إعادة إنتاج أسئلة النهضة المتعثرة والمتعسرة
11 رمضان 1430
هشام منور

على الرغم من مضي أكثر من قرن ونيف على المرحلة التاريخية التي يعتبرها المثقفون العرب والمسلمون، على حد سواء، مرحلة النهضة بأسئلتها وإشكالياتها وطروحاتها المتعددة والمختلفة، وعلى الرغم من "تغني" كتب التاريخ في مناهجنا التعليمية بتفاصيل تلك المرحلة التي دشنت، من وجهة نظر كثير من الباحثين، بداية وعي الأمة بذاتها مرة أخرى وتلمسها لأوجه القصور والتخلف والتقهقر الحضاري الذي شلّ مفاصل حراكها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فإن حالة الاستعصاء الحضاري التي ما زالت تلازم الأمة في سبيل إنجاز نهضتها الذاتية، وفشل المشاريع التي قدمتها نخب الأمة المثقفة والسياسية في اجتراح "مخارج" لاستئناف الدور الحضاري المفتقد لأمة لم تتعود أن تعيش في ظل غيرها من الأمم، ولا على "فتاتهم" الحضاري، قد كرس حتى يومنا الحاضر مرحلة النهضة بأسئلتها وإشكالياتها وظروفها الموضوعية نموذجاً "يوتوبيا" بات من الصعب تجاوزها ما لم تفلح الأمة في الإجابة عن سؤالها الوحيد والبسيط، وهو سبيل الخروج مما شخّصتْه نُخَبُ الأمة من حالة التخلف الحضاري الشامل، دون المسّ بالهوية الحضارية المميزة لأمتنا.

 

يخوض الدكتور (منصف المرزوقي) في كتابه (حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان، طبع دار الأهالي، دمشق، 2008م) غمار البحث، كغيره، عن مشروع للنهضة في الوطن العربي، محدداً هويته بضرورة مكافحة استبداد الداخل، وإيقاف استباحة الأمة من قبل الخارج. ويرى بأن ما سماه مشروع الاستقلال الثاني، بعد الاستقلال من الاستعمار الأوروبي، هدفه تحقيق التحرر للمواطن والوطن، وهو ما يستدعي التحرر من هيمنة الاستبداد بما هو استعمار داخلي، ومن هيمنة الاستعمار بما هو استبداد خارجي. وأن الغاية هي ضرورة تواصل البحث عن تحقيق الحد الأقصى من الحرية في ظل العدل، والحد الأقصى من العدل في ظل الحرية.

 

يبحث الكتاب في مسائل عديدة تتناول قضايا التراث والدين والمستقبل والبيئة في سياق البحث عن حلول جذرية تكفل استئناف الفعل الحضاري للأمة، ولا سيما أن أكثر المجتمعات العربية على وشك الانفجار داخلياً، وعليه يتوجب إبقاء باب الحوار بين مختلف فئات المجتمع دون محظورات، والتعلم من تجارب دول وشعوب العالم، مع عقد الأمل والمسؤولية على "المثقف" في المتابعة الدقيقة لتطور المعلومات والأفكار، واكتشاف خطوط القوة فيها والتوعية بها، ما يُسَهِّل اتخاذ المواقف السياسية الأقل ضررًا.

 

ثم يَطْرَحُ الكتاب السؤال القديم الجديد: لماذا تَقَدَّم الغرب فجأةً طيلة خمسة القرون الأخيرة؛ وتأخر الشرق القديم؟، رافضاً ردّ ذلك إلى أسطورة موروث التفوق العِرْقِي. ويبدو تحليل المرزوقي لأسباب تفوّق الغرب على العالم العربي الإسلامي، مبسطاً إلى حد السذاجة عندما يربط ذلك باستحضار صورة القمر الصناعي للأرض، وتأمُّلِ الفرق بين أوروبا ومنطقتنا؛ ففيما تبدو صورة الأولى خضراء، غنية بالماء والكلأ والأراضي الخصبة، تبدو الثانية صحراء قاحلة ليس فيها سوى نسبة ضعيفة من الخضرة قرب الشواطئ، أو على ضفاف النيل ودجلة والفرات.

 

فالأرضٌ الخصبة مكنت البشر الذين يعيشون فوقها من التكاثر وإفراز الثروة، وتحسين الآلات التي كانت مرحلة الثورة الصناعية في حاجة إليها. وفي المقابل، لم تمكن الأرضُ الفقيرة إلاّ شعوبًا أقلّ عددًا، وأكثر فقرًا، وأعجز عن تجهيز الأساطيل الضخمة، وتحمّل تكلفة البعثات العلمية والعسكرية خارجَ حدودها. وكأن هذا الأمر لم يكن حاضراً خلال آلاف السنين ولم يكن عائقاً أو محفزاً خلال الفترة السابقة!؟.

 

وفي سعيه لبيان أخطاء من سبقه في تعيين مكامن الخطل والزلل وأوجه القصور في حال الأمة، يشبّه المؤلف الخصومات السياسية في البلاد العربية حول كيفية الخروج من التخلف بخصومة العميان في الأسطورة الهندية، الذين طُلِبَ منهم تحديد طبيعة الفيل، فجاء جوابهم متناسباً مع ما لمسه كل واحد منهم من جسد الفيل ذاته. فالإسلامي لا يرى إلاّ غياب القيم، والديمقراطي لا يرى إلاّ غيابَ الحرية، والليبرالي لا يرى إلاّ غياب المبادرة الاقتصادية.  وفي كل الأحوال لا أحد يرى البيئة!.

 

ويرى المؤلف أنّ الحل –نظريًّا- يكمن في تأهيل البيئة والنظام الديمقراطي، والحفاظ على قيم العروبة والإسلام، وإطلاق كل أشكال المبادرة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والتغيير الجذري في العائلة عبر دمقرطتها بتغيير وضع المرأة، والتهام كل ما يصدر في الغرب والشرق من إنجازاتٍ في كل الميادين، وتكوين أكبر عدد ممكن من المختصين وتشجيعهم، في جمع توفيقي بين جميع الحلول المقدمة.

 

وأنه يتوجب الانتقال من مرحلةِ "شعب تحت التأسيس" إلى مرحلة "شعب من المواطنين"، وهي مسؤولية مُلْقَاةٌ اليومَ على عاتق النواة التي تحمل المشروع، وتتحدد مهمة هذه النواة، ليس فقط في تنظيم المقاومة ضد الاستبداد، وإنما ببناء المواطنين، وهو ما يتطلب معرفةً دقيقةً بالتدابير السياسية، وعلى رأسها مبدأ التداول على السلطة، وإقامة الانتخابات الدورية النزيهة، والاستفتاءات الشعبية بخصوص كل القضايا المجتمعية، وسن تشريعات وقوانين تضمن الحريات الفردية والعامة، وتشجع وتموّل وتقيم الجمعيات المدنية التي تضمن حَقَّ العمل والصحة والتعليم للأغلبية، وتضع هذه الحقوق خارج وفوق قانون السوق. فضلاً عن انتهاج سياسات تعليمية وإعلامية بهدف التعريف بالاستبداد، والتركيز على التعذيب والفساد والمخابرات، وكل آليات النظام الاستبدادي.

 

وكذلك انتهاج سياسات أمنية، من خلال فتح مراكز مستقلة لمنع عودة الفساد، والتعذيب، وحكم المخابرات، وتكوين لجان برلمانية مختصة في استجواب كل المسؤولين، على طريقة لجان التحقيق في مجلس الشيوخ الأمريكي.

 

ويبدو المؤلف قد وقع في كتابه فيما حاول تجنبه وتنبه إليه في بداية بحثه، وهو الرؤية الجزئية لكامل الصورة القاتمة لواقع التخلف والتقهقر الحضاري، بما انعكس تالياً على ما قدمه من حل بدا توفيقياً وتلفيقياً في كثير من جوانبه. والحال أن الخروج من الأزمات الكبرى التي تعاني منها الشعوب والأمم والحضارات لا يمكن بلوغه  إلا عبر تكاثف الجهود وتكاتفها بما يخرج به عن إطار الحلول الجزئية التي يطالعنا بها بين الفينة والأخرى بعض المثقفين والنخب في إعادة إنتاج لأسئلة مرحلة النهضة التي باتت متعثرة...ومتعسرة.