حقوق الجار (3-3)
6 رمضان 1430
د. نايف بن أحمد الحمد

وعن أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأكثِرْ مَاءهَا، وَتَعَاهَدْ جيرَانَكَ)(1) قال القرطبي رحمه الله تعالى معلقا: "فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب" ا.هـ(2)

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم) ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)(3).

وَكَيْفَ يُسِيغُ الْمَرْءُ زَادًا وَجَارُهُ *** خَفِيفُ الْمِعَي بَادِي الْخَصَاصَةِ وَالْجَهْدِ(4)

 

وقال مُطَرِّفٌ رحمه الله تعالى: كَانَ يُبَلِّغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ، حَدِيثًا كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ فَلَقِيتُهُ، فَقُلْتُ: كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَكَ، قَالَ: لِلَّهِ أَبُوكَ، فَلَقَدْ لَقِيتَ فَهَاتِ، فَقُلْتُ: كَانَ يَبْلُغْنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يُحَدِّثُكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يُحِبُّ ثَلاثَةً وَيَبْغَضُ ثَلاثَةً، قَالَ: أَجَلْ، فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي، أَجَلْ فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي، أَجَلْ فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي، قَالَ: قُلْتُ: فَمَنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: (رَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَقَاتَلَ)، قَالَ: وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ، ثُمَّ تَأَوَّلَ هَذِهِ الآيَةَ:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ؟ قَالَ: (وَرَجُلٌ لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ وَيَحْتَسِبُ حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ أَوْ يَمُوتَ)، قَالَ: وَقُلْتُ: وَمَنْ؟ قَالَ: (وَرَجُلٌ كَافِرٌ فِي قَوْمٍ فَأَدْلَجُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي آخِرِ اللَّيْلِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْكَلالُ وَالنُّعَاسُ، فَنَزَلُوا فَضَرَبُوا بِرُءُوسِهِمْ، فَتَوَضَّأَ وَقَامَ، فَتَطَهَّرَ فَصَلَّى رَهْبَةً لِلَّهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ)، قَالَ: قُلْتُ: فَمَنِ الثَّلاثَةُ الَّذِينَ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: (الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ)، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ يَعْنِي فِي كِتَابِ اللهِ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) قُلْتُ: وَمَنْ؟ قَالَ: (الْبَخِيلُ الْمَنَّانُ)، قُلْتُ: وَمَنْ؟ قَالَ: (التَّاجِرُ الْحَلافُ أَوِ الْبَيَّاعُ الْحَلافُ)(5).

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ)(6) عن الحسن رحمه الله تعالى أن لقمان قال لابنه: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء (7).

 

وعن نافع بن عبد الحارث- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (من سعادة المرء الجار الصّالح والمركب الهنيّ والمسكن الواسع)(8).

من اليوم تعارفنا *** ونطوي ما جرى منا
فلا كان ولا صار *** ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولا بد *** من العتب فبالحسنى
فقد قيل لنا عنكم *** كما قيل لكم عنا
كفى ما كان من هجر *** وقد ذقتم كما ذقنا
وما أحسن أن نرجع *** للود كما كنا(9)

 

وأختم بأن العلماء قد اختلفوا في حد الجار الذي تترتب عليه هذه الأحكام قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "واختلف في حد الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه: مَن سمع النداء فهو جار. وقيل: مَن صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار. وعن عائشة: حد الجوار أربعون دارا من كل جانب(10). وعن الأوزاعي مثله وأخرج البخاري في الأدب المفرد مثله عن الحسن وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا (ألا إن أربعين دارا جار)(11) وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب: أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه(12). وهذا يحتمل كالأولى ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة" ا.هـ(13).

 

وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: "والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب الأول الملاصقة والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مجلس أو بيوت ويتأكد الحق مع المسلم ويبقى أصله مع الكافر والمسلم وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه"ا.هـ(14).

 

وقال الأسيوطي(15) رحمه الله تعالى: "ولو أوصى لجيرانه. فقال أبو حنيفة: هم الملاصقون(16). وقال الشافعي: حد الجوار أربعون دارا من كل جانب(17), وعن أحمد روايتان، أربعون (18)، وثلاثون(19) , ولا حد لذلك عند مالك(20)" ا.هـ.

 

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا)(21) وهذا نص لا يجوز العدول عنه إن صح وإن لم يثبت الخبر فالجار هو المقارب ويرجع في ذلك إلى العرف"ا.هـ(22).

 

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "وقد وردت بعض الآثار بما يدل على أن الجار أربعون دارا من كل جانب ولا شك أن الملاصق للبيت جار وأما ما وراء ذلك فإن صحت الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحق ما جاءت به وإلا فإنه يرجع في ذلك إلى العرف فما عده الناس جوارا فهو جوار"ا.هـ(23).

 

وقال محدث العصر ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: "وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين ضعيف لا يصح، فالظاهر أن الصواب تحديده بالعرف، والله أعلم"ا.هـ(24) والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

_______________

(1)    رواه مسلم (6855)
(2)    الجامع لأحكام القرآن 5/185
(3)    رواه أبو يعلى (2699) والبخاري في الأدب (112) وعبد بن حميد (694) والبيهقي في الشعب (3117) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (149)
(4)    تاريخ دمشق 37/137 المجالسة والجواهر 5/374 عيون الأخبار 1/366 البيان والتبيين 1/532
(5)    رواه البزار (3908) والطيالسي في المسند (468) والطبراني في المعجم الكبير (1637) والبيهقي في الشعب (9102) قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناد الطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح. المجمع 8/331
(6)    رواه النسائي (5517) وأبو يعلى (6536) وابن حبان (1033) والحاكم (1951) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه و قد تابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن المقبري وصحح العراقي سند النسائي. تخريج الأحياء 3/63 فيض القدير 3/338
(7)    رواه ابن أبي شيبة (35437) وأحمد في الزهد 1/105 والبيهقي في الشعب (4548) وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (351)
(8)    رواه أحمد (15409) والبخاري في الأدب (116) وعبد بن حميد (385) والحاكم في المستدرك (4/ 166) وصححه ووافقه الذهبي قال البوصيري: رواه مسدد وابن أبي شيبة , وعبد بن حميد بسند رجاله ثقات. اتحاف الخيرة المهرة 3/152 وقال المنذري و الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. الترغيب والترهيب (3887) مجمع الزوائد (8/ 163).
(9)    الكشكول للعاملي 2/87
(10)    رواه البيهقي مرفوعا (12987) من طريقين وضعفهما.
(11)    رواه الطبراني في المعجم الكبير (143) وضعفه السخاوي في المقاصد الحسنة 1/277 وقال الألباني: ضعيف جدا. ضعيف الترغيب والترهيب (1518)
(12)    أبو داود في المراسيل (328) وابن الجوزي في التحقيق (1648) قال الحافظ: أبو داود في المراسيل بسند رجاله ثقات إلى الزهري. التلخيص الحبير 3/207
(13)    فتح الباري 10/447 وانظر: عمدة القاري 32/197 المقاصد الحسنة 1/278 سبل السلام 4/166
(14)    شرح الزرقاني على الموطأ 4/385
(15)    جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود 1/357
(16)    بدائع الصنائع 7/351 بداية المبتدي 1/ 262
(17)    قال الماوردي: ومذهب الشافعي أنهم من نسبوا إلى سكنى محلتك. الحاوي الكبير 7/532 وفي 8/272 ذكر قول الشافعي: " وأقصى الجوار بينهم أربعون دارا من كل ناحية " ا هـ وانظر المجموع شرح المهذب 15/462 الفتاوى الكبرى للهيتمي 4/7
(18)    المغني 6/578 المبدع 6/39 شرح المنتهى 2/ 469كشاف القناع 4/363
(19)    الإنصاف 7/183
(20)    أحكام القرآن لابن العربي 2/360
(21)    رواه أبو يعلى (5982) من طريق عبد السلام بن أبي الجنوب قال الحافظ: متروك. التلخيص الحبير 3/207
(22)    المغني 6/578 الشرح الكبير 6/492
(23)    شرح رياض الصالحين 1/364
(24)    السلسلة الضعيفة (277)