المقاومة العراقية والاختيار الموفق
14 جمادى الثانية 1430
أمير سعيد




بالنسبة إلى كثيرين داخل العراق وخارجه فإن القرار الذي اتخذته معظم الفصائل المقاومة العراقية قد تأخر كثيراً، لكن إن يأتي متأخراً أفضل من ألا يأتي مطلقاً كما يقولون.

الشيخ الدكتور حارث الضاري الذي منحه 13 فصيلاً عراقياً ثقتهم وحق الحديث باسمهم في المحافل السياسية شخصية غنية عن التعريف، وثرية في جهدها ونضالها السياسي لفائدة القضية العراقية، وهو يعيش الآن في منفاه القسري خارج العراق بعد أن ضاق الساسة والشخصيات النافذة الموالون للاحتلال بوجوده في بلاده ذرعاً واضطروه في النهاية إلى البقاء متنقلاً في البلدان العربية بعد صدور مذكرة توقيف بحقه من رئيس الوزراء العراقي الموالي لإيران والولايات المتحدة الأمريكية نوري المالكي.

ولا ريب أن العراق بحاجة لقائد حكيم يرفع قضيته العادلة في العالم مسانداً ومؤيداً لحق الشعب العراقي في أن يحكم بلاده ويحررها من المحتلين الغاصبين سواء أكانوا من طليعة الاحتلال وقوته الضاربة من القوى الغربية، ومن قبل يساهم في اتخاذ المواقف المناسبة المرافقة لتغير الأحداث الميدانية والاستراتيجيات الدولية وموائمة للتكتيكات السياسية، في حضور للجانب الشرعي في دراسة المتغيرات، وهيمنة لأصول وقواعد العقيدة والفقه، وهو أمر خليق به الأمين العام لهيئة علماء المسلمين وثلة العلماء العاملين، الذين يتوجب تبوؤهم مكانهم الطبيعي في الحديث باسم القضية العراقية والشعب العراقي برمته، لاسيما في غياب الإدارة العراقية الشريفة غير الموالية للاحتلال، من دون إهمال دور الساسة العراقيين الوطنيين المخلصين ودورهم الموازي لعمل الهيئة.

ولقد كان هذا القرار هو ما ينبغي أن يكون قبل 6 أعوام من الآن حين بدأت المقاومة العراقية عملها دون سقف علمائي أو مظلة سياسية واضحة، وقد كان تظللها بالعلماء من لازم عملها حينها ولم يزل بالأهمية ذاتها، وقد كانت الأصوات تدعو لذلك منذ الوهلة الأولى لاندلاع المقاومة العراقية، وهو ما سبق التنبيه إليه في العديد من المقالات ساعتئذ، وكنت قد أشرت إلى شيء من ذلك في مقال سابق في العام 2003 بعنوان "همسات"، حيث جاء فيه: "علينا بهذا الخصوص أن نستحضر نموذجين هامين للاسترشاد بتجربتهما الثرية, فمما يحز في النفس أن يبدأ كل فصيل طريقه من الصفر من دون استحضار التجارب الناجحة والفاشلة كذلك: نموذجا الجزائر وفلسطين يحتاجان من المقاومين العراقيين لوقفات معهما, فلقد ثبت بما لا يدع مجالا لشك أن النظام الجزائري حينما ألغى انتخابات 1991/1992 (..) تحركت أجهزة المخابرات الجزائرية والفرنسية والأمريكية (.. و) نجحت عناصر تلك الأجهزة في اختراق صفوف تلك الحركات واستطاعت بكل دهاء شق الصفوف وتغليب أصوات الخوارج على أصوات أنصار الإنقاذ المعتدلين (..) وهذا ينقلنا بدوره للنموذج الثاني، وهو النموذج الفلسطيني, الذي كان من أبرز أسباب نجاحه ـ رغم اللأواء التي يعانيها ـ أنه اتخذ واجهة سياسية واضحة ومنهجا حكيما غير مضطرب ورموزا مشهودا لها بالإخلاص والعلم والحكمة.

وإذا كان النموذج الفلسطيني ناجحا بكل المقاييس, فإن محاكاته تعد سلوكا حصيفا من قادة المقاومة العراقية (.. و) لا يصح أن يمنح الاحتلال فرصة لشق صفوف المقاومة العراقية واستجلاب النموذج الجزائري إليها خصوصا وأن التربة العراقية التي أنجبت الخوارج قديما ـ كما التربة الجزائرية ـ بإمكانها أن تستخرج خبثهم من جديد, وعليه فإن الأمر يستدعي نوعاً من اليقظة والحكمة للحؤول دون سرقة النصر المحدود الذي حققه المقاومون إلى الآن."

لكن كما تقدم؛ فإن القرار هو خطوة في الاتجاه الصحيح، وبالتأكيد لا يمكنها أن تؤدي إلى رشد المقاومة العراقية إلا حين توالي تلك الخطوة بأخريات تبلور سقفاً سياسياً واضحاً للمقاومة العراقية يمنحها قوتها الفقهية المعرفية الحقيقية، ويعلي من قيمة قادة الرأي الراسخين، ويبرهن على تقبل فكرة المرحلية وقراءة اللحظة وترتيب الأولويات، وروح الإسلام الحقيقي الحضاري.

إن المقاومة العراقية، لا هي ولا غيرها، بمقدورها أن تخطو قليلاً أو كثيراً للأمام إلا وهي تحمل مشروعاً حضارياً كاملاً، إذ لا تحمل البنادق أبداً المبادئ، وإنما تصنع القيم الانتصارات، وتلك الأخيرة، هي انتصارات المبادئ لا التلويح بالرايات والأعلام.

وفي غياب الحكمة، وضياع البصيرة، لا تتبدى ملامح المبادئ الغراء فيمن يرفع الشعارات، ولقد ظلت السنة الإلهية تقضي بأن تحقيق التقدم لا يكون إلا بعد الانتصار على الذات، والقيام بالعدل قولاً وفعلاً، وإعلاء القيم السمحاء، وما أجمل أن تلخص الرسالة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومن هنا كان المشروع الحضاري المتكامل هو بغية من يريدون الخير للعراق، وكان اختزال عدالة قضية في جانب محدود من الإجراءات هو عين الضيم والحيف والإضرار بنبل الأهداف.

مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق والصهيوني في فلسطين وغيرهما هي إحدى أدوات ذلك المشروع في شقه الميداني، لكن دون هذا الشق أدوات أخرى هي من صميم مبادئ العراقيين وهذه الشعوب المهيضة من "النحر إلى النحر" كما يقولون، ولا ينبغي لهذه الأدوات الأخرى أن تغيب في لحظة القهر التي يعيشها العراق وغيره الرازحين تحت نير الاحتلال وإذلاله.

ومن هنا، وبدون تقديس أحد مهما علا قدره وزادت هيبته، لا نقول إلا أن العراق بحاجة لأكثر من خطوة في الطريق الصحيح، إذ لا يصلح أن يحتفظ الجميع بأسمائهم وعناوينهم ثم تبقى هيئة علماء المسلمين مجرد ناطق باسم هذه الجموع الفصائلية، بل ينبغي أن يحدث قدر أكبر من إنكار الذات، ومراجعة أوسع لما قد كان، وصولاً إلى صيغة واقعية ناجزة تمنح العراقيين حقهم المشروع في الاستقلال والخروج من دائرة التبعية للشرق المجاور أو الغرب البعيد، أو دون ذلك وفي أدنى الأحوال توسيع مساحة الحوار حول ما يمكن تحقيقه في تلك اللحظة تحقيقاً للحد الأدنى الذي يرجوه الشعب العراقي تأميناً لمصالحه المعيشية وحقوقه الطبيعية وتشجيع الطرف الأقوى حالياً على تقديم تنازلات يفيد منها الشعب العراقي مرحلياً في مشروعه التحرري الشامل.

وحيث تتوجب تحية تلك الفصائل التي أقدمت على هذه الخطوة التي تعبر عن قدر من إنكار ذات والتفاني في نصرة القضية العراقية ـ فيما يتبدى والله حسيبهم ـ وهذه القوى التي استقبلت الخبر بارتياح سواء في الداخل العراقي أو في خارجه خاصة في الكويت الجارة الصغرى للعراق؛ فإن الشيخ الضاري ـ الذي لم يحسم أمره بعد فيما يخص قبوله التفويض من عدمه وفقاً للناطق بلسان هيئة علماء المسلمين العراقية الشيخ محمد بشار الفيضي ـ يجد نفسه أمام استحقاق لا يمكنه الفكاك منه وتحدٍ يدفعه نحو تحمل مسؤولية كبيرة تعود بنا نحو تاريخ كان العلماء يتصدرون فيه المشهد بشكل فاعل ومؤثر.

وإذ تتوافر في هيئة علماء المسلمين وأمينها العام ومكتبها السياسي ما يجعلها أفضل من غيرها، وحيث الناس في الملمات تلوذ بالعلماء لحمل الأمانة وتقدير الأمور على نحو إن لم يكن مطابقاً للصحيح؛ فهو يحقق مقاربة لها يصعب أن تتوافر لغيرهم من أولي الرأي، ولما تتلاقى عند الأمين العام للهيئة، الشيخ الدكتور حارث الضاري حزمة من المؤهلات الشرعية، والسياسية، والجماهيرية العشائرية، ولما يتمتع به من قبول محلي وإسلامي وعربي ما لا يتوافر لغيره؛ فيكاد يجزم كثيرون أن الشيخ الضاري هو الأنسب لهذه المرحلة من مراحل المقاومة التي تمر بمنعطف حرج، وتعوزها حكمة الشيوخ، لاسيما وهي تخوض فترة تتضافر فيها العقبات والأحابيل لتكوِّن في الجملة استحقاقاً فريداً لدى صانع الرأي في الداخلين الإسلامي والوطني العراقي ما يعجز عن إدراكه إلا ألو النهى والتقدير.. وإن د.الضاري لخليق بها، وإن احمرت لثقة القوى المقاومة والجماهير له أنوف.