الصين و"إسرائيل" وحوض النيل
12 ذو القعدة 1430
د. محمد يحيى




في الفترة الأخيرة تكشفت حقائق حول أن كلاً من الصين و"إسرائيل" تلعبان في حوض النيل مما يؤثر على المصالح الحيوية الاستراتيجية لكل من السودان ومصر وبالذات لمصر فقد تبين مثلاً أن الصين ورغم الادعاءات التي تتشدق بها حول الصداقة مع الدول العربية تقوم ببناء مجموعة من السدود في أثيوبيا لزراعة ثلاثة ملايين فدان في تلك البلاد وهو ما يؤثر على حصة مصر الأساسية من مياه النيل والتي تتلقى معظمها تقريبًا من أثيوبيا، كذلك تبين أن "إسرائيل" تقوم بنشاط مماثل في بناء السدود، ليس فقط في أثيوبيا وإنما أيضًا في بلدان أخرى في حوض النيل مثل أوغندا وكينيا وربما في رواندا، والواقع أن هذه الأخبار وعلى الرغم من تباين المواقف العربية المعلنة من الصين و"إسرائيل" تدل على أن هناك علاقة ما في الخفاء تربط ما بين هاتين الدولتين كما تربط بينهما من ناحية وبين المخططات الأمريكية والأوروبية المعروفة التي تستهدف حصار السودان ومصر من خلال التضييق على منابع نهر النيل ومن خلال تقليل حصة هاتين البلدين من مياه النيل اللازمة لهما في كل الأغراض.

منذ أشهر قليلة، وعندما قامت الصين بعملية قمع همجية للسكان المسلمين من مواطنيها في الإقليم الذي تسميه "شينج يانج" أو هو إقليم تركستان الشرقية التي كانت مستقلة في يوم ما، وهذه العملية أدت إلى مقتل الألوف وأسر عشرات الألوف والتضييق على باقي سكان الإقليم المسلمين ـ عندما حدث هذا كله لم تتحرك الدول العربية على المستوى الرسمي ولا حتى على المستوى الشعبي لكي تقوم بموقف حازم لمواجهة الصين ولفرض قيود على يدها التي تتحرك بحرية لضرب وقمع هؤلاء المسلمين الذين لم يفعلوا شيئًا سوى أن طالبوا بوقف الهجرة الصينية إلى أراضيهم وبوقف الاضطهاد الذي يصب عليهم من كل جانب، ويمس ممارسة شعائرهم الدينية.

وفي ذلك الوقت، قيل أن للدول العربية مصالح اقتصادية واسعة مع الصين لا تريد تعريضها للخطر بأن تتخذ مواقف حاسمة أو تفرض ضغوطًا على الصين لكف الأذى عما يحدث للمسلمين فيها وبالذات في مقاطعة تركستان الشرقية، وقد قيل هذا رغم أن أحدًا لا يعرف بالضبط حقيقة ومدى هذه المصالح الاقتصادية، فالمعروف للجميع مثلاً أن الصين تقوم بإغراق الأسواق العربية سواء في الخليج أو سواء في الدول العربية الكبرى مثل مصر ببضائع صينية معظمها إن لم يكن كلها، ونحن نتحدث هنا في حالة مصر هي من أردأ أنواع المصنوعات، وهي لا تباع حتى بأسعار رخيصة إلى الدرجة التي يتصورها البعض، ومع ذلك ورغم هذا الإغراق الذي أدى في مصر إلى إنهاء صناعات معينة مثل صناعة الأدوات المكتبية أو صناعة الأحذية وربما سوف يؤدي في المستقبل القريب جدًا إلى إنهاء صناعة النسيج والملابس، لم يتحرك أحد لوقف هذه الهجمة الاقتصادية، ومع ذلك يتحدثون عن مصالح اقتصادية للدول العربية أو لبعضها مع الصين، ولكن في الحقيقة، ولكي تبرز وجهة النظر الأخرى فلابد أن نذكر مثلاً أن الصين قد وقعت في الفترات الأخيرة بعض العقود الكبرى لإنشاء مشاريع ضخمة في بلدان عربية معينة تتراوح من مجال البتروكيماويات إلى مجال السكك الحديدية أو مجال التصنيع للمعدات الثقيلة مثلاً، لكن هذه المشاريع ليست مقصورة في التكنولوجيا الخاصة بها أو في التمويل الخاص بها على الصين فكان يمكن لدول أخرى غير الصين مثل روسيا مثلاً أو بعض البلاد الغربية أو أمريكا أن تتقدم لإنشاء مثل هذه المشاريع إلا أن الفارق في هذه الحالة كان سوف يكون علو التكلفة ولا سيما بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو دول أوروبا الغربية، ولكن علو التكلفة هذا ليس كبيرًا إلى الحد الذي يجعل الدول أو الحكومات الإسلامية تضحي بوجود المسلمين الحيوي والقوي في الصين لمصلحة فروق في التكلفة كان يمكن التضحية بها أو على الأقل كان يمكن التفاوض مع الصين بشأنها تحقيق أمن وسلامة المواطنين المسلمين في تركستان الشرقية إلا أن هذا كله لم يحدث ومضى الأمر سريعًا كما لو أن شيئًا لم يحدث أو أن المسلمين في تركستان الشرقية لا يتعرض وجودهم ذاته للخطر هناك.

وبرغم هذا فما الذي نتج عن هذا الموقف الإسلامي السلبي من الصين والذي باستثناء تركيا لم يتحرك أو حتى لم يحتج بالأسلوب المناسب لخطورة الحدث الذي قامت به الصين ضد مواطنيها المسلمين أو ضد المسلمين الذين تحتل أراضيهم في تركستان الشرقية.

الذي نتج عن هذا التساهل هو أن الصين أقدمت على الدخول في منطقة ينابيع وادي النيل لكي تقوم هناك بمشاريع مائية على وجه التحديد وليس أي نوع آخر من المشاريع، وهي تعلم يقينًا أن هذه المشاريع سوف تؤدي إلى حرمان أكبر دولة عربية من ناحية السكان ألا وهي مصر من الموارد المائية الحيوية التي تحتاج إليها لإبقاء سكانها أنفسهم على قيد الحياة.

إن هذا الموقف من الصين لهو موقف غريب فعلاً، فهي في الوقت الذي تغرق فيه مصر ببضاعتها الرديئة والرخيصة تقوم بإنشاء مشاريع مائية وليس أي نوع آخر من المشاريع في بلدان منابع نهر النيل وعلى الأخص إثيوبيا التي يأتي منها كل إيراد مصر من مياه النيل تقريبًا لكي تؤدي هذه المشاريع في نهاية الأمر إلى حرمان زبائنها أنفسهم وهم المصريون من الوجود والحياة، فكيف يستقيم هذا الأمر؟

إن الصين تمارس هنا سياسة انتهازية غريبة ومنحطة وهي سياسة تجري وراء الربح، فهي تربح من المصريين في الوقت الذي تربح فيه من غيرهم لكي تؤدي في النهاية إلى خسران زبائنها هم المصريون بعد أن تستنزفهم لمصلحة زبائن آخرين يظهرون لها في بلدان شرق أفريقيا وفي أثيوبيا. إن هذه السياسة الانتهازية لا تقل خطرًا بل تزيد عن سياسات "إسرائيل" المعلنة العداوة لأن الصين تتذرع وحتى وهي تمارس هذه الإزدواجية الخطيرة بدعاوى الصداقة والتعاون بين الشعوب.