ساركوزي والبرقع
29 رجب 1430
د. محمد يحيى
أقدم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في الفترة الأخيرة على التشدد والظهور بموقف البطولة والشجاعة في وجه النقاب الإسلامي، وليس في وجه أي من المشاكل التي تواجه فرنسا، سواء أكانت اقتصادية أو سياسية حيث خصص خطابًا ألقاه في مجلس الشيوخ والنواب الفرنسي على ضرورة أن تنشأ لجنة برلمانية عالية المستوى على وجه السرعة لكي تضع قانونًا يمنع بمقتضاه لبس النقاب في جميع الأراضي الفرنسية، وكأن هذا النقاب قد أصبح مشكلة كبرى تهدد البلاد والعباد في فرنسا ويتحتم أن تنهض الأمة كلها وينهض ممثلوها وتستثار قوانينها وتشريعاتها كي تمنعه وتحرمه وتلغيه تمامًا من البلاد رغم ما ذكر حتى في الصحافة الغربية نفسها عن أن ظاهرة ارتداء النقاب في فرنسا هي ظاهرة بالغة المحدودية لا يكاد يلحظها أحد، لكن ساركوزي في الواقع يواصل انتصاراته الوهمية على الإسلام التي بدأها عندما كان وزيرًا للداخلية وأصدر قراره المشهور بمنع ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس أو الشعر في المدارس بالنسبة للفتيات أو المدرسات وهو القرار الذي أثار ضجة ورفضًا حتى أن الرئيس الأمريكي أوباما عندما ألقى خطابه المشهور في جامعة القاهرة منذ شهر أو يزيد، قال أن المرأة المسلمة لها الحرية في أن ترتدي الحجاب وكان ذلك طعنة خفية في ظهر فرنسا وفي ظهر ساركوزي بالذات الذي كان هو صاحب هذا القرار والمحرك له إلى حد أنه زار القاهرة خصيصًا لكي يحاول الحصول على فتوى من المراجع الدينية في الأزهر وخارجه بتأييد قراره بتحريم لبس الحجاب أو غطاء الشعر والرأس في المدارس الفرنسية والمصالح العامة هناك.
وقد حاول بعض المعلقين تفسير قرار ساركوزي هذا بأنه جاء كنوع من الرد على فوز اليمين الفرنسي في الانتخابات التي أجريت مؤخرًا للإتحاد الأوروبي وبرلمانه الذي يعلو في بعض الأحيان على البرلمانات المحلية، إلا أن هذا التفسير الذي رأى أن ساركوزي يحاول أن يزايد على اليمين الفرنسي الفائز في هذه الانتخابات لا يصادف الحقيقة؛ ذلك لأن إقدام ساركوزي على مناكدة ومعاندة الإسلام في فرنسا هو اتجاه قديم كما قلنا منذ أن كان وزيرًا للداخلية كما أنه اتجاه عام ليس خاصًا به وحده، بل حتى ليس خاصًا بحزبه وتوجهه بل يمتد ليشمل أطياف عديدة على الساحة الفرنسية بما فيها بعض الأطياف التي قد تبدي أحيانًا تعاطفا كلاميًا مع العالم العربي مثل بعض فصائل اليسار الفرنسي، لأن الاتجاه العلماني هناك هو اتجاه غالب وشرس ويعمل على فرض علمانيته هذه على الجميع بل وعلى المسلمين على وجه الخصوص، كما أن المشكلة في فرنسا ليست هي مشكلة الاتجاه العلماني وإنما هي مشكلة نزعة عنصرية عرقية طاغية تنصر الثقافة الغربية وترى أن أساسها الجذري هو العقيدة المسيحية واليهودية حسب تفسيرهم لها هناك وأن هذا الأساس الحضاري الأوروبي لا يكتمل إلا في مواجهة خصم له يأتيه من الجنوب ألا وهو الإسلام الذي يرونه خطرًا زاحفًا عليهم من جنوب البحر المتوسط أو من الأقطار الإسلامية الواقعة في الشرق من تركيا والاتجاه شرقًا حتى الهند، وهو خطر يرون أنه كان حقيقة تاريخية في الماضي عندما زحف المسلمون إلى شمال فرنسا قبل أن توقف جيوشهم بعض الوحدات الفرنسية التابعة لملوك الفرنجة في ذلك الوقت.
وعلى هذا فنحن نواجه ليس بمحاولات تافهة أو سطحية للحد من انتشار مظاهر ترتبط بالإسلام بشكل أو بآخر مثل النقاب أو الحجاب بقدر ما نحن أمام محاولة مستمرة منذ ما يزيد عن العقدين من الزمان الآن لإيقاف أو إبعاد الإسلام بأسره عن فرنسا، وهي محاولة اتخذت مظاهر عديدة لم يكن مظهر منع الحجاب والآن منع النقاب إلا أحد جوانبها السطحية وإنما كان لها جوانب أخرى عميقة وأشد خطورة مثل السيطرة على المساجد في فرنسا وإملاء ما يقال فيها وما يفعل فيها والسيطرة على المسلمين في فرنسا من خلال اصطناع بعض المجالس التي يقال أنها تمثل المسلمين بينما هي في الواقع ليست أكثر من إدارات حكومية فرنسية لأجهزة الأمن فيها اليد العليا وقد وضعت لتراقب نشاطات المسلمين وتوجهها وتمنع ما تريد أن تمنع وتعمل ما تريد أن تعمل من اتجاهات وأفكار وقد عينت على رأس هذه المجالس شخصيات تدين بالولاء المطلق للعلمانية الفرنسية بل ولأجهزة الأمن الفرنسية ذاتها.
إننا نواجه منذ عقدين من الزمان في فرنسا وفي غيرها من بلاد أوروبا مثل ألمانيا وأسبانيا وإيطاليا بدعوات عديدة لما يسمى بالاندماج في المجتمع الأوروبي أي اندماج المسلمين في أوروبا داخل المجتمعات الأوروبية، والمقصود بذلك ليس شيئًا إيجابيًا كما قد يتصوره البعض من أن يتعايش المسلمون وغير المسلمين في هذه المجتمعات في سلام وأمن وإنما المطلوب على وجه التحديد هو أن يتخلى المسلمون عن عاداتهم وتقاليدهم بل وعن تعاليم شريعتهم في كثير من الأمور ويعيشون عيشة تحاكي عيشة الأوروبيين ليس فقط في المظاهر التي ربما تكون مقبولة مثل مظاهر العمل والإنتاج وما شابه، وإنما يعيشون حياة الأوروبيين في تقاليدها وقوانينها وعاداتها الأسرية والاجتماعية ضاربين عرض الحائط تمامًا بكل ما يتصل بهويتهم الإسلامية.
إن الاندماج كما سبق أن ذكرنا في مقالاتنا هنا حسب الوصف الأوروبي له بالنسبة للمسلمين لا يعني أكثر من الذوبان في مجتمعات أوروبية وهو ليس ذوبانًا محمودًا أو معقولاً، وإنما هو ذوبان للهوية وللعقيدة وللشخصية ذاتها.