نتائج التحريض
25 رجب 1430
د. محمد يحيى
تشهد أوروبا على مدى ما يزيد عن العشر سنوات موجة تحريض قوية على المسلمين تتوزع ما بين اتهامات بالإرهاب إلى اتهامات بالرجعية والجهل وتحذيرات من نوايا إسلامية مزعومة لغزو أوروبا وفرض الإسلام عليها بالقوة وما شابه ويتوزع هذا التحريض بين جميع دوائر المجتمع الأوروبي على حد سواء، فنجده عند الساسة وليس فقط من عند أصحاب الاتجاه اليميني كما يقال بل نجده أيضًا عند شتى الاتجاهات حتى ما كان منها ربما يزعم بعض التعاطف أو بعض الدعاوى الليبرالية مثل الاتجاهات الديمقراطية سواء كانت اشتراكية ديمقراطية أم مسيحية ديمقراطية، كما نجد مثل هذا الاتجاه التحريضي عند الصحافة على وجه خاص وسائر وسائل الإعلام، ونجده عند الكنائس الأوروبية، كما نجده عند كتاب ومفكرين وقبل كل شيء نجده على مستوى الرجل العادي في الشارع في شتى نواحي نشاطه في الأعمال التجارية أو في المدارس أو حتى في النشاطات الترفيهية والرياضية.
ولم يكن غريبًا على المسلمين في شتى أنحاء العالم أن يشاهدوا نماذج حية لهذا التحريض تمثلت في ظاهرة الرسوم المسيئة للرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، والتي تكررت في أكثر من دولة أوروبية وفي أكثر من وسيلة إعلامية، وكان هناك دفاع عنها من كبار الساسة الأوروبيين.
وأخيرًا شهدت ألمانيا حادثة بشعة تدل على مدى تغلغل هذه الظاهرة ووصولها إلى أعماق المجتمع الأوروبي عندما أقدم متعصب مجنون ألماني في منطقة تقع في شمال شرق ألمانيا على اغتيال سيدة مسلمة مصرية بصورة بشعة بأن طعنها ثماني عشرة طعنة بالسكين داخل إحدى المحاكم وأمام القاضي ورجال الشرطة داخل المحكمة حيث كانت هذه المحكمة تنظر شكوى من السيدة ضد هذا الرجل الذي تعدى عليها بالسب والشتم والتهديد أكثر من مرة دون أن يكون لها أي يد في استفزازه، بل كان هو الذي يلاحقها حيث يسكن قريبًا من مكان سكنها، وهي زوجة لأحد المصريين المبتعثين إلى ألمانيا للدراسة.
ومرت هذه الجريمة البشعة داخل قاعة المحكمة دون أن يحرك أحد ساكنًا لكي يمنعها أو يوقفها، بل على العكس فعندما حاول زوج السيدة التدخل لإنقاذها من المعتدي المجرم، كان نصيبه أن تلقى ثلاث رصاصات من جانب حراس الشرطة داخل قاعة المحكمة وهو في حالة بين الموت والحياة وكان هذا جزاؤه على مجرد التدخل لمحاولة إنقاذ زوجته، ولم تنطلق هذه الرصاصات ضد الجاني الأصلي بالفعل وإنما اتجهت ضد زوج الضحية.
وقد أثارت هذه الجريمة الشنيعة موجة غضب عارم في مصر وفي البلاد العربية كما أثارت موجة عارمة أخرى من الغضب في أوساط المسلمين والعرب داخل ألمانيا، لكنها في مقابل ذلك لم تستثير أي ردود فعل من جانب الحكومة الألمانية أو من جانب أجهزتها القضائية والشرطية حيث لم تحرك أي دعوى ضد الجاني واكتفت هذه السلطات بانتظار أن يتقدم أهالي الضحية البريئة بدعوى ضده في المحاكم حتى تتحرك.
وقد جاء ذلك في الوقت الذي كانت الحكومة الألمانية تبدي أسفها وامتعاضها الشديد حول عملية قمع لمتظاهرين خرجوا في بلد إسلامي في نفس تلك الفترة للاحتجاج على قضية معينة، ولم تستطع الحكومة الألمانية لفرط إنسانيتها ورقتها إلا أن تبدى التعاطف معهم، ومع ذلك فها هي هذه الحكومة لا تبدي التعاطف مع ضحية بريئة سقطت على يد مجرم متعصب؛ بل ولا تحرك أية دعوى جنائية وقضائية ضد هذا الرجل، وقد كان في مقدورها بل بالأصح في واجبها أن تفعل ذلك بالضرورة تنفيذًا لقوانينها السارية في داخل أراضيها.
ومع ذلك مضت الجريمة دون أن يكون لها رد فعل أو تحرك من جانب السلطات الألمانية من أدنى المستويات إلى أعلى المستويات، وهذا كله يدل على مدى تغلغل عملية التحريض داخل أوروبا ضد المسلمين، ونحن هنا نتحدث عن ألمانيا الدولة التي يحلو لها الآن أن تسمي نفسها أو يسميها البعض بأنها الدولة الرائدة في أوروبا في مجالات عديدة.
ولا عجب أن ترتكب هذه الجريمة، فقبلها بأيام قليلة كانت فرنسا تقف على قدم وساق تستعد لإصدار قانون خطير يمنع ارتداء البراقع من جانب المسلمات في الطرقات العامة والأمكنة العامة، ويحرم هذا الارتداء باعتباره جريمة شنعاء ضد الحضارة والإنسانية.
فهذا التحريض الأعمى العنصري ينتشر في كل أنحاء أوروبا ولا يقتصر فقط على ألمانيا أو حتى على فرنسا فهو موجود حتى في بلدان أوروبية شرقية وصولاً إلى روسيا الذي نسمع كل وقت وآخر عن جرائم ترتكب في شوارعها ضد مهاجرين أفارقة بعضهم من المسلمين يستثير وجودهم التوجهات العرقية والعنصرية في الشارع الروسي.
إن هذا التحريض يسير دون أن يعترضه معترض ودون أن تتقدم الدول العربية والإسلامية والتي لها عشرات السفراء والممثلين والجهات الرسمية العاملة في أوروبا بأي اعتراض أو بأي شكاوى أو بأي محاولات منسقة جماعية لإيقاف هذه التيارات في أوروبا، وذلك في وقت تعمل فيه الدول الأوروبية جميعها متضامنة على إيقاف أي نشاط ترى أنه معاد للحضارة الأوروبية أو للأفكار الأوروبية أو للعقيدة الأوروبية يحدث في أي مكان في العالم الإسلامي مهما كان بسيطًا بل إنها لا تقصر تدخلها على هذا وإنما تمده لكي يسري على أي مواطنين يعيشون داخل بلدان عربية إسلامية وإنما يدينون بديانات غير الإسلام أو يتخذون لأنفسهم مذاهب فكرية وسلوكية غير إسلامية متأثرة بأوروبا، فهؤلاء الناس المتأثرين بالغرب ومنهم أصحاب الشذوذ الجنسي أو أصحاب دعوات انحلال المرأة يتمتعون وهم في بلادهم بالحماية الأوروبية فضلاً عن الدعم المادي والمعنوي الأوروبي ويرتكبون ما يرتكبون دون أن يعترضهم معترض من جانب البلدان الإسلامية ودون أن تقام عليهم أية قوانين.

فها هو التعصب الأعمى يصل إلى منتهاه.