اللؤلؤ والجوهر المستخرج من سورة الكوثر (3-4)
7 شعبان 1430
د. نايف بن أحمد الحمد

قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى ا.هـ(1)

 

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وقال آخرون في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك "ا.هـ(2)

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم.ا.هـ(3)

 

والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجده قد قام بهاتين العبادتين خير قيام امتثالا لأمر ربه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فسألته لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال (أَفَلَا أُحِب أنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)(4).

 

وكان صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين أقرنين يذبحهما بيده كما في حديث أنس رضي الله عنه (5). وفي حجة الوداع يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر.(6)

 

وجاء الوعيد الشديد لمن صرف شيئا من ذلك لغير الله تعالى كما يحدث الآن في المشاهد وعند الأضرحة فعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ)(7).

 

وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(الأنعام 163) وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لاَ عَقْرَ فِي الإِسْلاَمِ) قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة (8).

 

وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟. قالوا: لا. قال: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ)؟. قالوا: لا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ)(9).

 

قال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله تعالى:" بل نحروا في سوحها أي في أفنية القبور النحائر من الإبل والبقر والغنم إذا نابهم أمر أو طلبوا حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك وأكثرهم يسمها للقبر من حيث تولد ويربيها له إلى أن تصلح للقربة في عرفهم ولا يجوز عندهم تغييرها ولا تبديلها ولا خصيها ولا وجاؤها لا يذهب شيء من دمها إذ ذلك عندهم نقص فيها وبخس فِعْل أولي التسييب والبحائر أي كفعل مشركي الجاهلية من العرب وغيرهم في تسييبهم السوائب وتبحير البحائر وجعل الحام(10) "ا.هـ(11)

 

وقال الصنعاني رحمه الله تعالى: " وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون "ا.هـ(12)

 

قوله تعالى (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: " (إِنَّ شَانِئَكَ) أي: مبغضك وذامك ومنتقصك (هُوَ الأبْتَرُ) أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر , وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفْع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع صلى الله عليه وسلم "ا.هـ(13)

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانىء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانىء أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ذلك فإن ذلك سهل على من يخاف السيف , تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه والاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره وذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه وأثره وإذا اقتضى الشنآن قطع عينه وأثره كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا وهو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فلا يذكر إلا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى إنه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وإن كان غير فقيه أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وإن بقيت أعيانهم وقتا لم يظهروا الشنآن فإذا أظهروه محقت أعيانهم وأثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا "ا.هـ(14)

 

وقال رحمه الله تعالى: " سورة الكوثر ما أجلها من سورة وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلم من آخرها فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا. ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله ورسوله منها أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته أو تمنى أن لا تكون آيات الصفات أنزلت ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك وحاد ونفر عن ذلك لما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها فأي شانئ للرسول أعظم من هذا وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والقصائد والدفوف والشبابات إذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه فأي شنآن أعظم من هذا وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب. وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه ويشتغل بقول فلان وفلان ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرا يؤثر فهذا أعظم وأطم انبتارا وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شناءته له فهؤلاء لما شنئوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم فبترهم منه وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك "ا.هـ(15)


_______________

(1)    تفسير ابن كثير 3/382
(2)    الصواعق المرسلة 2/695
(3)    مجموع الفتاوى 4/463 تيسير العزيز الحميد 1/155
(4)    رواه البخاري (4557) ومسلم (7304)
(5)    رواه البخاري (5244) ومسلم (5199)
(6)    رواه مسلم (3009) أي أكمل علي تمام المائة رضي الله عنه.
(7)    رواه مسلم (5240)
(8)    رواه أحمد (13055) وأبو داود (3224) والبيهقي (6861) قال النووي: بأسانيد صحيحة. خلاصة الكلام (3681) كما صححه ابن حبان (3146) وقال المناوي عن إسناد أبي داود: جيد. قال ابن الأثير: كانوا يَعْقِرون الإبِلَ على قُبُور المَوتَى: أي ينْحَرُونَها ويقولون: إنَّ صاحبَ القَبْر كان يَعْقِر للأَضياف أيامَ حيَاته فنُكافئُه بمثل صَنِيعه بعد وفاتِه. وأصلُ العقر: ضَرْب قوائِم البعير أو الشاةِ بالسيفِ وهو قائمٌ. النهاية في غريب الحديث 3/529 وانظر: شرح السنة 5/461 وشرح سنن أبي داود للعيني 6/179فيض القدير 6/562
(9)    رواه أبو داود (3315) والبيهقي (20634) والطبراني في المعجم الكبير (1341) قال الحافظ ابن حجر: رواه أبو داود, والطبراني.. وهو صحيح الإسناد. بلوغ المرام (1378)
(10)    روى البخاري (4347) عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس , والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء... والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.ا.هـ وانظر:تفسير ابن أبي حاتم 4/1220 تفسير الطبري 11/116 تحفة المودود /210 تفسير الجلالين /157 تفسير الألوسي 5/162
(11)    معارج القبول 2/539
(12)    سبل السلام 4/111 جاء في جريدة المصري اليوم العدد (928) في 28/ديسمبر/2006م ما نصه: في مثل هذا الوقت من كل عام، ومع اقتراب عيد الأضحي المبارك يستعد أكثر من مليون مواطن أغلبهم من الصعيد لزيارة محافظة البحر الأحمر تمهيداً للوقوف علي جبل «حميثرة»، حيث ضريح القطب الصوفي سيدي أبوالحسن الشاذلي، في اليوم نفسه الذي يوافق وقفة جبل عرفات.تبدأ مراسم الزيارة باستقلال سيارات نقل يفترش سطحها الرجال والنساء والأطفال ومعهم طعامهم، ويعلو كابينة القيادة مكبرات صوت تردد التواشيح والأغاني الدينية، في شكل مهرجان ديني كبير، وتدق الطبول حتي تهون مشقة الطريق إلي صحراء «عيزاب» في وادي «حميثراء» عن طريق إدفو والقصير وقنا، ليقف أولئك الذين لا تساعدهم ظروفهم المادية على حج بيت الله الحرام على جبل حميثرة، يتوجهون بقلوبهم إلي جبل عرفات ويقضون العيد في رحاب ساحة سيدي أبوالحسن الشاذلي، ويحرص مريدوه علي زيارته من مختلف البلدان العربية، خاصة المغرب وتونس والجزائر، وتنحر الذبائح وتقدم النذور يوم المولد وتصل إلي ١٢٠ ألف رأس من الخراف والماعز والإبل. أما مكان الذبح فيوجد في قرية الشيخ الشاذلي غرب مرسي علم بـ١٣٥ كيلو متراً، ويتم توزيع الأطعمة في أوقات الظهيرة، أو ليلاً في حلقات الذكر.ا.هـ والله المستعان أنظر رابط الجريدة والخبر:
42631 http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx?ArticleID=
(13)    التفسير /915 وانظر: تفسير الجلالين /824
(14)    الصارم المسلول 1/460
(15)    مجموع الفتاوى 16/528