ساعات العمر
23 ربيع الثاني 1430
صفية الودغيري

العمر ولاشك عبارة عن ساعات مجموعة ، منها ساعات  تمر بنا من غير أن نشعر بها ، تجري مراكبها تسابق الرياح ، تحمل  أشياء نحبها وأخرى ننكرها .. 

 ومنها ساعات نترقب قدومها بشوق ثائر يعترينا ، وخطى نسرع تجاهها , ننتظر أوان حلولها ضيفا عزيزا يزين بنسماته مجالسنا  ، ويعطر بزهره أيامنا ، فتشرق شمس أمل جديد ، يرسم فرحة ويطبع بسمة على ثغر حزين.. 

ومنها ساعات نهرب منها ، نخشى مواجهتها ، وننرجو أن تنقضي بسرعة ، لأنها تزرع فينا مشاعر الخوف والقلق ، فلا نملك أن نواجهها أونتحداها إلا في حالة ينتصر فيها سلطان إيماننا  ، ويقوى وازع رضانا بتصريف أقدارنا خيرها وشرها..   

 ووسط زحمة هذه الساعات التي تمر وتنقضي ، تولد ساعة فريدة ، غالية نفيسة ،  تخرج من رحم الزمن ، تصرخ بنبض الحياة ، تتنفس بانتظام ، تهب هبوب الرياح المرسلة ، تغيث عطش النفوس الظمأى ، وتخمد نار قلوب حيرى ، تهدئ أوجاعها وتضمد جراحها ، فما تلبث أن تطلبها على الدوام..  

إنها الساعة الوحيدة من بين كل الساعات ، التي تطوي دروب الزمن ، وتقفز خلف الأسوار ، فتبعث في النفس البشرية إحساسا متميزا ، يصرفه عن الفتور والكسل ، ويصنع منه إنسانا مؤمنا قويا ، يدرك معنى التدين الحقيقي ، فيقبل على الله بفهم وإحساس جديد ، يرفعه عن النقائص ويرغبه في الفضائل ، ويزهده في حب الدنيا والتعلق بزخرفها وديباجها ومحاسنها الزائلة ...   

 إنها ساعة الفرحة الكبيرة التي تغمر النفس بالنشوة ،  وتطبع على ثغرها أجمل بسمة، فيصير للحياة طعم حلو المذاق ولون بهيج كلون باقات الورد ..

 إنها ساعة السعادة الحقيقية التي ينشرح لها الصدر ، ويسر الفؤاد ، ويطرب القلب ، ويغرد بصوتعذب على غصن رطيب أجمل نشيد ،  يحرك الإحساس فيطلق اللسان سراح الكلمات ،  فتطير نحو الأفق ، تحمل على جناحيها خواطر نفس تجيش بمعان صادقة ونبيلة ، تزود المؤمن الحقيقي بزاد يقوي صلبه ، ويسند ظهره ، ويشد أزره ،  ويعينه على مواصلة الطريق بعزم وإصرار على بلوغ المرام ، وختم رحلة الحياة بمسك الختام  .. إن الساعة التي تدق ويسمع صدى صوتها يتردد هي التي يشعر العبد المؤمن خلالها بأن إيمانه تجدد  ، و توبته صدقت ، وعزيمته قويت، ونور يقينه سطع فبهر بآياته نوازع شكه  ، فتحرر من كل سلطان إلا سلطان الحق سبحانه ، ومن كل عبودية للأشخاص والأشياء .. إلا عبودية الخضوع والتذلل ، للواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... 

العبودية التي ترفعه ولا تنزله ، تمكن له  في الأرض ولا تذله أوتهينه  ، تطهره ظاهرا وباطنا ولا تنجسه بالرذائل أوالموبقات ..، تزيده فضلا ولا تنقصه خصيصة  ، تشعره بأنه إنسان اكتملت فيه خصائص التكريم والتشريف ، وأنه امتلك حريته بتمام معناها الحقيقي ، الموائم لطبيعة جنسه ، المنسجم مع احتياجاته ومتطلباته ..                                                                  إن ساعة الشعور بلذة العبادة وسموها ، لأجمل ساعة يعيشها العبد المؤمن، إنه اختيار حر من بين ساعات الزمن الفانية ، لا تمر إلا وقد خلدت آثار معالمها على النفس ، فتقبل على الله بحب لا مثيل أو شبيه له .                            

 إنها ساعة اتخاذ القرار بارتقاء مدارج السالكين ، الفاتحين لرتاج أبواب الأصفياء والأولياء والصالحين ، المدركين لمعانى الزهد الحقيقي بلا شطحات ولمعانى الولاية الصادقة الخالصة بلا مبتدعات ولا منكرات  ..  

 إنها ساعة الرقي في الإحساس بدورة الحياة وحركة الكائنات ، واتصال روحي لطيف بنسمات إيمانية لها عطر فواح ، وإشراقة نفس وتفتح بصيرة نافذة على آيات كونية باهرة ، وإدراك حواس لمراتب علوية ، وتجرد عن شوائب الزيادات وفضول الكلام والأفعال ، وسمو يسبح بالعبد في فلك النقاء والصفاء ، ويرتقي به نحو مقام الأطهار ، ممن خلعوا عنهم لباس الدنيا وتزينوا للآخرة ، وتخلصوا من أدرانها وأصدائها ، وتخلوا عن شوائبها وأنجاسها ..     

 إن الساعة التي يتحرر فيها العبد من سجن العبودية لغير الله ويندرج في سلك العبودية الخالصة لله ،  يشعر حينها  بدورة الزمان ، وبجمال المكان ، فتتفتح بصيرته  على نظرة جديدة للكون والكائنات ، فيسعى في الأرض سعي العاملين الراغبين بلوغ الدرجات العلى من الجنة ...  

 إن ساعة كمثل هذه الساعة لا تعادلها أي ساعة أخرى إحساسا ووجودا وتغييرا ، إنها لحظة الصدق مع النفس ولحظة الصفاء والنقاء الروحي ، وساعة طهارة القلوب والتصورات والمشاعر والصلات والأعراض والبيوت والأسر والمجتمعات والأوطان والحياة ككل   

إن الإنسان ليعيش ساعات كثيرة تعد في رصيد عمره بالسنوات ، لكن كم من ساعة عاش فيها إحساسا ربانيا كهذا ، كم من ساعة خفق فيها نبض قلبه هاتفا داعيا راجيا مقبلا على الله بتجرد .. ففاضت دموع عينه  وجرت رقراقة ، فحن شعوره ولانت حناياه ، فتجرد من غطرسته وكبره وأنانيته وماديته ..   

  كم من ساعة خصصها لربه؟  ، وقال لنفسه تعال نؤمن بربنا ساعة ؟ ، تعال نترجم حبنا وخوفنا من الله ساعة ، تعال نعتكف لأجل الله ساعة ، وننسى  بعدها كل شيء ولو ساعة ، فقد تكون هي الوحيدة من بين مثيلاتها ، من قبلت فيها كلمة أو ابتسامة أو صدقة أو صلاة أو معروف مهما قل أو عظم ، لأنها امتازت وتفوقت على أقرانها بعلامة النجاح ، علامة الصدق 

 أما الساعات  الأخر التي تمر بنا وهي زهيدة تافهة ، تحمل مراسم وشعائر وعادات وتقاليد  سيئة وأقوال وتصرفات هابطة مزرية  ، لتسيء للإنسان في دينه و قيمه و أخلاقه وتحرف مفاهيمه وتفقده 

  إن الساعة التي لا يشعر العبد فيها بالخجل كلما مرت وتذكرها وتفكر فيها ، لعزيزة غالية تصغر عندها التضحيات ، وتخف الجراح وتفتر، وتهدأ الآلام وتتوقف      

 إنساعة مهما كان عمرها قليل ، ودورة مؤشرها بطيء  ، لتستحق بما تحمله من آمال وأحلام وأهداف عظيمة ومشروعات ضخمة ... أن يعتني بها العبد ويوظف لها كل جوارحه ، لتكسب السبق وتحتل الصدارة ، وترتق سلم المجد ، وتبلغ أفق الكرامة وتحظى بالمنة العلوية ، لأن آثار معالمها على حياة الأفراد والجماعات ظاهرة ، و بصماتها على تاريخهم الإيماني والإنساني خالدة                       

 إن ساعة كهذه حق لها أن نسميها ساعة التفضل والعطاء وساعة الشكر والوفاء .. ومهما أطلقنا عليها من محاسن الأسماء فهي نزر من فيض ، وهي نفسها من تعلمنا الجمال في الإبداع ، والعطاء والإحساس ..    

وختاما ما أروعها من ساعة نعيش لنحياها سعداء ونموت وتسجل في صحيفتنا أجورا عظام تبلغنا الجنان