مظاهر الحزن الخادعة
3 ذو القعدة 1430
د. محمد يحيى
تعددت في الفترة الأخيرة في بعض البلدان الأوروبية وبالذات إيطاليا وبريطانيا مظاهر إبداء حزن مسرف وعريض وعميق حول عدد قليل من الجنود التابعين لهذه البلاد عندما يلقون حتفهم في أفغانستان وربما في العراق، ففي كل حالة يلقى فيها جندي أو أكثر مصرعه من بريطانيا أو إيطاليا في أفغانستان مثلاً نتيجة لهجوم المقاومة الأفغانية أو الطالبان على قوات حلف الأطلنطي المرابطة في تلك البلاد يمتلئ الإعلام في هذه الدولة إيطاليا أو بريطانيا بتقارير تتحدث كلها حول هؤلاء الجنود وتذكر خلفياتهم كما تسرف في إبداء مظاهر الحزن عليهم وتتحدث عن أن هذا الحزن على هؤلاء القتلى هو منتشر في جميع جنبات المجتمع ولا يقتصر على أسرهم أو أقربائهم أو معارفهم أو أصدقاءهم.
وتفيض وسائل الإعلام والصحف في تلك البلاد في تعداد وإبراز مظاهر هذا الحزن وإبراز كيف أن كبار الساسة والزعماء الدينيين وغير الدينيين يتسابقون في إبداء الحزن والأسى والأسف على مصرع هؤلاء القتلى الذين سقطوا في بلد بعيد.
ويتصور البعض أن إبداء هذه المظاهر من الحزن والأسف على مصرع عدد قليل من الجنود في مهمة هي على أي حال مهمة صعبة، إنما هو تعبير عن رغبة في تلك البلدان بالانسحاب من أفغانستان أو بالانسحاب من أي أعمال عسكرية موجهة ضد أي بلد إسلامي على الإطلاق، كما يتصورون أن مظاهر الحزن هذه إنما هي تعبير عن إصابات حقيقية حدثت لمعنويات هذه البلاد أو هزات أصابت أداءها العسكري أو السياسي في أفغانستان كما في العراق أو في أي بلد آخر قد تغامر هذه البلاد بالذهاب إليه كما حدث منذ فترة في الصومال مثلاً أو كما يحدث في بلدان أخرى تحت مسميات قوات حفظ السلام.
كما قد يهلل البعض لسقوط هذا العدد المحدود من القتلى من تلك الدولة أو هذه باعتبار أنه نجاح ساحق لقوات المقاومة فيها، وقد تكون كل هذه التفسيرات صحيحة إلى حد ما أو إلى حد كبير، ولكن يبقى هناك شيء غائب معين لا تصل إليه التحليلات حول سقوط هذه الأعداد المحدودة من القتلى الأوروبيين في ميدان المعارك في أفغانستان، وهذا المسكوت عنه هو أن وسائل الإعلام في تلك الدول الغربية عامة عندما تسرف في إبداء مظاهر الأسى والحزن على سقوط عدد محدود من جنودها في مهمتهم التي تقضي باحتلال أفغانستان وإخضاعها والقضاء على المقاومة فيها إنما يهدفون بهذا التركيز والإبراز إلى صرف الأنظار عن حقيقة أخرى مهمة ألا وهي الوحشية البالغة التي تتعامل بها قوات حلف الأطلنطي وعلى رأسها القوات الأمريكية مع أفغانستان كبلد وكشعب وكمدنيين قبل أن يكون هذا تعاملاً مع الطالبان باعتبارهم القوة المقاومة في أفغانستان.
إن الإسراف في إبداء مظاهر الحزن عند الأوروبيين على مقتل عدد محدود أو أفراد قلائل من جنودهم في أفغانستان وهو الإسراف الذي قد يلقى ترحيبًا لدى البعض هنا وهناك باعتباره انتصارًا للمقاومة (وهو كذلك على أي حال) أو على سبيل التشفي في هذه القوات الأجنبية التي جاءت غازية لأفغانستان إنما يخفي وراءه رغبة في صرف الأنظار أو أنظار العالم كله عما تقوم به تلك القوات في أفغانستان من أعمال بشعة تتمثل في القصف المسرف للمدنيين نساء وأطفالاً وشيوخًا ورجالاً وللعزل من المواطنين في هذا البلد بأشد الأسلحة فتكًا وأكثرها قذارة في تاريخ الحروب العالمية ومنها الكثير مما هو محرم دوليًا وهو قصف يكاد يكون يوميًا وتسقط فيه أعداد تتراوح مابين العشرات إلى المئات من المدنيين وهم يسقطون في مناسبات معينة مثل الصلاة في المساجد أو احتفالات الأعراس أو اجتماعات الأسواق وما أشبه، ومع ذلك فإن أحدًا لا يهتم لمصير هؤلاء المدنيين الذين يقتلون بل ينتهي الأمر بهم إلى أن يكونوا مجرد أرقام تذكر في بعض وسائل الإعلام في البلاد العربية والإسلامية ثم تنسى حال ذكرها.
إن هذه الأعداد من المدنيين والعزل وأيضًا من المقاومين من الطالبان وهم على أي حال يدافعون عن أوطانهم لا بواكي لهم كما يقال في المثل في الوقت الذي تتدافع فيه كل الجهات والشخصيات الكبرى والصغرى في البلاد الأوروبية للبكاء وإبداء الحزن والأسى على مقتل عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من جنودها في كل مرة، ولعل آخر الأمثلة التي شهدناها هو ما حدث في إيطاليا عند سقوط ستة جنود إيطاليين قتلى في عملية للمقاومة الأفغانية حيث ذهب بابا الفاتيكان بنفسه إلى المطار العسكري لاستقبال جثثهم ثم أخذ يرسل برقيات التعزية إلى أسرهم والحكومة الإيطالية التي شاركت عن بكرة أبيها ومعها كل السياسيين من كل الاتجاهات وكل القوى الاجتماعية في تلك البلاد في جنازة هؤلاء القتلى وفي الاحتفالات التي أقيمت لتأنبينهم، وكأن إيطاليا مثلاً قد خسرت خسارة فادحة ونسي هؤلاء أن إيطاليا في الحرب العالمية الأولى مثلاً خسرت مئات الألوف من جنودها في معارك عبثية في شمال أفريقيا وفي الاتحاد السوفيتي السابق كانوا يلقون مصرعهم بسهولة ودون أن يهتم لهم أحد لأن إيطاليا الحديثة على أي حال لم تعرف أبدًا بأنها بلد ذو ميراث أو شدة في القتال بل عرفت دومًا على أنها بلد ضعيف خائر العزم والقوى ليست له قوة عسكرية ذات بال أو ذات صمود وجلد في القتال.
إن ما يحدث في هذه المناسبات التي يتباكى فيها الإعلام الأوروبي على أفراد من جنود له قتلوا وهم يحتلون بلد أجنبي مسلم إنما تهدف في حقيقتها وجوهرها إلى إبعاد الأنظار عن عشرات ومئات وألوف من أهل هذا البلد المسلم يلقون حتفهم بصورة يومية على مدى أسابيع وأشهر وسنوات متعاقبة دون أن يهتم أحد بمصيرهم بل ويلقون مصرعهم بطرق إجرامية وبدون جريرة ارتكبوها وفي عمليات متعمدة القسوة والعنف تقوم بها قوات حلف الأطلنطي ضدهم نكاية وانتقامًا مما يفعله بها المقاومون أو على سبيل التخويف والترويع للمدنيين لإثنائهم عن الانضمام إلى المقاومة ومعارضة الاحتلال الأجنبي.