اردوغان يعيد تشكيل محيط تركيا
25 ذو القعدة 1430
طلعت رميح

كثيرة هى التحركات التركية، وهى كذلك تجرى فى كل الاتجاهات لا فى اتجاه واحد، لكنها فى المجموع، تحركات ذات طابع اقليمى، وذات فعاليات غير مسبوقة فى نمطها، اذ هى تحركات لا ترتبط باحداث " انية" ولا تجرى اتبطا بحدث هنا او حدث هناك، بل هى تحركات ذات صفة استراتيجية ،يبدو انها ستظل بحاجة دائمة للمتابعة والفهم والادراك ،اذ نحن امام تغيير كلى للاستراتيجية التركية مخالف تماما لما جرت عليه الحركة التركية منذ الحرب الباردة ،كما نحن امام ولادة اقليم جديد –ليس الشرق الاوسط كما يظن-يربط الشرق بالشرق ،فى القلب منه تركيا التى تسعى لكى تصبح جسرا وممرا ومركز سيطرة وتحكم للعلاقات بين الشرق والشرق ،والشرق واوروبا .نحن امام تغيير للجغرافيا السياسية فى تلك البقعة من العالم.
لقد جرت تحركات فى اتجاه الكيان الصهيونى، اذ عمق رئيس الوزراء التركى رجب طيب اردوغان، نهجه فى تصعيد التوتر وتحويل ما هو سياسى وانى الى تحركات ترسى قواعد جديدة مختلفة فى معادلة العلاقات الاستراتيجية الموروثة عن الحكم السابق على وصول حزب العدالة.
وفى اتجاه سوريا، تطورت الامور باتجاه تعزيز العلاقات وتطويرها من التقارب السياسي وفق قضايا ومشكلات مباشرة، الى علاقات ذات طابع استراتيجى سياسى واقتصادى وعسكرى. وفى اتجاه العراق، لم يعد رجب طيب اردوغان هو المسئول الاول فى عدد الزيارات للعراق، بل وفى عدد الاتفاقات التى وقعها مع الحكم العراقى الحالى، فضلا عن زياراته الى اقليم كردستان، ومن قبل ومن بعد، فان اتجاهات مختلفة وربما متعددة الاوجه صارت واضحة فى تعامل تركيا مع مشكلة حزب العمال الكردستانى الموجوده عناصره داخل الاراضى العراقية. وفى اتجاه ارمينيا، فقد حدث الحدث.جرى التوقيع على اتفاقية بين تركيا وارمينيا، لانهاء مشكلة فاقت سنون تواصلها القرن كاملا، اما فى اتجاه ايران، فنركيا لم تعد على خجلها او صمتها اذ تحركت العلاقان نحو نمط من تبادل المصالح، رغم كل الضغوط الغربية على تركيا بهذا الاتجاه.
فماذا يفعل رجب طيب اردوغان .. بالدقة؟
بطاقة الهوية.. والقيادة
فى العلاقات مع الكيان الصهيونى، تبدو تركيا تحت قيادة اردوغان ،فى طريقها الى فسخ التحالف الاستراتيجى ( والامنى) الموقع خلال فترة حكم " الاتاتوركيين" –وفق نمط من الحركة المتناثرة ودون اعلان او مواجهة حادة حاسمة على المستوى السياسى.
فى الايام الاخيرة، اتخذت تركيا قرارا بالغاء مشاركة الطائرات الصهيوينة فى مناورات كان مقررا اجرائها بمشاركة مع تركيا والولايات المتحدة وايطاليا.
كان القرار مباغتا، وكانت نتيجتة المباشرة هى الغاء المناورات من قبل الاطراف الاخرى " تضامنا" مع الكيان الصهيونى. غير ان اللافت هنا، هو موقف القيادة الصهيونية من القرار التركى، اذ الجم الصهاينة السنتهم" واذاعوا تعليمات صريحة بعدم مهاجمة تركيا بسبب قرارها، وهو ما اظهر " ادراكا" صهيونيا، بان خطا تركيا متصاعدا ، يستهدف انهاء التحالف الاستراتيجى والامنى مع الكيان الصهيونى، وهو ما بدء يحدث " رغم ضعف التلاسن الكلامى" اذ صارت صفقات السلاح الموقعة بين تركيا والكيان الصهيونى فى مهب الريح، مثلها مثل كثير من الاتفاقات الاخرى،اى ان البلدان دخلا فى حالة صراع متوسع ينتج عنه تجاوز ما هو موقع من اتفاق استراتيجى دون اعلان بفسخ هذا التعاقد.
وفى تفسير هذا " التصعيد" التركى باتجاه الكيان الصهيونى، يبدو واضحا انه لم يات من فراغ، اذ سبقه هجوم حاد من رئيس الوزراء التركى على هذا الكيان خلال العدوان على غزة، فضلا عن الملاسنة الشهيرة مع شيمون بيريز خلال انعقاد مؤتمر ديفوس. كما يمكن القول بان البعد الفكرى والسياسى للحكم فى تركيا الان ، يلعب دورا فى تحديد المواقف والسياسات تجاه الدول الاخرى. غير ان المتابع المدقق، يمكنه القول ايضا، باننا امال تقديم جواز مرور لعلاقات اوثق بالعالم العربى والاسلامى، وامام ظهور تركى بمظهر من يمكنه قيادة المنطقة، وان هذا الانقلاب هو تقديم لجواز عبور ومرور وتشكيل علاقات وثيقة مع الاتجاهات النهضوية فى المنطقة العربية والعالم الاسلامى، ذلك ان تركيا كانت ما قبل العدوان على غزة هى من يقوم بدور الوسيط بين الكيان الصهيونى وسوريا. وهنا بيت القصيد ايضا، اذ تركيا ترى فى الاستراتيجية الصهيونية القائمة على استخدام العنف والقتال والقوة وممارسة الصراع باساليب الحرب، ما يتعارض مع خطتها فى التحرك فى المنطقة وانفاذ استراتيجيتها ومصالحها ،ولذا تحاول "تطويع" سياسة اسرائيل ضمن اطار ما يخدم مصالحها.
سوريا الحركة البرية
كان اللافت ان تركيا الغت المناورات مع الكيان الصهيونى، فى ذات الوقت الذى اعلنت فيه عن اجرائها مناورات مشتركة مع سوريا فى فترة ماضية، وانها ستجرى مناورات مشتركة " اضخم" فى فترة لاحقة. كما كان اللافت ان تطوير الخط التصاعدى فى فسخ التحالف الاستراتيجى مع الكيان الصهيونى، قد ترافق ايضا مع تطوير العلاقات مع سوريا على نحو غير مسبوق. فى العلاقات مع سوريا جرت وستجرى المناورات العسكرية، كما اعلن عن تسريع تطبيق اتفاقيات التعاون الاستراتيجى معها، وفى القلب منها، فتح الحدود البرية، للتنقل، وبدء حركة استثمارات تركية واسعة فى سوريا .. الخ.
والمتامل هنا، يجد ان سوريا هو البوابة والارض الوحيدة المتاحة لتواصل تركيا بريا مع الدول العربية فى المنطقة، ذلك ان العراق، لايتناسب مع تلك المهمة بسبب تركز الاكراد فى شمال العراق على الحدود مع تركيا، وعلى اعتبار ان االعراق ما يزال بحاجة الى سنوات حتى الوصول الى درجة الاستقرار التى تتيح لتركيا العبور والتواصل مع المنطقة.
كما المتامل يلحظ ان سوريا التى يجرى التوافق معها، هى مساحة من الامتداد الاقليمى، الى العراق ولبنان، بما يجعلها فى موقع المتحكم فى المرور الاقليمى لتركيا، وهنا تبدو اهمية فتح الحدود مع سوريا، خاصة فى ظل وجود قوات تركية ضمن قوات اليونيفيل، وبالنظر الى وجود ضرورات تركية للتماس المباشر مع القضية الفلسطينية، وقبل هذا وبعده، تبدو اهمية سوريا وقبل هذا وبعده، تبدو من تحالفها ايضا مع ايران.
العراق .. ترتيب التوازنات
التوجه التركى نحو العراق يبدو واضحا فى شان قضية حزب العمال كردستانى، اذ شددت تركيا الخناق العسكرى على عناصر الحزب فى شمال العراق، كما هى هددت بما لا يقبل الشك قيادة كردستان العراق، اذا هى وفرت ملاذات امنة لهذه العناصر ،وهو ما ارتبط بسياسة مصالحه داخلية فى تركيا من جانب اخر.
غير ان تركيا لا تتحرك باتجاه العراق من اجل حل مشكلة حزب العمال الكردستانى فقط، بل هى تتحرك وفق رؤية ودور لتركيا فى العراق ما بعد الانسحاب الامريكى،لتحقيق المصالح التركية فى العراق، وهو ما يتطلب اعادة التوازنات فى داخل العراق او تغيير التوازنات المستحدثة ما بعد الاحتلال، سواء على صعيد اوضاع السنة او على صعيد الاستقرار الجغرافى للعراق كله عامة، والاقليم الشمالى خاصة، اذ تحتل كركوك اهمية خاصة لدى تركيا. وهنا بدى واضحا ايضا ان تركيا قررت ان لا تقف متفرجة عل سيطرة ايران على العراق وحدها .لقد استثمرت تركيا الرفض المتنامى فى العراق للدور الايرانى واحتمالات الفراغ ما بعد الانسحاب الامريكى ،وغياب الدور العربى ،لتقدم نفسها بديلا موثوقا وكبيرا وقادرا على الفعل .
ارمينيا نهاية قرن
اذا كان تحرك تركيا مع سوريا والعراق هو ترك بالاجمال باتجاه المنطقة العربية، عززته من قبل بتصعيدها مع الكيان الصهيونى، فان تركيا تحركت وتتحرك فى اتجاهات اخرى فى كل زوايا الاقليم. الامر الذى انجزته تركيا فعليا، هو ذاك الاتفاق الذى وقع مع ارمينيا لانهاء حالة العداء التاريخى من قبل ارمينيا تجاه تركيا. الاتفاق انهى قصة الخلاف على الحدود او انهى المطالبات الارمينية بحقوق فى الاراضى التركية، كما حول الاتفاق قضية ابادة الارمن، من قضية ذات طابع دولى تحاول قوى دولية تحريكها ضد تركيا لتحقيق اهدافها، الى قضية خلاف بين البلدين. لكن الاهم هو ان تركيا اعادت ترتيب العلاقات مع كل من ارمينيا واذربيجان وفق صيغ تعاون تقلل مساحات الصراع فى المنطقة.
ترتيب الاقليم الجديد
فى الصراع مع الكيان الصهيونى تحاول تركيا وقف مسلسل الحروب وتوتير اوضاع المنطقة، على اعتبار ان مشروعها فى المنطقة هو مشروع :" تسويات  وتنمية لا مشروع حروب وعنف"،ونفس الامر هو الحاصل فى الاقتراب التركى من ايران ،اذ تسعى تركيا الى ضبط ايقاع الحركة الايرانية فى الاقليم ،معتمدة فى ذلك على حاجة ايران فى المرحلة الراهنة الى تهدئة الكثير من الصراعات باعتبارها استنفرت قوى عديدة ضدها. وفى اتجاهات العمل مع سوريا والعراق، تحاول تركيا عبر مجلس التعاون الاستراتيجى مع كلا من البلدين الوصول الى تشكيل مثلث للتعاون فى المنطقة ،يكون بمثابة كتلة اقتصادية وسياسية ثابتة على نحو ما ،تمكن تركيا من التحرك بها ومن خلالها الى محيط اوسع .
غير ان ما يكشف ابعاد الرؤية الكلية للمشروع التركى،هو تحركها فى اتجاه الدول المجاورة لها فى الاتجاه الاخر، ليس فقط توجهها بانهاء العداء مع ارمينيا، بل محاولتها عقد اتفاق شراكة استراتيجية مع كل من روسيا واليونان وبلغاريا ورومانيا ايضا.
هنا يبدو ان تركيا، تحاول ترتيب الاقليم من حولها ، وبالدقة تحويل وضعها كقنطرة بين الشرق والشرق الى ميزة استراتيجية، لتصبح هى وصلة التنمية بين العرب والدول الاخرى فى شمالها ( روسيا ، بلغاريا والمجر رومانيا)، وجسرا للطاقة بين العراق وايران والدول الاوروبية، كما هى تعمل وفق استراتيجية ستقودها للتمدد بنفوذها ونشاطها باتجاه دول الخليج من جهة ،وباتجاه دول القوقاز،من جهة اخرى ، ودول اوروبا الشرقية فى اتجاه ثالث ، واوروبا فى اتجاه رابع ..الخ ،وهى فى ذلك تعكس دورها الذى لعبتة خلال الحرب الباردة مع روسيا، بالانتقال من حاجز حلف الاطلنطى، الذى احتجز الدور السوفيتى من الوصول الى الشرق الاوسط، الى جسر للتعاون بين روسيا والشرق ،وبين الشرق والشرق .
لقد ظلت تركيا هى النموذج الصافى للدولة الحائرة بين الشرق والغرب، والان هى تتحول الى الدولة التى تمثل محورا يجمع دول فى اقليمها من كل الاتجاهات لبناء تكتل اقليمى ،هو الاول من نوعه فى تلك المنطقة .
واذا حاولنا التمعن اكثر ،فان تركيا تسعى للتحول الى مركز اقليمى مسيطر ،يجمع دولا هى وحدها القادرة على جمعها ،ولا تجتمع الا عبر تركيا ،وتشكيل شبكة مصالح بين تلك الدول وتركيا ،وبين هذا التكتل الاقليمى وروسيا من جهة ،واوروبا من جهة اخرى .
نحن نشاهد نقلة كبرى فى اعادة ترتيب الاوضاع فى تلك المنطقة ،اذ الاغلب ان تركيا ستصبح اللاعب الاكبر فى المنطقة التى تشمل دول القوقاز ودول الاتحاد السوفيتى السابق فى اتجاه ،والمنطقة العربية وايران فى اتجاه اخر .وهنا تبدو الامور متسارعة نعم ،لكنها بحاجة الى وقت طويل لتنجز.