أثر اتساع النطاق العمراني بمكة المكرمة في فتوى قصر المكي للصلاة بمنى (2)
30 ذو القعدة 1430
د. عبد الله بن حمد الغطيمل
 
الوقفة الخامسة: مدى انطباق مفهوم السفر على الخارج من مكة إلى منى عند شيخ الإسلام ابن تيمية في عصره:
ألمحت في الوقفة الثانية إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عاش في النصف الثاني من القرن السابع وأوائل القرن الثامن أي ما بين عام (661هـ) وعام (728هـ) وذكرت أن النطاق العمراني في هذا العصر لمكة المكرمة لا يتجاوز منطقة الحرم وكان بين عامر مكة ومنى جبال وأودية وشعاب، فالمسافة بينهما ينطبق عليها مفهوم السفر الذي وضعه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقررته في الوقفة السابقة، ومما يؤكد ذلك من كلامه رحمه الله.
قوله: "فعرفة، ومنى، ومزدلفة، صحارى خارجة عن مكة ليست كالعوالي من المدينة"(1).
ب – وقوله: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد، وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد، فبينها وبين مكة صحراء، يكون مسافراً من يقطعها، كما كان بين مكة وغيرها"(2).
فهذا النصان صريحان في أن الخارج من مكة إلى منى في عداد المسافرين عند شيخ الإسلام ابن تيمية في عصره لكونه يبرز الصحراء، وقد أكّد شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر أن ما بين مكة ومنى صحراء حينما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقال: "وأما في حجة الوداع، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمناً، لكنه لم يكن نازلاً بمكة، وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة وهو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ولا بمكان فيه الزاد والمزاد وقد قال أسامة: أين ننزل غداً؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر"(3). وهذا المنزل بالأبطح بين المقابر ومنى"(4).
إلا أنه مما ينبغي تأكيده أن شيخ الإسلام ابن تيمية وإن قال إن ما بين مكة ومنى صحراء الخارج إليها يعد مسافراً إلا أنه قد استثنى من يذهب إليها ويرجع في ساعته فلم يعده مسافراً حيث الضابط عنده أن: "المسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً"(5).
وقد ذكرت في الوقفة السابقة قوله: "وقد يكون مسافراً من مسافة قريبة ولا يكون مسافراً من أبعد منها مثل أن يركب فرساً سابقاً ويسير مسافة بريد ثم يرجع من ساعته إلى بلده فهذا ليس مسافراً، وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة ويحتاج في ذلك إلى حمل الزاد والمزاد كان مسافراً كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة، ولو ركب رجل فرساً سابقاً إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافراً"(6).
 
الوقفة السادسة: النطاق العمراني في مكة المكرمة عبر العصور
يرجع بداية العمران في مكة المكرمة إلى أواخر القرن الخامس الميلادي عندما عاد قصي بن كلاب إلى مكة وقرر السكن فيها، فجمع قصي قومه فأنزلهم مكة بجوار قبيلة خزاعة، وأمرهم ببناء مساكنهم حول الكعبة وقام ببناء دار الندوة لاجتماع زعماء القبيلة وذلك في الجزء الغربي من الكعبة، وهي أول بيت بنيت في مكة عام (150) قبل الهجرة ثم خط قصي بن كلاب ساحة دائرية، توازي صحن المطاف القديم، وأباح للناس البناء دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع، وقد بنى مساكنه ومساكن أبنائه بحيث تطل على ساحة الكعبة، ومن يومها ابتدأت المساكن الدائمة في مكة المكرمة وأخذت تزداد تدريجياً من حول الكعبة(7).
ويصف لنا النجم عمر بن فهد السكن بمكة بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثمانية وأربعين عاماً فيقول: "وكانت قريش قد جاورت الكعبة، وكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن اليماني والأسود لبني مخزوم وتميم وقبائل من قريش ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر وهو الحطيم لبني عبد الدار ولبني أسد بن عبد العزى وبني كعب"(8).
ثم بدأ العمران يأخذ بالاتساع والكثافة من ناحية باب بني شيبة شرقاً بقرب حصوة باب السلام القديمة حيث كانت بيوت السفيانيين، وبعض بطون من غساسنة الشام، ودور لبني عامر بن لؤي، وأخرى لآل عدي من ثقيف، ثم امتد العمران لشعب بن يوسف المسمى (بشعب علي) حالياً حيث تقع دور بني عبد المطلب، ويليه شعب عامر ليضم دوراً لبني بكر وأخرى لبني عبد المطلب، وفي الناحية الشمالية من الكعبة وعلى السفوح المطلة على المروة توجد دار أبي سفيان، ودور لبني عبد شمس، وآل زراره.
ومن الناحية الجنوبية الشرقية في منطقة أجياد يسكن بنو تميم وبنو مخزوم مما يلي الحرم يليهم جماعة من الأزد، وفي المسفلة مما يلي الحرم كانت تنزل بطون من آل صيفي، وبينهم جماعة آل عبد الدار، وجماعة من بني مخزوم، وفي منطقة السوق الصغير وهي المنطقة التي أدخلت مؤخراً ضمن توسعة خادم الحرمين الشريفين ... في الجهة الجنوبية الغربية من الكعبة كانت تنزل بطون من بني أسد بن عبد العزي(9).
ومن البعثة النبوية إلى عام (132هـ) ازدهر العمران في مكة بسبب التوسعات التي طرأت على المسجد الحرام، حيث إن توسعات الحرم المتعاقبة كانت تعني توسع المدينة نحو الأطراف؛ لأن من يهدم بيته كان يقوم بالبناء في مكان أبعد من الحرم، فوصل العمران في طول المدينة من الناحية الشمالية الجودرية (بئر مطعم بن عدي) أما من الجهة الأخرى فلم يتجاوز العمران الشبيكة، أما شرقها إلى غربها فقد كان تكاثف السكان فيها في أوائل أجيادين إلى القشاشية، إلى النواحي القريبة من سوق الليل وشعب بني هاشم، ومن سويقة إلى قرارة المدحى، إلى الجزء القريب من الشامية(10).
ومنذ عام (132هـ - 623هـ) ظل العمران يراوح مكانه ولم يتعد الحجون شرقاً وهناك مقابر المعلاة، والمعروف أن المقابر تكون خارج البنيان، وهو الذي يعنينا في بحثنا هذا لأن هذا هو الطريق من مكة إلى منى وقد قمت بقياس المسافة من المسجد الحرام إلى آخر مقابر المعلاة، وبالتحديد من نهاية الساحة الشرقية بجوار نفق شعب علي ومكتبة مكة فبلغ طولها إلى جسر الحجون القائم حالياً (1.100م) وإلى آخر مقبرة المعلاة من جهة الجعفرية (1.300م).
ثم قمت بقياس المسافة بين نهاية العمران إلى منى خلال هذه الفترة فبلغت (5.100م)، وذلك من نهاية مقابر المعلاة إلى جمرة العقبة وهي حد منى من الناحية الشمالية.
وقد وصف الفاسي – المتوفى 832هـ - مكة في هذه الفترة: بأنها بلدة مستطيلة كبيرة لها ثلاثة أسوار هي: سور المعلاة وفيه بابان، وسور الشبيكة وفي باب كبير وسور اليمن وهو في المسفلة، والسور هنا معناه سد بين جبلين لأن مكة تحوطها الجبال من باقي الجهات(11).
وهذا لا يمنع من وجود مساكن في الضواحي المتفرقة القريبة كالحجون والمعابدة لكن المراد هنا تحديد البنيان المتصل.
ويظهر جلياً من هذا العرض لحالة العمران في مكة المكرمة في هذه الفترة تطابقها مع وصف شيخ الإسلام ابن تيمية لما بين مكة ومنى في عصره، والذي سبق أن ذكرته في الوقفة السابقة وحاصله وجود صحراء بين مكة ومنى الأمر الذي دعاه إلى أن يقول بجواز قصر المكي الصلاة في منى لإطلاق اسم المسافر على من قطع هذه المسافة.
ويظهر أن الحال قد استمرت على ما هي عليه خصوصاً في الناحية الشرقية إلى نهاية العقد الثاني من القرن الرابع عشر سوى قيام بعض المساكن والمحلات والأسواق في المعابدة، وذلك حسب وصف إبراهيم رفعت باشا لمكة المكرمة عام 1318هـ(12).
وقد حدد إبراهيم باشا الزمن الذي يستغرقه قطع المسافة بين مكة المكرمة ومنى ابتداء من المعلاة بساعتين بسير الجمل المعتاد حيث كان طول الطريق (6كم) كما حدده إبراهيم باشا وقال: "وقد قطعنا المسافة بين مكة وبينها في ساعتين وخمس وأربعين دقيقة وبدأنا سيرنا من معسكرنا بجرول جنوبي مكة الغربي"(13).
ثم أخذت مساكن مكة بالاتساع حتى بلغت الذورة ما بين عام (1395-1403هـ) حيث اتصل البنيان من الحرم المكي الشريف حتى أحاط بمشعر منى إحاطة السوار بالمعصم، فصارت منى قريبة جداً للبنيان الذي يشمله اسم مكة المكرمة، وقد أسهم في هذا القرب فتح طرق جديدة تصل منى ببعض أحياء مكة الجديدة، وذلك بشق الجبال رأسياً أو حفر أنفاق فيها، فقد وصل حي العزيزية المتاخم لمنى بطريقين ونفق: فالطريق الأول قرب طرف منى الجنوبي قبيل وادي محسر فقد تم شق الجبل الفاصل بين حي العزيزية بمكة ومنى من أعلى إلى أسفل ونصب على طرفيه جسر أطلق عليه (جسر الملك عبد العزيز) وقد قمت بقياس المسافة بين حد منى الواقع عرض هذا الطريق وبين أول بيت من حي العزيزية الشرقية على يمين النازل من منى إلى حي العزيزية فبلغت المسافة (450م) وهذه المسافة يقطعها من يمشي على قدميه في حدود عشر دقائق فأقل.
الطريق الثاني: من منتصف منى تقريباً، فقد تم فتح نفق في الجبل الفاصل بين منى وحي العزيزية ونصب على طرفيه جسر أطلق عليه (جسر الملك خالد) وقد قمت بقياس المسافة من وسط هذا النفق وهي بداية منى حتى أول بيت في العزيزية الشرقية على يمين النازل من النفق إلى جهة العزيزية فبلغت المسافة (800م).
الطريق الثالث: في طرف منى، على يسار النازل بعد جمرة العقبة، وهذا قد شق الجبل من أعلاه إلى أسفله، ليصل طرف منى الشمالي بطرف العزيزية الشمالي، وأطلق على هذا الطريق (شارع صدقي) وقد قمت بقياس المسافة بين جمرة العقبة التي هي حد منى من ناحية الشمال، إلى أول بيت في العزيزية الشرقية، فبلغت المسافة (700م).
كما فتح نفق في الجبل الشرقي ليصل منى بمنطقة المعيصم والأحياء المحيطة به وهذا امتداد (لجسر الملك عبد العزيز) الآنف الذكر، كذلك فتح نفق في الجهة الشمالية الشرقية ليربط منى بالأحياء الشمالية الشرقية وأطلق على هذا النفق اسم (نفق الملك فهد) وهو الواقع في (مجر الكبش).
وقد زحف العمران من الناحية الشمالية أي حي (الششة) إلى ناحية منى بحيث أصبح بُعْد أول بيت عن جمرة العقبة (1.300م).
يقول الدكتور السرياني عن الفترة الواقعة بين (1395-1403هـ) وهي ما يسميها بفترة العصر الذهبي لمكة المكرمة يقول: "شهدت مكة طفرة في العمران فاقت كل التوقعات، وظهرت امتدادات سكنية جديدة في أحياء العزيزية، والزهراء والرصيفة، والشرائع والتنعيم، وغيرها، وتعدت مكة الجبال المحيطة بها، وانتشر العمران على طول الطرق الرئيسية للمدينة المقدسة. وإذا ما نظرنا إلى حدود المدينة الحالية بصفة عامة، نرى أنها قد امتدت من جميع الجهات، فقد امتد العمران على طريق المدينة المنورة شمالاً لأكثر من أربعة عشر كيلو متراً، واتجهت المخططات الإسكانية في أجزاء متفرقة شمالاً نحو مدينة الجموم، ومن ناحية الغرب غطى العمران مناطق الطندباوي والهنداوية، وامتد غرباً على طريق جدة السريع إلى الرصيفة، وعلى طريق جدة القديم في اتجاه وادي فاطمة، وفي الجزء الجنوبي: امتد العمران إلى أكثر من ثمانية كيلو مترات، على طريق الليث واليمن، وجنوب المسفلة، ومن الناحية الجنوبية الشرقية، شمل العمران كل منطقة العزيزية حتى حدود الطريق الدائري الخارجي، ثم اتجه شمالاً حتى دخل منطقة المشاعر المقدسة"(14).
 
الوقفة السابعة: تغير مدرك الفتوى بقصر الصلاة للمكي في منى
حينما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المكي يقصر الصلاة في منى، بنى ذلك على عرف كان في زمنه، كما سبق أن أشرت إلى ذلك في وقفة سابقة وذكرت ما يؤيد ذلك من كلام شيخ الإسلام، ولو أمعنا النظر في النطاق العمراني لمكة المكرمة في الوقفة السابقة، ونظرنا إلى العرف في عصرنا هذا، لتحصّل لدينا أن ليس هناك صحراء يسفر إليها الخارج من مكة إلى منى، ولا يحتاج فيها إلى زاد ومزاد، وليس في عرف الناس اليوم أن يقول قائل سافرت إلى منى، بل هو في انتقاله من مكة إلى منى كانتقاله إلى حي العزيزية أو الرصيفة أو العوالي ونحوها بل قد يكون بعض هذه الأحياء أبعد عن مكة من منى، وبينها وبين مكة من الانفصال في البنيان ما هو أكثر مما بين مكة ومنى، وبينها وبين مكة من الانفصال في البنيان ما هو أكثر مما بين مكة ومنى، وذلك كحي العوالي، والشرائع، ولما لم يكن سبب لقصر الصلاة في منى إلا السفر كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(15)، ومبناه العرف، والعرف قد تغير الآن فالحكم يدور مع علته وجوباً وعدماً، وقد قرر العلماء أن الأحكام التي مدركها العرف والعادة إذا تغيرت الأعراف والعادات، فإن المفتي ينتقل إلى ما يقتضيه العرف الجديد وحذروا من الجمود على المنقولات(16).
بناء عليه فالذي ظهر لي أن الفتوى بعدم جواز قصر المكي للصلاة بمنى في عصرنا الحاضر هو الأقرب للصواب للمؤيدات التالية.
 
الوقفة الثامنة: مؤيدات القول بعدم جواز قصر الصلاة لمنى لأهل مكة:
أن منى في هذا العصر أصبحت تابعة لمكة المكرمة، وحي من أحيائها، بل إن بعض الأحياء من بعض الجهات لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق منى، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو صاحب فتوى جواز قصر أهل مكة بمنى قرر بأنه لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافراً، قال شيخ الإسلام: "كما أن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بمنزلة القرى المتقاربة، عند كل قوم نخيلهم، ومقابرهم، ومساجدهم، قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفراً، ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقصرون في مثل ذلك.. والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية ليس بمسافر، ولا يقصر الصلاة"(17).
وإذا كان هذا حال المدينة، وعواليها، وقراها المحيطة بها، فمن باب أولى منى مع مكة في عصرنا الحاضر.
الشريعة لا تأتي بالفرق بين المتماثلات وإذا لم يثبت أن لقصر الصلاة علاقة بمناسك الحج فأي فرق بين من يكون بمنى في اليوم الثالث عشر حاجاً ويكون فيها في اليوم الرابع عشر قد فرغ من أعمال الحج؟.. بل أي فرق بين من يصلي العصر قصراً في اليوم الثالث عشر بمنى وبين من يصلي العشاء في نفس اليوم فهل نقول له اقصر العصر ولا تقصر العشاء؟
ثم أي فرق بين الصلاة بمنى أي داخل حدودها الشرعية وبين الصلاة في منزل يبعد عن الحدود خمسمائة متى؟
إن المكي الذي يقصر الصلاة بمنى أيام منى، لا يجرؤ اليوم على قصرها في غير أيام منى، ولا حجة على التخصيص، إلا فعل الصحابة من أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد قرر شيخ الإسلام أنه لا مسوغ له إلا السفر(18)، ولا سفر في عصرنا الحاضر بين مكة ومنى.
إن القول بأن أهل مكة لا يقصرون بمنى، هو قول المذاهب الأربعة، استثنى المالكية المتلبس بالحج فقالوا: يقصر في حال خروجه من بلده، وفي حال رجوعه إليها، ويتم بها، وقد ذكرت حجتهم في وقفة سابقة، ونظرتها(19).
إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين قد أتم بمنى في الحج مع أنه آفاقي، وقد فسر عمله هذا بعدة تفسيرات منها: أنه نوى الإقامة وهو ما رجحه الطحاوي وردّه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها أنه تأهل بمكة، ومنها أنه قدم في تلك السنة بعض الأعراب فخشي أن يظنوا أن الصلاة ركعتان فأتمها ليعلمهم(20)، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يرى القصر إلا لمسافر تلحقه مشقة وهو الذي يحمل الزاد والمزاد فقال رحمه الله: "وأما إتمام عثمان فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول(21) لا على ما لم يثبت عنه.. وقوله بيّن فيه مذهب، وهو أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية أو مصر إلا إذا كان خائفاً بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصاً أي مسافراً، وهو الحامل للزاد والمزاد أي الطعام والشراب والمزاد وعاء الماء – يقول: إذا كان نازلاً مكاناً فيه الطعام والشراب كان مترفهاً بمنزلة المقيم، فلا يقصر لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق بالإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة، فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد وللخائف، ولما عمرت منى، وصار بها زاد ومزاد، لم ير القصر بها، لا لنفسه ولا لمن معه من الحجاج"(22).
والحاصل: أن جعل عثمان بن عفان رضي الله عنه المشقة علة للقصر في السفر – كما يقول شيخ الإسلام – يؤيد ما ذهبت إليه، فإن قيل ليست هي العلة، وإنما العلة السفر بحد ذاته، فيمكن الجواب عن ذلك: بأنه كما تخلفت علة المشقة في عهد عثمان رضي الله عنه عن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فالعلتان في عصرنا هذا جزماً متخلفتان، أما السفر وهو متفق عليه فقد أوضحت تخلفه بما لا مزيد عليه، وأما المشقة إن جعلناها علة، فهي متخلفة في عصرنا هذا، لا يختلف اثنان في ذلك، فمنى في أيامها في هذا العصر تتحول إلى مدينة تتوافر بها جميع مقومات الحياة، بل هي إلى الكماليات أقرب، وهذا من نعمة الله على عباده فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا.
إن بعض الصحابة – رضوان الله عليهم – ممّن لا يرون للسفر حداً، جعلوا أعمال البلد منه، ولو كان بينها وبين البلد صحراء، ومن هؤلاء: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد روى عنه أبو بكر بن أبي شيبة قوله: "لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم فإنه من مصركم"(23).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فقوله: (من مصركم) يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعاً له"(24).
وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة أن معاذا وعقبة بن عامر وابن مسعود قالوا: "لا تغرنكم مواشيكم، يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال، أو بطون الأودية، وتزعمون أنكم بسفر، لا، ولا كرامة، إنما التقصير في السفر البات، من الأفق إلى الأفق"(25).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة، وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ: "من أفق إلى أفق" فهذا هو الظاهر، ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: (فإنه من مصركم) وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له، فهم يجعلون ذلك كذلك وإنطال، ولا يحدون فيه مسافة... فهذا يدل على أن بن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة، ولكن جعل أمراً آخر كالأعمال، وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان، لكن بعموم الولايات وخصوصها، مثل من كان بدمشق فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها كان مسافراً"(26).
قلت: وهذا حال منى لو كان البنيان منفصلاً بينها وبين مكة، فكيف إذا اتصل البناء، وأصبحت أحد أحياء مكة، بل تتبعها من الناحية الإدارية والجغرافية وغيرها.
إن إتمام المكي في منى فيه خروج من خلاف الأئمة الأربعة لو كان بين مكة ومنى صحراء، حيث جعلوا للترخص في السفر حداً، فكيف إذا اتصل البنيان، وانتفى السبب الموجب عند من يقول به، وانتفت كذلك المشقة عند من يقول بها، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتم الصلاة في السفر لأنه لا يشق عليها، وقد أخبرت بذلك عن نفسها، فقد أخرج البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا اين أختي إنه لا يشق علي"(27).
قال ابن حجر: "وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل"(28).
 
الوقفة الأخيرة: في حاصل ما تقدم:
بعد هذا العرض وفي ختام بحث هذه المسألة المهمة أحب أن أسجل بعض النقاط التي تعطي ملخصاً لما توصل إليه الباحث فأقول مستعيناً بالله تعالى:
أولاً: إن أساس الفتوى بقصر المكي بمنى هو قول من قال إنه لا حد للسفر، حيث جاء مطلقاً في الكتاب والسنة فيرجع فيه إلى العرف فما تعارف الناس عليه أنه سفر فهو سفر وما لا فلا.
ثانياً: من القائلين بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد انتصر لذلك في كتاب مجموع الفتاوى في مواضع متعددة.
ثالثاً: ولما كانت منى منفصلة عن مكة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصلى مع الصحابة من أهل مكة في حجة الوداع قصراً في منى، حيث لم ينقل أنه أمرهم بالإتمام كما أمرهم بمكة عام الفتح، جعل شيخ الإسلام ذلك دليلاً على أن الصلاة تقصر في طويل السفر وقصيره، وأفتى بجواز قصر المكي الصلاة بمنى، بناء على عرف كان في زمنه، وهو جعل الخارج من مكة إلى منى مسافراً لوجود صحراء بينهما.
رابعاً: قرر العلماء أن الأحكام التي مدركها العرف والعادة إذا تغيرت تلك الأعراف والعادات لزم المفتي أن ينقل الحاكم إلى ما يقتضيه هذا العرف أو تلك العادة الجديدة.
خامساً: بناءً عليه: وقد تغير الوضع في عصرنا الحاضر عما كانت عليه الحال في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية: واختلف العرف، فلم يعد يطلق على الخارج من مكة إلى منى أنه مسافر، وذلك لاتصال البنيان، وقرب المسافات، واتحاد المسميات باسم واحد فإن القول بعدم جواز قصر المكي في منى قول قوي في نظري، لا سيما وأن هذا قول الأئمة الأربعة وهو المذهب عندهم.
سادساً: إن قول من قال: إن قصر الصلاة من النسك، لا دليل عليه، بل لم أقف على من قال به سوى أنه نسبه ابن حجر للمالكية، ولم أره لهم، وكذلك نسبه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لبعض العلماء ولم يصرح بهم، فإن ثبت ذلك بالدليل لزم المصير إليه، والوقوف عنده امتثالاً لقول الله تعالى: )إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51).
وعند هذه الآية الكريمة تتوقف شباة القلم. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا الصواب في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
_________________
(1)   مجموع الفتاوى 24/121، وقد أكد ذلك قبل شيخ الإسلام ابن خزيمة في صحيحه 2/77-80 وبيّن أن منى بلدة خارج مكة منفصة عن بنيانها، وإن كانت من الحرم فالخارج من مكة إلى منى إذا جاوز بنيان مكة قصر الصلاة ولو كان ما يزال في الحرم، وابن خزيمة عاش في القرن الثالث الهجري وأوائل الرابع أي ما بين 223هـ - 311هـ).
(2)        المرجع السابق 24/122.
(3)   رواه أبو داود 2/514 كتاب المناسك باب [87] واللفظ له، ورواه البخاري 2/158 كتاب الحج باب [45] من غير سؤال أسامة من طريق أبي هريرة، وكذلك رواه مسلم 2/952 كتاب الحج باب [59].
(4)        مجموع الفتاوى 24/95.
(5)        المرجع السابق 24/135.
(6)        مجموع الفتاوى 24/119.
(7)        مكة المكرمة دراسة في تطور النمو الحضري د. محمد محمود السرياني ص 11.
(8)        إتحاف الورى بأخبار أم القرى 1/294.
(9)        مكة المكرمة دراسة في تطور النمو الحضري د. محمد محمود السرياني ص 12.
(10) المرجع السابق ص 16-17.
(11)شفاء الغرام 1/23 وما بعدها، وراجع رحلة ابن بطوطة ص(131) فقد ذكر أن أبواب مكة ثلاثة هي المعلاة، وباب الشبيكة وباب المسفلة، وانظر الدكتور السرياني مرجع سابق ص 21، وراجع أيضاً مرآة الحرمين، إبراهيم باشا 1/178 وما بعدها.
(12) مرآة الحرمين 1/177 وما بعدها.
(13) المرجع السابق 1/322.
(14) مكة المكرمة دراسة في تطور النمو الحضاري ص 41-42.
(15) مجموع الفتاوى 24/46.
(16)راجع في مثل ذلك: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي ص 233-234، والفروق للقرافي أيضاً 3/162، الطليعة للشنقيطي ص 89، العرف والعمل في المذهب المالكي للجيدي ص 86، وانظر بحث تغير الفتوى مفهومه وضوابطه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي للباحث ص 48، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد الخامس والثلاثون عام 1418هـ.
(17)مجموع الفتاوى 24/15، وراجع ص 49، وراجع ص 122 فقد ذكر فيها "أن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافراً، والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافراً فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد فهو مسافر".
(18) مجموع الفتاوى 24/46.
(19) راجع الوقفة الثالثة.
(20)راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 24/85 وما بعدها وراجع 94، شرح معاني الآثار للطحاوي 1/425 وما بعدها، فتح الباري 5/273-274.
(21)أخرجه الطحاوي بسنده عن عثمان بن عفان في شرح معاني الآثار 1/426، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/446، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه 2/521.
(22) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/93-94.
(23)مصنف ابن أبي شيبة 2/446، وإسناده جيد رجاله كلهم ثقات ما عدا علي بن مسهر فله غرائب بعد أن أضر، وقيس بن مسلم رمي بالإرجاء كما في التقريب على حسب ترتيب رجال السند في الصفحات (405، 252، 458، 281) مع العلم أن المقصود بالشيباني هو أبو إسحاق الكوفي سليمان بن أبي سليمان لأنه هو الذي روى عنه علي بن مسهر كما في التهذيب 4/197.
(24) مجموع الفتاوى 4/115.
(25)المصنف في الأحاديث والآثار 2/447، وإسناده ضعيف جداً لأن أبا فروة أحد رجال السند هو أبو إسحاق بن عبد الله الأموي مولاهم المدني من الطبقة الرابعة وهو متروك، وهو الذي روى عن عمر بن شعيب كما في التهذيب 1/240 وانظر بالنسبة لرجال السند على ترتيبهم في السند التقريب ص (355، 102، 243، 267).
لكن روى عبد الرزاق في مصنفه 2/522 عن ابن جريح قال أخبرني عبد الكريم عن أبي سعيد وحذيفة أنهما كانا يقولان لأهل الكوفة لا يغرنكم حشركم (أي إخراج الدواب للرعي) ولا سوادكم لا تقصروا الصلاة إلى سواد قال وبينهم وبين السواد ثلاثون فرسخاً) وسنده صحيح رجاله كلهم ثقات كما في التقريب ص (361، 363)، وعبد الكريم أحد رجال السند هو ابن مالك الجزري الذي روى عنه ابن جريج كما في التهذيب (6/403) وقد سلم ابن جريج من التدليس والإرسال حيث قد صرح بالسماع من عبد الكريم.
(26) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 24/116-117.
(27)رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/43 كتاب الصلاة، باب من ترك القصر في السفر غير رغبة عن السنة، قال ابن حجر إسناده صحيح. انظر فتح الباري 5/275، وقد روى إتمام عائشة مسلم في صحيحه 1/478، كتاب صلاة المسافرين باب [1]. قال الزهري فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: تأولت كما تأول عثمان.
(28) فتح الباري 5/275، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 24/95.