاوية.

إن البابا وهو القوي المتصدر للكنيسة الكبرى للعالم المسيحي يقع ذليلاً أمام اللوبي الصهيوني فما بالنا ما الذي سوف يحدث من جانب أوضاع ونخب في العالم العربي والإسلامي، هل يمكن أن نتوقع منها أدنى مقاومة لهذا النفوذ، بل على العكس إن هذه النخب قد سلمت نفسها راضية قانعة إلى اللوبي الصهيوني والقوى التي تسيره وتحف به وذلك لقاء أن يتفضل ذلك اللوبي والقوى المتحالفة معه في العالم الغربي بأن يساعد هذه النخب على البقاء في مقاعد النفوذ والاستمرار فيها وعلى الاستقواء على شعوبها والأهم من ذلك أن هذا اللوبي الصهيوني إذ يساعد تلك النخب العلمانية المتناثرة في أرجاء عالمنا العربي والإسلامي إنما يساعدها لكي تؤدي مشروعها الكبير أو بالأصح هو مشروع الصهيونية الأكبر بالقضاء على الإسلام نفسه وعلى قواه الحية وعلى شتى مؤسساته، ولا يدفع اللوبي الصهيوني إزاء هذا إلا ثمنًا قليلاً وشحيحًا، وهو ثمن دعم إعلامي بسيط أو دعم مادي محدود إلى هذه النخب التي تقدم له خدمة العمر التي لم يكن يحلم بها والتي لم تستطع دولته القائمة في "إسرائيل" أن تؤدي هذه الخدمة له فعهد بها إلى النخب التي تؤديها الآن بينما تجلس "إسرائيل" مستريحة في مواقعها.

حقًا إن خطاب البابا هذا يكشف عن الكثير فوق أنه يثير الرثاء والسخرية من ذلك الذي يهاجم الإسلام مستقويًا بالغرب مستقويًا باللوبي الصهيوني، بينما هو يركع أمام هذا اللوبي الصهيوني عند أول هفوة تبدو حتى ولو من بعض أركان كنيسته الصغار جدًا.