العراق.. فشل مشروع احتلاله .. فإلى أين ؟
17 ربيع الثاني 1430
طلعت رميح
مع دخول احتلال العراق العام السابع , يبدو من الضرورى القيام " بجردة حساب " لعملية الغزو و مشروع احتلال العراق , و القوى المشتبكة فى صراع دموى الان لتقرير مستقبل العراق .
يحتاج الامر الى وقفة تامل و تبين تجرى فى ثلاثة اتجاهات فى البحث و الفهم و الرؤية . اولها , تحديد وفهم طبيعة وجوهر مشروع الاحتلال . ومشروع الاحتلال ، ليس هو خطة الغزو او خطة الاحتلال بالقوة العسكرية الامريكية الاجرامية ، وليس هو تشكيل سلطة عاملة تحت امرة الاحتلال ، وليس حتى تقسيم العراق . فكل تلك وسائل لتحقيق اهداف مشروع الاحتلال – اما مشروع الاحتلال " فهو العراق الذى اراده الغازى المحتل" وكرس لاجله خطة الاحتلال و شكل على اساسه ووفق معطياته سلطة الاحتلال .
وثانيها ، الى اين وصل العراق . والقصد هو ضرورة تقديم رؤية شاملة لنتائج الصراع الذى جرى بين مشروع الاحتلال ، و المجتمع العراقى مقاومته ورموزه منذ بدء الاحتلال وحتى الان . والمعنى هو ضرورة تشكيل رؤية لاوضاع العراق حاليا ، نتبين فيها , النتائج التى وصل اليها مشروع الاحتلال و التدخلات الايرانية و مقاومة الشعب العراقى وكل ما تغير فى العراق نتيجة هذا الصراع . اى الصورة الكلية للعراق حاليا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وثالثها : كيف نرى مستقبل العراق . و القصد هو تبين و محاولة فهم العلاقة بين مشروع الاحتلال ووسائله من جهة ، ونتائج الصراع من جهة اخرى ، وكيف نستشرف منها - وفق ما هو واضح امامنا من علامات و اوضاع على الارض - ، المؤشرات الرئيسة التى تحدد مستقبل العراق ، و العوامل المؤثرة فى صناعة هذا المستقبل .
مشروع الاحتلال
حين بدا القصف الاجرامى للقوة العسكرية الامريكية ،لكل شىء ثابت او متحرك ،بشرا وابنية ،ولكل ما هو مدنى وعسكرى او منجز حضارى ،كنا امام تطبيقات نظرية الصدمة و الترويع .. صدم الشعب العراقى وترويعه ، حتى يستسلم وتنثنى ارادته امام الغزو و الاحتلال . كنا امام اوسع عملية هدم لوطن عرفها التاريخ . وقبلها وبعدها ، كانت التصريحات الاعلامية و النشاط الاعلامى المبرمج وفق نظريات التاثير و الحرب النفسية ، لتحقيق اهداف خطة وعملية الاحتلال ..من خلال خداع الشعب العراقى . لكن كل ذلك – رغم كل جرائمه و ضجيجه - ، كان من الاساس ضمن خطة الاحتلال ، وما كان منه ضمن مشروع الاحتلال ،كان ما جرى من هدم كل شئ على ارض العراق .. و فى المجتمع العراقى ،ليصبح هذا البلد جاهز لتلقى مشروع الاحتلال . كان ذلك تمهيد باساليب الحرب و الاعلام والسياسة ، لبدء مشروع الاحتلال .
اذن ما القصد .. او ماذا نقصد بمشروع الاحتلال .
مشروع الاحتلال
مشروع الاحتلال ، كان تحديدا ، هو تحويل العراق كله ( شعبا وجيشا ودولة ) الى حالة تابعة للولايات المتحدة ، تسير وفق "مبادئها و افكارها " .. وترتبط سياساتها و اقتصادها .. بالسياسة و الاقتصاد الامريكى .. فى حالة اعقد كثيرا من فكرة الاحتلال و الاستعمار القديم . مشروع الاحتلال كان تغيير فكر مجتمع .. ليتحول من رؤية وبناء عقائدى وفكرى وسياسى واقتصادى واجتماعى كان قائما قبل الاحتلال الى حالة اخرى .
و لاجل تحقيق ذلك , كانت هناك جوانب تمهيدية واقصائية و تدميرية . قتل ودمار وتهجير وابادة ،لتحويل المجتمع والدولة الى "حالة سيولة تامة يسهل اعادة تشكيلها". اهداف الاحتلال كانت عديدة و متعددة ،منها اخراج الجيش العراقى من المواجهة مع الكيان الصهيونى , واخراج العراق من جسد الامة , واستغلال و استنزاف بترول العراق لانقاذ الاقتصاد الامريكى من ازمته و كان هناك استهداف لدولة ذات رمزية كبرى فى تجربة و تاريخ الاسلام والمسلمين .
لكن من يدرس هذه الاهداف , يجدها حاضرة فى كل ما جرى امريكيا ضد الدول العربية و الاسلامية ، سواء تم ذلك بالاتفاقيات و المعاهدات والضغوط و المساعدات والهبات والقروض او بالقوة المسلحة .. الخ .وذلك امر مختلف عن مشروع الاحتلال ، الذى هو تغيير المجتمع العراقى وتوجهاته من الولاء لتاريخه وحضارته واستقلاله وامته و التواجد داخل اطرها .. الى حالة كلية تابعة للولايات المتحدة .
نحن لم نشهد مجرد عملية غزو واحتلال العراق من خلال عملية عسكرية لاسقاط النظام والسيطرة على الحكم وتشكيل حكم جديد وادارة البلاد لتحقيق المصالح السياسية و الاقتصادية لدولة الاحتلال .
كما نحن لم نر فقط ، مجرد تاسيس حكم فى العراق لتنفيذ مصالح دولة الاحتلال , بل ان الشعارات التى رفعت خلال الاحتلال الاعلامية و السياسية التمهيدية للاحتلال لم نكن فقط امام نمط ادارة تستهدف تعزيز وانجاح خطة الاحتلال ،بل كنا امام  تحديد لمفهوم " العراق الجديد " الذين سعوا الى تشكيله ، وفق ذاك النمط الذى رايناه من احاديث امريكية عن " الشرق الاوسط الجديد " .هنا اصبحنا امام بعد حضارى شامل للتغيير ، وليس مجرد احتلال ارض و استعمارها . والحقيقة ان ذلك هو ما يمكن ان نسميه "النمط الامريكى للاستعمار" فى ظل العولمة ،والذى هو مختلف عن الاستعمار الاستيطانى (فرنسا فى الجزائر-الصهاينة فى فلسطين ..الخ) وعن الاحتلال التقليدى (بريطانيا فى الهند –اليابان فى اسيا ماقبل الحرب العالمية الثانية والسوفيتى فى اوروبا الشرقية..الخ ).
لو كان الامريكان يريدون تشكيل حكم " عميل و السلام " فى العراق ،لثبتوا الذين تعاونوا معهم وقبضوا الاموال منهم.. انتهى الامر الى تحقيق المصالح و الاهداف التى قررها وحددها صاحب قرار الاحتلال وواضع خطته.
وفى عملية احتلال العراق ، نحن امام مشاهدات و اتجاهات هامة واساسية تكشف عن نوعية ومضمون مشروع الاحتلال .كانت عملية نهب المتاحف واحراق الذاكرة العراقية فى كل يوم بهدف " مسح الهوية الوطنية و الحضارية " لشعب و مجتمع العراق ، لكى يجرى تاسيس مشروعية عقدية وفكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية اخرى وفق مشروع الاحتلال . وكان اطلاق شعارات الليبراليين ، واطلاق عناصر فكرية وسياسية تروج لتلك المفاهيم ، و اختيار عناصر الحكم والفئات المتعاونة من هذا النوع ، وكان مشروع الدستور ، والتحركات التى جرت داخل النسيج العراقى ، جميعها كانت تهدف الى تغيير هوية المجتمع . بل كان اختيار عناصر معظمها حاملة لجوازات سفر غربية فى موقع الفعل فى سلطة الاحتلال ومستشاريه امرا يرتبط بمشروع الاحتلال ،حتى من حيث الولاء والارتباط المباشر "بمشروع الاحتلال ".
كان ذلك هو مشروع الاحتلال .
العراق الان
من نافلة القول, التاكيد على ان خطة احتلال العراق ،قد نجحت فى هدم منجزات العراق الصناعية والعلمية ، وفى اثارة الاضطرابات داخل بنية المجتمع العراقى اجتماعيا واقتصاديا ، من خلال عمليات التهجير الداخلى والخارجى ، ومن خلال محاولات احداث فتن طائفية وتقسيمات للهوية والجغرافيا.. الخ .
لكن مشروع " اقامة عراق اخر " فشلت منذ اول انطلاقة للمقاومة , و بتاسيس هيئات تتمسك بالمشروع العراقى الاصلى على صعيد الهوية ،فشل مشروع الاحتلال بعدما انعزلت "فكرة الاحتلال " و"النحب" التى جاء بها وثبتها فى الحكم ،وبشقوط العارات البراقة الخداعية ،وبعدم قدرة مشروعه على اعادة "هيكلة" العقل والمجتمع العراقى والاقتصاد ،فاقتصر الامر على حالة الهدم فقط .
وهنا ، فان العراق اليوم ، هو عراق حقق " افشالا " لمشروع الاحتلال ، لكنه فى وضع خطر , بفعل نتائج خطة الاحتلال التى توقفت عند حد انجاز الهدم.
فعلى المستوى الاقتصادى و الاجتماعى نحن امام وطن وجهت " للتنمية و التطور الاقتصادى و التركيب الاجتماعى " ضربة قويه . كما نحن امام مجتمع يعيش حالة من الاضطراب السياسى و الاجتماعى . ثمة مشكلات اجتماعية تتعلق بعمليات التهجير ، وبعثرة الفئات الوسطى فى المجتمع العراقى .
وعلى المستوى السياسى فنحن امام قوى عديدة ومتعددة ومتصارعة ، فهناك القوى التى جاء بها الاحتلال الامريكى ، وهناك القوى التى مولتها وساندتها ايران ، وكلاهما الان يسيطر على جهاز الدولة العراقى ، وهى اذ تستمد قوتها من وجود الاحتلال ، غير انها فى ذات الوقت صارت تطور اجهزة قمعية خاصة بها ايضا .
وهناك قوى شاركت فى لعبة الاحتلال – العملية السياسية ومجالس الحكم و الانتخابات وغيرها - لكنها لم تحصل على ما حصلت عليه القوى القادمة مع الاحتلال و المتعاونة معه ، ولا على ما حصلت عليه القوى القادمة من ايران والمتعاونة معها . ومنها قوة الصحوات التى صارت الان منقسمة بين اغلبية تركت " فى العراء " دون ان يجرى ضمها فى داخل اجهزة الدولة – بل تجرى عملية تصفية منهجية لها بالقوة المسلحة - ، واقلية ضمنت بعض من مكاسب الاحتلال وسلطته .
 وهناك قوى المقاومة ، باطيافها و اشكالها واساليبها العديدة و المتعددة .
فهناك هيئة علماء المسلمين ، التى شيدت رؤية وبناءا عقائديا وفكريا وسياسيا وجماهيريا ، كضمير وراية وقيادة لفكرة المقاومة العراقية ،ومشروع العراق فى اصالته , وهناك هيئات وجماعات المقاومة المسلحة وجبهاتها الفاعلة على الارض , وهناك قوة هائلة من جموع الشعب العراقى التى عانت من الاحتلال و الحكم الذى شكله الاحتلال ، وتنتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التى ينزح فيها الاحتلال ، لتكنس كل تلك الظواهر التى فرضها الاحتلال . وهناك الكتلة السكانية الضخمة التى هجرت خارج العراق ، والتى لاحظ كل المراقبين و المتابعين ، انها فى انتظار لحظة ما فى الصراع ، تحدث فيها خلخلة اوسع لجهاز قوة الاحتلال ،وتطورا اعلى فى المقاومة على نحو ما ، لكى تعود للعراق.
هذه الكتلة السكانية الهائلة ، هى قوة صراع لصالح المقاومة وهى قوة استقرار المجتمع العراقى ، وهى صاحبة الرؤية الاوسع لهوية ومشروع العراق .
وتلك هى القوى المتصارعة الان , على صياغة مستقبل العراق .
معالم المستقبل
 فى محاولة وضع تصور لتطور الاوضاع مستقبلا فى العراق ، فمن داخل المرحلة الحرجة الراهنة ،يبدو ان ثمة ظواهر اساسية صارت تحدد اتجاهات الاحداث و تطوراتها مستقبلا.
الظاهرة الاولى: اننا امام " استقرار العراق " على مشروع المقاومة . والقصد هنا اننا نتابع منذ فترة ظهور اعمال فدائية استشهادية .. متكاثرة متطورة من مواطنين عراقيين ليسوا " مسيسين " وفق نهج ورؤية وتنظيمات المقاومة . كان ذلك باديا فى بطولات عديدة ، لمواطنين عراقيين اعطوا السلاح لقتل المقاومين ، فوجهوا اسلحتهم تجاه الاعداء ، وكنا فى مشهد البطل العراقى منتظر الزيدى امام نمط اخر من تضحية اعلامى لمواجهة عدوه .. اصبحنا نشهد شجاعة متناهية لابطال " غير متوقعين " وتلك اهم دلالات انحياز المجتمع العراقى لاستقرار العراق على رفض مشروع الاحتلال وتمسكه بمشروعه الوطنى .
الظاهرة الثانية : ان احداث متكاثرة فى داخل كل " حالة الاحتلال " باتت تظهر كاشارات على تفكك حاسم لسلطة الاحتلال ،اذ بات العراقيون يكتشفون فى كل لحظة و بشكل متنامى .. فشل " التركيبة السياسية " التى شكلها الاحتلال ، سواء لان " اشكالية " المنطقة الشمالية الكردية فى العراق لم تحل ، او لان البرلمان الذى شكله الاحتلال انكشف زيفه امام اعين العراقيين وصار عاجزا حتى عن اختيار رئيسا له ، او لان التصويت فى الانتخابات قد انتهى الى رفض ومقاطعة شعبية واسعه ، او لان الميليشيات التى جاءت مع الاحتلال ، كانت ذراع التصفية و التهجير , صارت مكشوفة الاهداف لدى المواطنين العراقين .
الظاهرة الثالثة: ان القطاعات السكانية العراقية التى كانت هدفا لكل دعايات الانفصال و التفكك ، قد اظهرت رفضا متصاعدا وتحولت الى المواجهة ، كما هو الحال فى جنوب العراق وشماله ، او كما ظهر فى الرفض الكامل للفيدرالية او لان الوقائع اظهرت انها محاولة من امراء الحرب وامراء الاحتلال ، لتشكيل قطاعات جغرافية يحكمونها , و فصارت فعلا تجرى مقاومته من المواطنين العاديين .
تلك الظواهر تحدد ملامحا هامة لاتجاهات التغيير فى اوضاع العراق ،فاذا اضفنا لذلك ان العراق يواجه قضايا لا تقبل التاجيل اقتصاديا و اجتماعيا ، تفرض غطا من التفاعل العميق المتنامى فى الصراع الجارى ،فالاغلب اننا امام اتجاها صاعدا لمواجهة ظاهرة الاحتلال و السلطة الكائنة الان ،بما يدفع هذه السلطة الى حالات قمع شديدة واسعة مع بدء " سحب " بعض القطاعات العسكرية الامريكية .والمعنى اننا سنشهد فى المرحلة القادمة تصاعدا فى الصراع الداخلى ووفق نمط من المد الشعبى والمساهمة الشعبية الجماهيرية فى الصراع الى جانب المقاومة التى ستشهد مرحلة جديدة من التحول الى نمط شعبى واسع وعميق الجذور ،وهو ما يشير كله الى ان مشروع المقاومة تتعزز قدراته واحتمالات خسمه المعركة لمصلحة العراق ومشروعه الاصيل فى نهاية المطاف .