أنت هنا

أحسنت أوباما .. أسأت باراك
14 جمادى الثانية 1430
عبد الباقي خليفة
حظي الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما بردود فعل واسعة على الصعيد الاسلامي والدولي، نظرا للمكانة التي تحظى بها بلاده وتأثيراتها الشاملة على سياسات العالم. فما إن انتهى باراك أوباما من خطابه حتى تجاوبت معه مختلف دول العالم ولا سيما العواصم المهمة مثل باريس وبرلين ولندن والرياض والقاهرة وغيرها. ونحن هنا لسنا في معرض استعراض ردود الأفعال الاقليمية والدولية، ولا اعتماد سياسة الانتقاء التي بدت في كثير من مواقف الأطراف المعنية الرسمية والحزبية وحتى الشخصية، وإنما للمساهمة في إثراء النقاش حول الزيارة وأهدافها وآفاقها المستقبلية.
لقد جاءت الزيارة بعد 4 أشهر فقط من تولي الرئيس باراك أوباما مهامه كرئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية، بعد صراع مرير مع منافسيه في الحزب، وفي مقدمتهم وزيرة خارجية بلاده الحالية هيلاري كلينتون، ثم منافسه من الحزب الجمهوري جون ماكاي. وقد ساهم المسلمون في نجاحه في الانتخابات، سواء من تصويت أغلبية المسلمين الأميركيين لصالحه، أو مساهمة المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان، في كسر شوكة المحافظين الجدد، وهزيمتهم في الانتخابات، ومن ثم صعود باراك أوباما إلى منصب الشخصية الأولى في الولايات المتحدة الأميركية. وباراك حسين أوباما يدرك ذلك جيدا، بقطع النظر عن اعترافه بتلك المساهمة من عدمه، وسواء أسرها في نفسه أو أعلنها بطرق غير مباشرة.
الأمر الثاني يدرك الرئيس الأميركي أن العلاقات الرسمية مع أنظمة الحكم في البلاد الاسلامية، غير كافية لتحقيق مصالح بلاده التي تتعرض للتهديد في تصاعد بياني، بسبب الفجوة التي تتسع باستمرار بين الكثير من الأنظمة وشعوبها، وبالتالي بين الأمة الاسلامية والغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية. وقد جاء خطابه لتضييق تلك الفجوة، وفتح صفحة جديدة في العلاقات. والانتقال من مرحلة المواجهة التي اتسمت بها فترة حكم المحافظين الجدد، إلى الاحتواء، والذي اتخذ مسمى الشراكة، دون توفر أسسها ومقوماتها الموضوعية. وربما لهذا السبب تحدث أوباما عن المشاركة الشعبية، أو بتعبير أوضح التفويض الشعبي والشرعية الشعبية الحقيقية. فهي االوحيدة الكفيلة بتحقيق معادلة " الشراكة ".
وإذا نظرنا في خطاب باراك أوباما بتمعن ودون قراءة سريعة أومحاولة تسجيل سبق هزيل، فإنه تضمن نقاط نرفضها، وأخرى نتحفظ عليها، وثالثة نوافقه عليها بكل قوة . ونحن ندرك أن الكثير من الأطراف ساهمت في إعداد نقاط الخطاب وصاغت على طريقتها ووفق نظرتها للامور بعض فقراته، لذلك جاء " متناقضا " في رأي البعض، ومرضيا لجميع الأطراف، وفق رأي آخرين.
ومن الأمور التي تطرق فيها لنقاط الخلاف، ونرى أنه مارس فيها نوعا من المقارنة غير السيلمة، وغير الصحيحة هي المقاربة بين ما حدث في البوسنة، والأوضاع في دارفور، فما حدث في البوسنة كان عدوانا من قبل الصرب ضد المسلمين البوشناق، استمر لمدة 4 سنوات، منع فيها الغرب السلاح عن المسلمين، مما ساهم في ارتفاع عدد الضحايا إلى 200 ألف قتيل، واحتلال البوسنة بنسبة 70 في المائة تقريبا، واغتصاب ما بين 20 و50 ألف امرأة وفق المصادر المختلفة. أما في دارفور فكانت القضية على مستوى خلافات قبلية نفخ فيها الغرب لتتحول لقضية دولية بين جهات في الاقليم والحكومة المركزية. ومن المغالطات أيضا مقارنة القضية الفلسطينية أو الافغانية أو العراقية بوضع السود في الولايات المتحدة الأميركية، فالاوضاع الداخلية لا يمكن مقارنتها بواقع الاحتلال والهيمنة الخارجية واستباحة الاعراض والدماء والسيادة الوطنية. لذلك نرى أن باراك أوباما لم يوفق في امتثال قوله تعالى الذي ردده في خطابه
" اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ". وفي هذه النقطة تحديدا نرى أنه لم يكن طالبا نجيبا ودارس للتاريخ. أما تمجيده " للاسلام الذي بنى صروحا مثل الازهر وحمل شعلة العلم لعقود طويلة ممهدا الطريق لعصوير التنوير في الغرب " فهذا اعتراف نعتز به، وهو واجب على الآخرين، والاعتراف بالفضل، كالاعتراف بالخطأ، فضيلة حميدة. كقوله أن المسلمين وفي ظل الاسلام طوروا علم الجبر والفلك والصحة وأقواس الابراج والخط العربي والتأمل. وأن " الاسلام أثبت التسامح الديني والمساواة العرقية ". كذلك اعترافه بدور المسلمين الأميركيين البالغ عددهم 7 ملايين نسمة، " درسوا وسطع نجمهم في الرياضة وفازوا بنوبل "،وعندما تحدث باراك أوباما عن الاسلام لم يتحدث عنه، من خلال الكتب وما سطره المستشرقون، ونسجته الأخيلة المريضة في الغرب، بل لمسه عندما كان في أندونيسيا، وهذا يؤكد على أهمية قيام النموذج الاسلامي الحقيقي ليتعلم العالم قيم الاسلام ويتمثلها. لذلك رفض أوباما في خطابه ما وصفها بالصورة النمطية عن الاسلام، وأنه " ضد الصورة النمطية التي تسئ للاسلام أينما ظهرت " وأن " هذا المبدأ ذاته يجب أن ينطبق على انطباع المسلمين نحو أميركا ". وإذا جاز لنا أن نتعلم من أوباما فهو تأكيده على أن الاتحاد سر القوة والبقاء " قوة كياننا كامن في اتحادنا ".
أما النقاط التي نتحفظ عليها في خطاب أوباما، فهي الموقف من الوضع في أفغانستان، حيث قضى الآلاف من المدنيين نحبهم ودمرت قراهم وقتل الأطفال والشيوخ بقنابل التحالف الذي تقوده بلاده هناك. فالتشدد نابع من المواقف السياسية، وردود أفعال على تشدد مماثل يعبر عن نفسه في سياسات داخلية، أو خارجية كالغزو والاحتلال والعدوان بكافة أشكاله. وإذا كان التدخل الأميركي في أفغانستان كان " ضرورة " وفي العراق " خيارا " فما محل الشعبين المسلمين في البلدين الذين كانا ضحايا لهذا العدوان من الاعراب. فما جرى من قتل تتحمل القوات الغازية المسؤولية عنه، وليس الأطراف الأخرى فقط، فهي التي مهدت لتلك الفوضى وذلك التقاتل بين الطوائف والاثنيات.
ولكننا مع ذلك نرحب باعلان خروج القوات الاميركية من العراق نهاية الشهر القادم، واكمال الانسحاب النهائي في 2012 م مع التأكيد على حق الضحايا في التعويضات المجزئة من الاحتلال ومن الحكومة العراقية. كما نتحفظ على حمل المسلمين على دفع ثمن جرائم ارتكبتها أوربا بحق اليهود بقطع النظر عن حقيقة الملايين الستة، التي تبدو ( ضرورة سياسية ودينية يهودية أكثر منها حقيقة تاريخية، دون انكار سقوط ضحايا ).
ونحن مع أوباما في تأكيده على معاناة الشعب الفلسطيني منذ 60 عاما، وتعرضه لآلام التهجير من أرضه وأن " الوضع الفلسطيني لا يحتمل ". وننتظر أفعالا تترجم ما قاله أوباما في خطابه يوم 4 يونيو 2009 م بالقاهرة. لكن ما دفع الكثيرين لاتهام أوباما بالتناقض هو خلاصته التي ذكر فيها بأنه لا يستطيع فرض السلام " لا نستطيع فرض السلام " مع أنهم يستطيعون لو أرادوا، لتحقيق ما أشاد به، وهو صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعيسى وموسى عليهما السلام في القدس جميعا، كما ورد في قصة الاسراء. وهو ما يمكن أن يتمثل في وجود جميع الاطراف مسلمين ونصارى ويهود في مدينة القدس، وفق ترتيبات ترضي المسلمين.
ومن النقاط التي نتفق فيها مع باراك أوباما، وندعو لتحالف عالمي من أجلها، حق المرأة المسلمة في ارتداء اللباس الشرعي، حيث تعاني النساء في تونس وتركيا ودول أوروبية في مقدمتها فرنسا ( الطالبات ) الأمرين بسبب التضييق وحتى القمع لحقهن في ارتداء اللباس الاسلامي " حق المرأة في ارتداء الحجاب ومعاقبة من ينكرون عليهن هذا الحق ".
كما نتفق مع أوباما في كون القضايا الانسانية الكبرى كالمجاعات، والحروب، والأمراض الوبائية والمعدية، والأوضاع الاقتصادية العالمية، مسؤولية البشرية جميعا ويجب التكاتف من أجل القضاء عليها وإنهائها.
وكما " لا ينبغي على دولة فرض نظام حكم على دولة أخرى " فإننا نريد أن تتوقف أيضا سياسة ابتزاز الدول الاسلامية ونهب ثروات شعوبها، وفرض الاتفاقات عليها. ومع أوباما في حق الشعوب اختيار ممثليها وحكامها، وأن " الحكومات التي تحمي الحقوق أكثر استقرارا ونماءا " وأن " قمع الافكار لا يمنع من انتشارها " ونحن أيضا " نرحب بكل الحكومات التي تختارها شعوبها ". مع أنه أيد أنظمة ديكتاتورية لم تختارها شعوبها، ووصفها بأنها ( عامل استقرار ).
ومما لفت نظري في خطاب أوباما إشارته لاتهام طالما رفع في وجه الاسلاميين وهو أنهم " يطالبون بالديمقراطية ويقمعون شعوبهم عندما يصلون للسلطة " ولم يحدث أن فعل الاسلاميون ذلك، وهو اتهام للنوايا، يمكن أن نغفرها لأوباما، لأنها من سقطات الاملاء وتعدد المشاركين في تأليف الخطاب. ونحن مع أوباما في قضية الحريات، وأن التعدد إثراء للحضارة الانسانية، وأن " الكثيرين منعوا المسلمات من ارتداء الحجاب تحت ذريعة الليبرالية " كما نشيد بموقفه الخاص بالسماح للمسلمين بدفع زكاة أموالهم للعمل الخيري " ووقف العداء للاسلام بشعارات ليبرالية " وأن " المرأة التي تغطي رأسها ليست أقل شأنا.. وإنما المرأة التي تحرم من التعليم هي المرأة التي تنتهك حقوقها ". وضد صراع الحضارات، ومع التعاون الدولي بحقوق متساوية ومسؤليات مشتركة، ومع السلام العادل.
وأخيرا لا بد من تسجيل أن تأييد الخطاب أو معارضته  لا يفيد كثيرا، ويجب علينا الانتظار، لنعرف إن كان يحمل بذور صفحة جديدة كما وصفها خافيير سولانا، وعندها ستكون هناك  أكف ممدودة، أما إذا  كان الخطاب من أجل التخدير ودغدغة العواطف فالأمة محصنة ضد الخطابات، من كثرة ما سمعت من كلام معسول من ساستنا، ورؤس الأنظمة الحاكمة في الكثير من أقطار بلادنا الاسلامية.