بين منع الله وعطائه
24 جمادى الثانية 1430
هيثم الكناني
لقد حرص القرآن الكريم في كثير من آياته على تقويم ما اعوج من طرق تفكير الناس، وعلى انتشال العقول الضالة الحائرة من وهاد الانحراف الفكري، لبناء أصول التفكير السليم القائم على المحاكمات العقلية المستقيمة؛ البعيدة عن السطحية، والسفسطة، والتقليد الأعمى، وغيرها من العيوب التي تحرف العقل عن أداء وظيفته على الوجه الأكمل.
 
وأول ما حرص عليه القرآن الكريم في هذا المجال هو المسألة الأم والقضية الرئيس التي تشغل الإنسان، وهي وجوده هو نفسه، فإذا أيقن استحالة أن يكون قد أُوجِد بلا موجِد، أتته الآيات تترى تخبره عمن أوجده وجميع المخلوقات فاستحق لذلك العبادة وحده {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، وهذه هي الحقيقة الكبرى التي إن ضلت عنها العقول كانت عما وراءها أضل، كما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ولئن كانت هذه الحقيقة لا تغيب إلا عن منكري الإله من أهل الكفر، فإن هناك حقائق أخرى تغيب عمن سواهم، ومن ذلك ما يتعلق بحقيقة عطاء الله عبادَه ومنعهم، وهي قضية مهمة تاهت أمامها كثير من العقول في القديم والحديث.
 
إن كثيراً من الناس يقعون في خطأ كبير عندما يجري عليهم قدر الله عز وجل بشيء من العطاء أو بشيء من المنع؛ فإذا وسع الله على أحدهم في رزقه، أو أكرمه في تجارته، أو وفقه في دراسته، أو يسر له الزواج بمن يريد، أو أعطاه من الذرية ما يشاء، أو حفظه من مكروه، حسب أن هذا دليل إكرام من الله عز وجل، بل دليل حب منه سبحانه وتعالى له، ومن العجيب أن مِن هؤلاء مَن قد يكون من المسرفين على أنفسهم الظالمين لها بترك ما أمر الله وركوب ما نهى عنه من الشرور والمعاصي، ومع ذلك نجده يقول: لو لم يحبني لما أعطاني كذا وكذا، لو لم يحبني لما جنبني كذا وكذا!
وفي المقابل نجد من الناس من إذا تعرض لما يسوؤه؛ من خسارة أو مرض أو فقد حبيب وما أشبه ذلك، اسودت الدنيا في عينه وأرجع هذا الأمر لعدم محبة الله سبحانه وتعالى له، وأنه لو كان يحبه لما فعل به ما فعل، مع أن مِن هؤلاء مَن قد يكون من الطيبين الحافظين لحدود الله جل وعلا المقيمين على طاعته والمجانبين لمعصيته!
ولا شك أن كلا الموقفين يدل على جهل ببعض ما جاء به هذا الشرع الحنيف، وجهل بحقيقة هذه الدنيا، وبحقيقة محبة الله لعباده وآثارها.

إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يمكن أن يكون صحيحاً لو أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدنيا دار جزاء وحساب، لكنها ليست كذلك، بل هي دار ابتلاء واختبار، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وبين سبحانه أن هذا الاختبار يكون بالشر والخير جميعاً، قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

 

إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يمكن أن يكون صحيحاً لو أن الله جعل متاع الدنيا لأحبائه المؤمنين خاصة دون غيرهم من عباده، لكن الأمر ليس كذلك، قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، قال ابن الجوزي: (قال المفسرون: كُلاًّ نعطي من الدنيا، البَرَّ والفاجرَ، والعطاء هاهنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة)[1].

إن اعتقاد هؤلاء الناس كان يمكن أن يكون صحيحاً لو كان لمتاع الدنيا قيمة حقيقية عند الله، لكنه ليس كذلك، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، وقال صلى الله عليه سلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً من شربة ماء"[2].

 

بل إنه قد ثبت أن أشد الناس بلاء هم أولياؤه وأحباؤه من النبيين والصالحين، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتَلى العبد على حسب دينه، فما يبرح بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"[3]، ولهذا كان الصالحون يخشون على أنفسهم إذا مر عليهم زمن لم يتعرضوا فيه للابتلاء في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم وغير ذلك.

 

لقد أرشد الله عز وجل العقول إلى الصواب في هذه المسألة في كتابه العزيز وبين بما لا يدع مجالاً للشك بطلان ما ذهب إليه كلا الفريقين، قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15-17]، قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له؛ وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55،56]. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: {كَلا} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر)[4].

فإذا صحح المسلم مفاهيمه في ضوء الحقائق السابقة نظر إلى مقادير الله نظرة مختلفة؛ فعلم أن ما نزل به من محنة هو اختبار من الله عز وجل لينظر أيقوم بواجب الصبر على الابتلاء ويرضى بقضاء الله وقدره، أم يسخط ويعترض على مولاه، وعلم أن ما نزل به من منحة هو اختبار من الله عز وجل له كذلك لينظر أيقوم بواجب الشكر على النعمة أم يكفرها وينسى بارئها.

 

ثم هو ينظر لما يراه من تنعم الكافرين بمتاع الحياة الدنيا فلا يفتنه ذلك عن دينه بل يعلم أن هذا محض إملاء واستدراج لهؤلاء، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183]، قال ابن كثير: (ومعناه: أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44،45]؛ ولهذا قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: وسأملي لهم، أطول لهم ما هم فيه {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: قوي شديد)[5].

 

فإذا علم المؤمن أن الميزان الذي تقاس به الأمور مختلف عما يظنه كثير من الناس، وإذا علم أن هذا الميزان يختلف بين المؤمنين والكافرين، فقد يتساوى المؤمن والكافر في الظاهر في صورة الابتلاء بالمنع أو العطاء، لكن بينهما ما بين المشرق والمغرب؛ استقرت نفسه وهدأ خاطره، فأقبل على عبادة ربه بطمأنينة وسكينة، واستقبل قضاء الله وقدره بمزيد من الرضا والتسليم، شاكراً لنعمائه، صابراً على ابتلائه، فنال بذلك أعلى الدرجات وحصَّل أعلى الكرامات، وليس ذلك إلا للمؤمن، كما قال عليه السلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير -وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[6]، والحمد لله رب العالمين.
 
 
 
 


[1] زاد المسير 4/154.
[2] سنن الترمذي 4/560 (2320)، وصححه الألباني.
[3] صحيح ابن حبان 7/184 (2921)، وقال الأرنؤوط: إسناده حسن.
[4]تفسير ابن كثير 8/398.
[5] تفسير ابن كثير 3/516.
[6] صحيح مسلم 4/2295 (2999).