دموع في قاعة المحكمة !
25 ذو القعدة 1430
صفية الودغيري

كانت تحمل بقلبها ألف جرح نازف ، كانت  تئن أنينا  بصوت  خافت ..  ودموعها تنزل  وتنزل تحكي معاناتها .., كانت تجلس بمنآى عن الناس ، تترقب حلول تلك اللحظة الحاسمة ، اللحظة التي طالما انتظرتها وتمنتها بشوق وحنين .., إنها اللحظة التي تقف فيها أمام القاضي  ، وتطلب منه أن ينصت لشكواها ، ويفسح لها مساحة حرة ، تطلق فيها العنان لصوتها ينطلق مهاجرا ، إلى حيث تتخلص من أوجاعها وآلامها , إنها اللحظة الصادقة التي تملك فيها أن ترخي دموعها وهي تبتسم ، وتتجرد من كل القيود التي تحبس الكلمة في صدرها فتخنق أنفاسها ..

حينها  ستبوح ولا تنوح ، و تقدم ولا تحجم ، وستخبره بتاريخ مولد قصتها ، وسترحل معه عبر أحداثها وظروفها .., إنها لحظة الصفاء والنقاء ، لحظة الاعتراف أمام من يقف على منصة القضاء ، ويملك أن يصدر الأحكام .

وأخيرا سمعت من يزف إليها البشرى بعد طول انتظار ، وقلق يتصارع بنفسها ، إنه صوت آت من بعيد يخترق سمعها  يردد إسمها  ،  فخفق قلبها  وتسارع نبضها ، إلا أنها  هذه المرة لم تشعر بخوفها ولا بخجلها  المعتاد ، بل تحركت بخطى  سريعة  حيث انطلق ذلك الصوت  ،  فإذا ببوابة كبيرة  تفتح أمامها ،  فتتقدم إلى حيث يجلس  رجل وقور ،  أخذت تحدق بملامحه  مليا وهو يقلب أوراقه وملفاته المتناثرة على سطح مكتبه  ،  ظلت صامتة وهو صامت لفترة طويلة ، بعدها رفع نظره إليها وقال لها : تفضلي أنا الآن مستعد لأسمعك  ،  ولكن أخبريني  أولا كم تحتاجين من الوقت ..

هنا تمالكها الخجل فقالت :  أظن أن ساعة من الزمن  تكفيني لسرد قصتي

ثم انطلقت تحك له ، وبداخلها ألف وجع ووجع ، شعرت أثناءها بأن كل لحظة  تمر ، يتحرك معها شريط ذكرياتها الماضية وتجربتها القاسية مع زوجها ، وكأنها في وصل ود بينهما وكأنها تعيشها للمرة الأولى ،  وتكررها من جديد بنفس الإحساس وبنفس الألم ..

كانت كلما حاولت أن تختم قصتها وتتوقف ، تشعر بأن بداخلها ما زال هناك أوراقا متراكمة ، تحمل في طياتها ألف قصة وقصة ، وتجارب ومواقف حياة مديدة ،  تحتاج عمرا آخر   لتسجلها صوتا وكلمات على صفحات تاريخها ، لتدونها  بحبرها على أوراق ذكرياتها ، لتنقشها على حيطان بيتها وجدرانها العتيقة ..

لقد أوشكت الساعة المحددة بأن تنتهي ويدق الجرس ،  فيتحرك القاضي  من مقعده فجأة ويخاطبها  :  يمكنك  الآن أن تنصرفي  .

شعرت بصدمة الزمن عندما تحين النهاية ، وما زال في القلب حكاية ،  فظلت تردد بداخلها : ولكنني لا يمكنني أن أغادر الآن ، لن أنتظر من جديد  اللحظة والفرصة ، وأحلم وأعيش عمري على أمل قد لا يتحقق .  

ماذا سيحدث لو انقضت هذه الساعة ،  وسمح لي بعدها أن أكمل تفاصيل قصتي ؟ هل يوجد هناك شخص غيري ينتظره وهو أهم عنده مني  ؟ هل عرضت عليه  قضايا أخرى هي  أخطر وأعظم من قضيتي ؟ هل هناك من ينتظر أن أغادر هذا المكان ، ليجلس على نفس مقعدي ، وهو  بحاجة شديدة لمثل هذه الساعة أكثر من احتياج نفسي لها ؟  ..

ولكن ما أحوجني لمثل هذه الساعة ، أقف خلالها أمام القاضي ، وينصت لمشاكلي ومتاعبي ، فيساندني ويساعدني على أن أبدأ من جديد ،  حياة مفعمة بالأمل والفرح والسعادة ...

حدقت فيه مليا ثم استجمعت ما تبقى لها من جرأة ، ثم رفعت صوتها وقالت له :  أيها القاضي لن أغادر هذا المكان حتى أكمل قصتي ..لن استسلم للزمن ولا لقانون هذه المحكمة .

ابتسم ورد عليها بصوت منخفض : لقد انقضت الساعة ، ويجب عليك أن ترحلي الآن ، قومي وعودي  إلى بيتك ، واستقبلي زوجك كما ينبغي للزوجة الصالحة أن تستقبل زوجها ،  فإن له عليك حقوقا فأدها كيفما يكون الحال ..

ظلت تردد : وقصتي وما اشعر به بداخلي ، وكل هذا الوقت الذي مر وأنت تنصت لي ، أتراك كنت مشغولا عني بتقليب أوراقك وملفاتك ..

رد عليها وقال بهدوء : قصتك لن تنتهي ، مثلها مثل أي قصة زوج وزوجة ،  وأرى بأنك قد بالغت في تصوير معاناتك وهمومك وأحزانك ، وأرى بأنك بحاجة لكي تشغلي تفكيرك وأحاسيسك بأمور جادة هي أهم ، تنسيك مشاكلك هذه الصغيرة والبسيطة ، فهي لا تستحق  كل هذا الوقت و لا كل هذا الألم ..

أنصحك بأن تكبري عقلك ، وتدركي بأنك مسؤولة أمام زوجك  فاتق الله فيه ، فاتق الله فيه , فجأة ظلت هذه الجملة تتردد وتتردد وتتردد ، كأنها ناقوس  يجلجل صداه  في رأسها

فأمسكت حينها برأسها واتكأت على سطح المكتب لأنها أوشكت بأن تقع  ، فخرس  لسانها  وضاعت أفكارها ، وانقطع حبل صوتها ، فقدت إحساسها بكل من حولها ، حتى بوجودها ووجود القاضي أمامها .

خرجت من مكتبه ، وقبل أن تغادر وتقفل خلفها تلك البوابة الكبيرة ، التفتت إليه فجأة وقالت : أيها القاضي لو سمحت لي ، أريد أن أختم كلامي وأقول :   لقد ظلمني زوجي مرات حين لم يكن عادلا معي  في مراعاة  حقوقي كما أمره الله

فعندما يخذل إحساسك الجميل بصمته الدائم .. ويكسر أحلامك بقسوته..

وعندما يرحل عنك بعيدا إلى منفى ، ويتركك وحيدا تقضي ساعات عمرك بلا معنى ..

ويظل في قلبك جرح لا يفتر يتسع ويتسع  باتساع الفراغ حولك .. ثم يقرر أن يعود إليك ، ليس لأنه يحبك ،  ولكن لأنه يحتاج وجودك لأنه تعود عليك ، فصرت مثل قميصه الذي لا يستغن عنه ، ومثل فنجان قهوته التي يستمتع كلما جلس يرتشف منه قطرات ،  تمنحه قسطا من الراحة والحيوية و النشاط .. 

وعندما تلتقي به من جديد بعد رحيله عنك سنوات ... فكيف تستقبل عودته..  وماذا ستقول له ؟


لعلك أيها القاضي  تدرك الآن بأنك قد تكون قد استعجلت في إصدار حكمك ، حتى  قبل أن أختم سرد قصتي

لعلك تعودت تجلس تقلب صفحات الأوراق والملفات ، وتنصت لمشاكل الناس ، ولكنك لم تجرب أن تعيش بنفس الإحساس الذي يعيش به حامل هم المعاناة  ، لم تجرب أن ترحل معه عبر تاريخه مسافات طوال  وأنت تمشي على قدميك إلى حيث البداية ، تتحرك معه في دوامة الحياة  خطوة بخطوة فترى كيف تجري أمامك الأحداث ، وكيف تصدر الانفعالات آهات وعبرات وحركات .. فتكتشف بنفسك بأنها ليست اختيارا يختاره الواحد منا بقدر ما هي تجارب يعيشها ومواقف تضطره  ليعبر عن إحساسه اتجاهها . حينها أيها القاضي هل تملك تقول لي : اتق الله فيه ؟

 

  أذكرك أيضا ان تأمره بأن يتق الله في فطالما اتقيت الله فيه ولطالما أديت حقوقه كل حقوقه ما طلبها ومالم يطلبها بحسب ما أمرنا الله ورسوله , وبحسب ما تمليه الأخلاق والآداب والأعراف والأحكام , بل والآمال ..

ثم ابتعدت ولم تنتظر لتسمع رد القاضي أو تعليقه ، وأقفلت الباب خلفها ومضت في طريقها ، وغادرت المحكمة وهي تحمل بداخلها معاناة أشد من معاناتها الأولى .