يوميات الحاج (3)

فيما يلي بيان صفة الحج من عند الشروع فيه إلى إتمامه:

يوميات الحاج:

قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، [البقرة: ١٩٧]، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فلا يجوز الإهلال بالحج في غير هذه الأشهر(1).

 

وجميع شعائر الحج- باستثناء طواف القدوم، وعمرة المتمتع، وطواف الوداع- يقع في الأيام المعلومات، حيث إنها تبدأ من يوم التروية- وهو الثامن من ذي الحجة- إلى اليوم الثالث عشر من ذي الحجة للمتأخر(2).

 

يوم الإهلال بالحج:

هو اليوم الذي ينوي فيه المكلف الدخول في النسك، ولا بد أن يكون هذا اليوم من أيام أشهر الحج، فيحرم من الميقات بعد أن يتهيأ بالاغتسال والتطيب، ونحو ذلك.

 

ويجب على من مر بالميقات أو حازاه أن ينوي الدخول في النسك، سواء أكان من حجاج البر، أم البحر، أو الجو؛ نظرا لكون الإحرام من الميقات واجبا من واجبات الحج، ومن كان دون هذه المواقيت، فهو يحرم من مكانه؛ مثل: أهل بحرة، وبدر، وجدة، والشرائع، ومستورة، ونحوها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "هن لهم ولكل آت عليهن من غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة"(3).

 

والإحرام: هو الدخول في النسك بعقد النية مع التجرد من المخيط، ثم اللهج بالتلبية، ولفظها المشهور: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك لك"(4)، والأفضل: أن يحرم الرجل في الأبيض من الرداء والإزار، ويجوز فيما تيسر من سائر الألوان، أما المرأة فليس لها لباس خاص تحرم به.

 

يوم دخول مكة المكرمة:

ليس هذا اليوم محددا في الإسلام- إلا أن يكون في أشهر الحج-، وإذا كان قبل يوم التروية فهو أفضل، وقد كان وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم إلى مكة في حجة الوداع موافقا للرابع من ذي الحجة، ويجب على الحاج أن يدخل مكة محرما من الميقات التي أتى عليها، ويستحب له أن يغتسل قبل دخولها، وإذا وصل إلى المسجد الحرام طاف سبعا، وجوبا على المتمتع والقارن، وسنة للمفرد لأنه طواف قدوم، ويتطهر من الحدث الأكبر والأصغر قبل الشروع في الطواف.

 

وصفة الطواف: أن يبدأ من الحجر الأسود فيستلمه بيده أو بواسطة ما يمسك في يده ثم يقبل ذلك، وإن لم يستطع أشار بيده فقط، ويقول: (بسم الله، الله أكبر)، ويرمل في الأشواط الثلاثة الأول، ويضطبع- وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر-، ويستحب أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي اْلآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، وينتهي في كل شوط إلى حيث بدأ وهو الحجر الأسود، وإذا فرغ من طوافه صلى خلف المقام ركعتين يقرأ في الأولى سورة الفاتحة وسورة الكافرون، وفي الثانية سورة الفاتحة وسورة الإخلاص(5).

 

ويليه السعي: ويقصد به السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة، ويستحب أن يستقبل الكعبة عند الصعود على الصفا ويشير إليها بيده، ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ويقرأ عند بدْء الشوط الأول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، [البقرة: ١٥٨]، ويسعى سعيا شديدا فيما بين الميلين الأخضرين، وذلك للرجال دون النساء.

 

وإذا انتهى من سعيه حلق شعره أو قصّر على التخيير، وتقص المرأة قرونها من جوانب رأسها قدر أنملة، وبهذا يحل له كل ما حرم عليه بالإحرام إن كان متمتعا، وأما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما- فلا حلق عليهما ولا تقصير- إلى يوم النحر(6).

 

يوم التروية الموافق للثامن من ذي الحجة:

وهو يوم ذهاب الحجاج إلى منى، وإهلالهم بالحج- أي: فيه يحرم المتمتع بالحج- مستأنفين للتلبية مرة أخرى؛ كما قال جابر رضي الله عنه: "فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن معه هدي فليحل"، قال: قلنا: أي الحلّ؟ قال: "الحل كله"، فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج"(7)، والسنة أن يصلوا الظهر بمنى إلا للضرورة، ويقصروا من الصلوات الرباعية فيها ولا يجمعون بينها، ويبيتون في منى حتى يصبحوا في اليوم التالي:

 

اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة..." الحديث(8)، ولذلك يدفع الحجاج إذا أصبحوا في هذا اليوم بعد صلاة الفجر إلى عرفة، ليقفوا بها إلى المغرب، ويشتغلون طيلة مكثهم بها بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، والتوجه إلى الله بالدعاء وطلب المغفرة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير""(9). إذا حان وقت صلاة الظهر خطب الإمام الناس خطبة جامعة يبين فيها شعائر الإسلام وشرائعه، ثم يصلي بهم الظهر والعصر جمعا وقصرا.
وعلى الحاج أن يحرص على كون منزله داخل حدود عرفات المرسومة؛ حتى لا يفوته هذا الركن الجليل من أركان الحج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"(10).

 

ليلة العاشر من ذي الحجة:

بعد أن يقف الحجاج بعرفة إلى غروب الشمس، يتوجهون إلى مزدلفة لينزلوا فيها ويصلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا للعشاء، ويلتقطون منها الجمار؛ لرمي الجمرة في منى، قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}، [البقرة: ١٩٨]. ويبيتون فيها وجوبا إلى صبيحة يوم العاشر من ذي الحجة، ورخص للنساء والعجزة والصغار في عدم المبيت بمزدلفة وينطلقون منها عند منتصف الليل.

 

اليوم العاشر من ذي من ذي الحجة؛ يوم الحج الأكبر:

وهو يوم تيسير على الحجاج ورفع حرج عنهم لكثرة أعماله، فيقدمون منها أو يؤخرون ما شاءوا ولا حرج عليهم في شيء من ذلك، لما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال: "اذبح ولا حرج"، فجاءه آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: "انحر ولا حرج"، فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"(11).

 

وأعمال هذا اليوم على الترتيب هي: رمي جمرة العقبة فقط دون غيرها من الجمرات بسبع حصيات، ونحر الهدي؛ وهو شاة أو سُبع بقرةٍ أو بدنةٍ، وحلقُ شعر رأسه أو تقصيره، وثلاثتها من الواجبات، وطواف الإفاضة؛ وهو ركن، وإذا فعل اثنين من الثلاثة الأولى حل من الإحرام، وحل له كل شيء إلا النساء، وذلك هو التحلل الأول، ومتى طاف حصل التحلل الأكبر ويحل له حتى النساء، ثم يرجع إلى منى للمبيت بها(12).

 

اليوم الحادي عشرة من أول أيام التشريق:

والعمل في هذا اليوم ينحصر في المبيت بمنى ورمي الجمرات بعد الزوال، بحيث يرمي الجمرات الثلاثة في اليومين الأولين من أيام التشريق للمتعجل، وفي اليوم الثالث للمتأخر، قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، [البقرة: ٢٠٣].

 

وقال ابن رشد الحفيد: "والسنة أن يرمي الجمرة الأولى ويقف ثم يدعو، ويرمي الجمرة الثانية ويقف ثم يدعو، ويرمي الجمرة الثالثة ولا يقف ولا يدعو، وأجمعوا على أن وقت الرمي في أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال، واختلفوا فيما إذا رماها قبل الزوال، فقال الجمهور: يعيد رميها بعد الزوال، وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أن رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها..."(13).

وهكذا يفعل- المبيت والرمي- فيما بقي من أيام التشريق، متعجلا كان أو متأخرا.

 

يوم الوداع والاستعداد للرجوع:

و في هذا اليوم يقوم الحاج بطواف الوداع، ودليل مشروعيته قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنَّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"(14)، واختلف في حكمه؛ فقيل: هو واجب، وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل: هو سنة، وهو قول الإمام مالك، وداود الظاهري، وأما الحائض فرخص لها في تركها ولا شيء عليها(15)؛ لما ثبت عن ابن عباس أنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"(16).

 

الخاتمة:

وأخيرا، هذا ما تيسر تقييده من أحكام المناسك، مرتبة حسب مواقيتها الزَّمانية والمكانية، جمعتها من كتب أهل العلم، خاليا من ذكر الخلاف في كثير من المسائل؛ حتى يسهل حفظه والعمل به لدى عامة المسلمين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

______________

(1)    جامع البيان في تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري (2/352)، ط/1415ﻫ/ دار الفكر- بيروت.
(2)    الأيام المعلومات هي: يوم النحر، واليومان بعده، والأيام المعدودات هي: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر. وقيل: الأيام المعلومات هي: العشر الأوائل من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهذا مروي عن ابن عباس. انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (3/364-365)، ط/1/1427ﻫ/ مؤسسة الرسالة.
(3)    أخرجه البخاري ومسلم: صحيح البخاري، ح:(1524)، صحيح مسلم، ح:(1181).
(4)    أخرجه البخاري ومسلم: صحيح البخاري، ح:(1549)، صحيح مسلم، ح:(1184).
(5)    انظر: التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة، (ص:45).
(6)    كما ورد معنى ذلك في حديث جابر الطويل، الذي أخرجه مسلم: صحيح مسلم، ح:(1218).
(7)    أخرجه مسلم: صحيح مسلم، ح:(1218).
(8)    أخرجه مسلم، وأبو داود: صحيح مسلم، ح:(1284)، سنن أبي داود، ح:(1913).
(9)    أخرجه الترمذي: سنن الترمذي، ح:(3585)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح سنن الترمذي (3/184).
(10)    أخرجه الترمذي، وأبو داود: سنن الترمذي، ح:(889)، سنن أبي داود، ح:(1949).
(11)    أخرجه البخاري ومسلم: صحيح البخاري، ح:(83)، صحيح مسلم، ح:(1306).
(12)    انظر: فقه السنة، لسيد سابق: (1/726).
(13)    انظر: بداية المجتهد: (1/282).
(14)    أخرجه البخاري ومسلم: صحيح البخاري، ح:(329)، صحيح مسلم، ح:(1327).
(15)    انظر: نيل الأوطار، للشوكاني: (5/170)، ط/ دار الجيل- بيروت.
(16)    أخرجه البخاري ومسلم: صحيح البخاري، ح:(329)، صحيح مسلم، ح:(1328).