تجفيف المنابع
20 ربيع الثاني 1430
د. محمد يحيى

سمعنا عن مفهوم تجفيف المنابع منذ أوائل الثمانينيات عندما أخذت السلطات في بلد عربي صغير نسبيًا في المغرب العربي في اتباع سياسة ترمي إلى تضييق الحصار، وخنق الأفكار التي تروج أو تتداول بين الجماعات الإسلامية وذلك من خلال السيطرة على المساجد، وإغلاقها إن تطلب الأمر والرقابة الصارمة على المطبوعات، وتعديل المناهج التعليمية، وإلغاء المعاهد الدينية أو حصر نشاطها في مجرد تعليم العبادات دون المعاملات أو العقيدة وما إلى ذلك من الإجراءات التي وصفت كلها بأنها تستهدف منع الأفكار من الوصول إلى الجمهور المسلم في ذلك البلد، وهي الأفكار التي وصفت بأنها متطرفة على رغم أنها أفكار تدور حول العقائد الإسلامية والعبادات والمعاملات والتاريخ الإسلامي، وقبل كل شيء تتصل بالشريعة وتتصل بموقف الإسلام من الحياة ومن الأمور الجارية.
وقد انتشر تعبير تجفيف المنابع بعدها ليعم بلدانًا عربية أخرى صارت في هذا المجال صوتًا أبعد إلى حد أنها تفوقت على البلد العربي الصغير الذي نشأت فيه هذه الفكرة أول مرة، ولكن المتابع لمجريات الأحداث يتبين له أن هذه الفكرة لم تنشأ أصلاً في هذا البلد العربي الصغير أو في البلدان العربية والإسلامية الأكبر التي صارت مساره حتى باكستان مثلاً التي أصدر رئيسها السابق مشرف قرارًا منذ سنوات قليلة يمنع فيه المدارس والمعاهد الدينية، ولاسيما ما كان يتبع منها بعض الجماعات الإسلامية الكبرى.

إن فكرة تجفيف المنابع هي فكرة نشأت أصلاً في الغرب ومارسها الغرب بنجاح أو بتفوق منذ عهود بعيدة ولعلنا إذا اكتفينا فقط بالعودة في الماضي إلى زمن الحرب العالمية الثانية سوف نجد العجب العجاب، فبعد هزيمة ألمانيا في تلك الحرب وأيضًا بعد هزيمة اليابان، جلس القادة العسكريون الأمريكيون وأقول القادة العسكريون، وليس الساسة، أو أصحاب الفكر أو غيرهم من القواد في الأمة الأمريكية. جلسوا هؤلاء العسكريون لكي يبحثوا في طرق يتمكنوا بها من اقتلاع الأفكار التي وصفت بأنها متطرفة والتي تدور حول القومية الألمانية أو القومية اليابانية وفي البداية كانت الدعوة المعلنة من جانب هؤلاء العسكريين أنهم يريدون اجتثاث جذور النازية، أو القومية اليابانية العنصرية المتطرفة، ولكن مع تطور الوقت ثبت أن ما يفكر فيه هؤلاء القادة العسكريون إنما هو اجتثاث واقتلاع الهوية الألمانية واليابانية نفسها وإحلال هوية أمريكية محلها حتى على حساب الهوية العريقة، وأقصد الألمانية التي غذت في السابق الهوية الأمريكية نفسها وساعدت في تكوين بعض جوانبها من خلال الأفكار الفلسفية والأدبية والسياسية والاقتصادية التي انتقلت من ألمانيا إلى أمريكا على مدى القرن التاسع عشر وما بعده.

 

أما بالنسبة لليابان، فقد كان الأمر واضحًا، وهو أن مفهوم تجفيف المنابع لا يقتصر على منع بعض الأفكار القومية المتطرفة هنا وهناك، بل أنه يمتد إلى أمركة الحياة اليابانية بالكامل وأمركة الدولة والشعب وإعادة صياغتهما على النموذج الأمريكي والغربي عمومًا في أشد توجهاته سوءًا نحو الاستهلاك، ونحو الرأسمالية الجامحة بلا ضوابط، ولم يتوقف مفهوم تجفيف المنابع عند ألمانيا واليابان المهزومتان في الحرب العالمية، بل إنه امتد في السنوات الأخيرة إلى الكتلة الشرقية السابقة، حيث بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية عملية واسعة من أوربة وأمركة هذه البلدان حتى وصولاً إلى فرض مذهب ديني مسيحي عليها يخالف مذهبها الأصلي، وهو الأرثوذوكسي فبالتالي نشأت جماعات التبشير والتنصير التي تحول أتباع المذهب الأرثوذوكسي في روسيا وفي أوروبا الشرقية إلى المذاهب البروتستنتية المختلفة بل وأيضًا إلى المذهب الكاثوليكي الذي نشطت كنيسته في هذا الصدد، وبالطبع فإن هذه الأنشطة التبشيرية لم تستطع أن تمتد إلى الكتل السكانية المسلمة في روسيا السابقة بل ترك أمر هذه الكتل للسلطات الروسية العسكرية لكي تقمعها وتكبتها رغم دعاوى روسيا الجديدة بأنها سوف تمارس الديمقراطية والتحرر حتى في الجمهوريات السابقة التي كانت خاضعة للإتحاد السوفيتي.

 

والخلاصة هي أن مفهوم تجفيف المنابع الذي يمارس الآن وعلى مدى العشرين عامًا الماضية، على امتداد الساحة الإسلامية، والذي ما يزال هو السائد الآن على ساحة الفعل الاجتماعي والثقافي من جانب الأنظمة في تلك البلدان ليس كما يتبادر إلى الذهن هو مفهوم وليد تفكير بعض الأجهزة الأمنية ضيقة الأفق والمحدودة أو وليد تفكير بعض النخب العلمانية الطامحة في البقاء إلى السلطة والقضاء على الإسلام، وإنما هو مفهوم ألقي إلى هذه النخب، وإلى تلك الأجهزة من جانب الغرب ومن جانب القوى الصهيونية والصليبية السائدة في الغرب والناشطة على الأرض الإسلامية لكي تطبقه في بلادها بنجاح كما طبقه الغرب نفسه قبل ذلك، وعلى مدى القرن العشرين، بل وربما قبله في بلدان غربية صميمة مثل ألمانيا وفي بلدان أسيوية وشرقية قوية مثل اليابان وفي بلدان أوروبية شرقية كبرى مثل روسيا ونجح فيها كلها إلى الحد الذي أصبح معه الآن يلاحظ وبفخر أن روسيا قد انتشرت فيها المظاهر الغربية بدأ من المافيا (أي العصابات والجريمة المنظمة)  وصولاً إلى الاتجاهات الاستهلاكية بل ويلاحظ الغرب أيضًا وبنوع من الفخر أن أسلوب تجفيف المنابع أو اجتثاث الهوية الثقافية والاجتماعية قد أخذ يصل حتى إلى دولة مثل الصين كانت إلى أعوام قليلة تقاوم كل هذه التوجهات وتحاربها بشدة.