وحدة الأمة الإسلامية فريضة وضرورة (3-3)
27 رمضان 1430
انجوغو مبكي صمب

وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على طلب الشارع لوحدة المسلمين، وبصيغ تؤكد على وجوبها ولزومها، وترتب العقوبة على التفريط في تحقيقها في الواقع.

 

وفيما يلي بعض تلك الأدلة:

أولا: من القرآن الكريم.

1- قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران: 103].

 

فقد أمر الأمة جميعا بالاعتصام بحبل الله، ولم يوجه الأمر بالاعتصام بحبل الله إلى الأفراد وإن كان واجبا على كل فرد على حدة، قال ابن عاشور رحمه الله: (والاعتصام افتعال من عصم، وهو طلب ما يعصم أي يمنع،والحبل: ما يشد به للارتقاء، أو التدلي، أو للنجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفاتهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمثيل، وقوله: {جميعا}: حال وهو الذي رجح إرادة التمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كل مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمة كلها)(1).

 

2- قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 46].
(أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله، ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها)(2).

 

وأكد سبحانه النهي عن التنازع بذكر مفاسده وأضراره وأخطرها الفشل وذهاب الريح، قال الرازي رحمه الله (وفيه مسائل: المسألة الأولى: بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين، أحدهما: أنه يوجب حصول الفشل والضعف، والثاني: قوله {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفيه قولان،الأول: المراد بالريح الدولة، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها، يقال هبت رياح فلان إذا دانت له الدولة ونفد أمره، الثاني: أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، والقول الأول أقوى لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثراً في ذهاب الريح ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا قال مجاهد {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي نصرتكم وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد)(3).

 

3- قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى: 13].
قال البغوي رحمه الله: (بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة)(4)، ويعبر بعض الدعاة المعاصرين عن هذا المعنى بأن قيام الدين على ركنين هما: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، ولا يستقيم أمور المسلمين في الدين والدنيا إلا بهما.

 

ثانيا: من السنة النبوية.

وردت في السنة النبوية المطهرة أحاديث كثيرة تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالوحدة والاجتماع والنهي الاختلاف والفرقة، ومن تلك الأحاديث:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
قال النووي رحمه الله: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تفرقوا): فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام، واعلم أن الثلاثة المرضية إحداها: أن يعبدوه، الثانية: أن لا يشركوا به شيئا، الثالثة: أن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا)(5).

 

2- قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة)(6). وقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بلزوم الجماعة في أحاديث أخرى كثيرة.

 

واختلف أهل العلم في تفسير الجماعة إلى:

القول الأول: هم (السواد الأعظم من أهل الإسلام...، فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا، وهم نهبة الشيطان، ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال)، وهذا هو قول أبي مسعود الأنصاري، وابن مسعود،والحسين بن علي رضي الله عنهم(7).

 

القول الثاني: هم (جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية، لأن جماعة العلماء جعلهم الله حجة على العالمين، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام (إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة)، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها)، وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك، وإسحاق ابن راهويه، وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين)(8).

 

القول الثالث: هم (الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا)(9)، (وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز)(10).

 

القول الرابع: هم (جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه)، وهو قول الإمام الشافعي رحمه الله(11).

 

القول الخامس: هم (جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدوا إحدى حالتين، إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتلها وسماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه)، وهو اختيار الإمام الطبري رحمه الله(12).

 

3 – قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (كلاكما محسن) قال شعبة أظنه قال: (لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)(13).

 

قال المناوي رحمه الله: (يعني أن الأمم السابقة اختلفوا في الكتب المنزلة فكفر بعضهم بكتاب بعض، فهلكوا، فلا تختلفوا أنتم في هذا الكتاب، والمراد بالاختلاف: ما أوقع في شك أو شبهة أو فتنة أو شحناء ونحو ذلك...)(14).

 

تلكم جملة يسيرة من نصوص الكتاب والسنة التي تدل على وجوب وفرضية وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم على الحق.
وقد اتفقت كلمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان على الأمر بلزوم الجماعة، فكلهم بلا استثناء كانوا من دعاة الوحدة والاجتماع على الحق، ولم يكونوا من دعاة الفرقة والاختلاف.
 قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: (كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله)(15).

 

وحدة الأمة الإسلامية ضرورة:

مفهوم هذه العبارة هو أن لا قيام لمصالح المسلمين في الدين والدنيا إلا بوحدتهم واجتماع كلمتهم على الحق، وأصدق الأدلة والبراهين على ذلك ما ينتج عن الفرقة والاختلاف - ضد الوحدة والاجتماع - من المفاسد والأضرار في الدين والدنيا، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى ومن أخطرها ما يلي:

- مخالفة أمر الله ورسوله.

اختلاف المسلمين وتفرقهم مخالفة لما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بالوحدة واجتماع الكلمة، وقد أوردنا فيما سبق بعض النصوص من الكتاب والسنة مما يدل على وجوب وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم على الحق، وهي كلها نصوص محكمة يتحتم العمل بها في كل زمان ومكان، لم ينسخ منها شيء.

 

فوحدة المسلمين ليست خيارا استراتيجيا يلجأ إليه المسلمون عند الحاجة أو الضرورة، بل هي أصل من أصول الدين الكلية، وقاعدة من قواعده العظمى، والتفريط فيها معصية توجب غضب الله وعذابه في الدين والآخرة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [سورة الأحزاب: 39].

 

- اختلاف القلوب وتفريق الدين.

إن الاختلاف في الأعمال الظاهرة كصور أداء العبادات، وتحديد مواقيتها الزمانية أو المكانية، أو تباين مواقف المسلمين في القضايا المصيرية، يؤدي إلى اختلاف القلوب ويدل على تنافر المقاصد والنوايا.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بتسوية الصفوف عند الصلاة فيقول: (عن أبى مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)(16).

 

والله المستعان، فقد وقعت الأمة فيما حذرها منه النبي صلى الله لما اختلفوا بينها فاختلفت قلوبهم، فأصبحت كل طائفة تؤدي شعائر الدين من صلاة صيام وحج ونحوها بطريقة مختلفة تماما، كل طائفة تتعصب لمذهبها وفتاوى أئمتها وعلمائها ولا تقبل الرد إلى الله ورسوله عند الاختلاف في شيء من أمور الدين.

 

وترى كل بلد من بلاد المسلمين يطبق من شرع الله – إن طبق- وفق أهواء ساستها، ولا تراعي في ذلك مصلحة الأمة، فتجد بعض بلاد المسلمين في عهد وصلح مع أعداء الأمة وتطبع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، في الوقت الذي يتخذ من جاره المسلم موقفا مغايرا تماما.

 

وكذلك أدى اختلاف مناهج الدعاة ومقاصدهم إلى اختلاف قلوبهم، فعادى بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وحذر بعضهم من بعض، فنزع الله البركة من أقوالهم وأفعالهم، فلم يعد يسمع لهم أحد، أو ينضم لجماعتهم أحد، فنفقت سوق المعاصي والبدع، وانتشر بين المسلمين دعاة الباطل ومروجي الخرافة.

 

-    الفشل وذهاب الريح.

من أعظم أضرار اختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم الفشل وذهاب الريح، وقد ذكرهما الله تعالى في القرآن لخطورتهما، فقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 46].
والفشل وذهاب الريح تعبير بليغ عن نقص قوة المسلمين وقصورهم عن بلوغ مقاصدهم في تقوية جيوشهم وإرهاب أعدائهم، وكذالك ضعف دولتهم أو سقوطها في يد الغزاة والمحتلين.

 

ولا تعبير أدق في وصف واقع المسلمين الأليم من الفشل وذهاب الريح، ذلك بأنهم اختلفوا وتنازعوا ففشلوا في تقوية جبهتهم الداخلية وإعداد القوة اللازمة لحماية أنفسهم، فباع طوائف من المسلمين ذممهم للكفار، فوالوهم من دون المؤمنين، وظلم الرعاة رعاياهم فجوعوهم وضربوا ظهورهم وأهانوا كراماتهم، فكرهت الرعايا رعاتهم فخرجت فئام منهم عن الجماعة وشقوا عصى الطاعة.

 

فذهبت الريح وتلاشت القوة، فضاعت أجزاء عزيزة من أرض الإسلام، إما بالاحتلال كفلسطين أو بتمكن الكفار والمنافقين عليها كما في العراق وأفغانستان.
وأهينت المقدسات الإسلامية بشكل سافر، فلطخت المصحف الشريف بالأوساخ ورمي في الكنف، بل ووزعت في بعض بلاد المسلمين نسخ محرفة من القرآن أسموه ب: (الفرقان)، ونيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسم وأمهات المؤمنين بالكاريكاتير، وأريقت دماء ذكية وأزهقت أرواح طاهرة فقتل المسلمين لأتفه الأسباب.
وكل هذه المصائب وجميع هذه الويلات لم تكن لتحصل إلا باختلاف المسلمين وتفرقهم.

 

___________________

(1)    التحرير والتنوير 3 /173.
(2)    البحر المحيط 4 /411.
(3)    مفاتيح الغيب 15 /138.
(4)    معالم التنزيل للإمام البغوي 7 /186.
(5)    شرح صحيح مسلم للنووي 12/11.
(6)    سنن الترمذي: 4 / 465.
(7)    الاعتصام للشاطبي 2 /260.
(8)    المصدر نفسه 2/261.
(9)    المصدر نفسه 2 /262.
(10)    المصدر نفسه 2 /263.
(11)    المصدر نفسه 2 /263.
(12)    المصدر السابق 2 /264.
(13)    أخرجه البخاري في الصحيح: 2 / 849.
(14)    فيض القدير لعبد الرؤوف المناوي 5 /4.
(15)    شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي 1 /64.
(16)    صحيح مسلم: 1 / 323.