عزاؤنا في وفاة العلامة ابن جبرين
1 شعبان 1430
د. إبراهيم الفوزان

في يوم الإثنين العشرين من شهر رجب من السنة الثلاثين وأربع مائة وألف من الهجرة ودع المسلمون عالماً نحريرا وفقيهاً فذاً، ملاء الدنيا علماً وعملاً قل أن يوجد له نظير في هذا العصر؛ ذلكم هو الفقير إلى عفو الله عبدالله بن عبدالرحمن ابن جبرين؛ اللهم اغفر له وأرفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه. 

    لم يكن ابن جبرين – رحمه الله – صاحب منصب أو صاحب مال وإنما كان رجل علم ودين يحمل بين جنبيه ميراث الأنبياء الذي من أخذ به أخذ بحض وافر فقد روى أهل السنن حديثاً –أختلف في تصحيحه وقد حسنه ابن القيم في مفتاح دار السعادة – عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله –‏ ‏صلى الله عليه وسلم – ‏ ‏يقول: ((‏ ‏من سلك طريقا يطلب فيه علماسلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإنالعالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضلالعالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماءورثة الأنبياءوإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثواالعلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.

 
    الجنازة المهيبة لابن جبرين – رحمه الله – تكلمت بلغة بليغة مؤثرة، تلك اللغة التي أخذت بتلابيب القلوب وأبكت الجميع حين قالت: أين أهل الدنيا؟ أين أصحاب الأموال؟ أين أصحاب المناصب؟ لماذا نسيهم الناس من حين فراقهم للدنيا بل قبل مواراتهم في القبور! نعم إنها المكانة التي لا يمكن أن ينالها أحد غير أولئك القلة من الناس الذين قضوا أعمارهم في تعلم قال الله قال رسوله وتعليم الناس! إنهم العلماء. رفع الله قدرهم عندما عضموا أمره ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير))(المجادلة: 11).
 
    ابن جبرين – رحمه الله – كان نادراً في عطاءه لدينه وأمته يقرأ عليه من عشرات الكتب في الأسبوع الواحد، دروسه مستمرة وعطاءه لا ينقطع فهو بين التعليم والإفتاء والقاء المحاضرات ومشاركة الناس في مناسباتهم، فقلما يفقد الشيخ في مناسبة مع كثرة دروسه ومشاغله. رحمك الله يا عالماً جمع بين العلم والعمل وبين العناية بكتب السلف والعناية بحال الأمة. فتاواه لم تكن فتاوى عادية بل كانت مؤثرة في الخاص والعام نظراً لمكانة الشيخ – رحمه الله – عند العلماء وطلاب العلم والعامة، أفتى في حزب الله – مثلاً –  وكان لفتواه أثراً بالغاً! لم يطلب المناصب ولم يطلب المال بل كان طالباً للعلم معلماً ومرشداً للناس. أخذ من ميراث النبوة بحظ وافر، وهذا أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير الخلق فورثتهم خير الخلق بعدهم. وكما أن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث فإنتقال ميراث الأنبياء لهم دليل على أنهم أقرب الناس لهم. ( مفتاح دار السعادة )
 
    لا شك أن موت ابن جبرين – رحمه الله – ثلمة عظيمة لا تسد، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ((‏ ‏إن الله لايقبض العلم انتزاعا‏ ‏ينتزعه من العباد ولكن يقبضالعلم ‏ ‏بقبض ‏ ‏العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوافأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) متفق عليه؛ ومع ذلك فأمة الإسلام أمة ولود ولدت وستلد من العلماء الربانيين الذين يدافعون عن الدين عقيدة ومنهجاً، يدافعون عن ميراث سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – ، يعلمون الجاهل ويوجهون المخدوع وينصحون للأمة. وإن مات ابن جبرين فعزاؤنا أنه ما زال بيننا علماء ربانيين أفذاذ أجلاء لم يغيروا ولم يبدلوا أمثال البراك والفوزان والغديان والخضير وغيرهم ممن هم محل تقدير الجميع لما اتصفوا به من العلم والزهد والورع والدين، وجميعهم ما زال يدرس ويعلم الناس ويرشدهم، بل بعضهم قرر زيادة دروسه ليسد الفراغ الذي تركه ابن جبرين – رحمه الله – استشعاراً منهم للمسؤلية وحرصاً منهم على نشر العلم وتعليم الناس.
 
    وهمسة أخيرة في أذن طالب العلم: إن فاتك ابن جبرين فلا يفوتك بقية العلماء، بادر بالنهل من معينهم العذب والإستفادة من علمهم المتدفق والتأدب بأدبهم الجم وذلك بحضور دروسهم وملازمتهم قبل أن يتخطفهم ملك الموت فتندم على أن فرطت فيهم وسوفت في حضور دروسهم. اسأل الله أن يوفق الأحياء منهم وأن ينفعنا بهم وأن يسددهم ويعينهم وينصرهم على أعداءهم وأن يرحم الأموات منهم ويفسح لهم في قبورهم وينور لهم فيها إنه هو السميع العليم.