القاعدة الحادية والثلاثون: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
25 ذو الحجه 1430
د.عمر بن عبد الله المقبل

للاستماع لمحتوى المادة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مرفأ جديد مع قاعدة قرآنية، وإيمانية، وثيقة الصلة بواقع الناس الاجتماعي، بل وبأخص تلك العلاقات الاجتماعية، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء: 19].

 

وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت ضمن سياق توجيه رباني عظيم، يقول الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

ومما يعين على فهم هذه القاعدة، أن نُذَكِّرَ بسبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ب قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك(1).

 

يقول العلامة ابن العربي المالكي رحمه الله:
"وحقيقة "عشر" في اللغة العربية الكمال والتمام، ومنه: العشيرة، فإنه بذلك كمل أمرهم، وصح استبدادهم عن غيرهم، وعشرةٌ تمام العقد في العدد، فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أَدَمَةُ ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأقر للعين، وأهنأ للعيش، وهذا واجب على الزوج، ومن سقوط العشرة تنشأ المخالعة، وبها يقع الشقاق، فيصير الزوج في شق، وهو سبب الخلع"(2).

 

ويقول العلامة الجصاص الحنفي: معلقاً على هذه القاعدة {وعاشروهن بالمعروف}:
هو "أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف: أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقَسْمِ، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراضِ عنها والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب"(3) اهـ.

 

إن من تأمل وتدبر دلالات هذه القاعدة العظيمة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أدرك أن هذا القرآن هو حقاً كلام الله عز وجل، وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن هذه القاعدة رقم قصر كلماتها ـ وهي كما ترى ـ كلمتان، اشتملت على معانٍ عظيمة، يطول شرحها، وما حديثنا عنها في هذه الحلقة إلا إضاءة وإشارة فحسب.

 

الوجه الثاني: أن الله تعالى ردّ أمر المعاشرة إلى العرف، ولم يحدده بشيء معين؛ لاختلاف الأعراف والعادات بين البلدان كما هو معروف وظاهر، ولاختلاف مكانة الأزواج من الناحية المالية والاجتماعية، إلى غير ذلك من صور التفاوت التي هي من سنن الله في خلقه.

 

وليست هذه هي القضية الوحيدة التي يَرُدُّ الشرعُ فيها أمور التعامل إلى العرف، بل جاء ذلك في مواضع كثيرة، من ألصقها بما نحن بصدد الحديث عنه، قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فكما أن القاعدة التي نحن بصددها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} تأمر الأزواج بمعاشرة أزواجهم بالمعروف، فإن هذه الآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] تأمر كلا الطرفين بذلك.
ويقول سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
ويقول جل شأنه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231].

 

وفي شأن النفقة على المرضع والمرتضع يقول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة: 233] إذ ليست نفقة الغني كنفقة الفقير، ولا نفقة الموسر كالمعسر.

 

أيها القراء الكرام:

ولعظيم موقع هذه المعاني التي دلت عليها هذه القاعدة القرآنية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أكّد النبي ج هذه الحقوق في أعظم مجمع عرفته الدنيا في ذلك الوقت.. حين خطب الناس في يوم عرفة فقال: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(4).

 

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، والمقصود التنبيه على عظيم موقع هذه القاعدة الشرعية، والتي يتألم المؤمن من كثرة ما يرى من هتك لحرمتها، وعدم مراعاة لحدودها! فترى بعض الرجال لا يحسن إلا حفظ وترديد الآيات والحقوق التي تخصه، ولا يتحدث عن النصوص التي تؤكد حقوق زوجته، فويل للمطففين.

 

وفي المقابل فإن على الزوجة أن تتقي الله عز وجل في زوجها، وأن تقوم بحقوقه قدر الطاقة، وأن لا يحملها تقصير زوجها في حقها على مقابلة ذلك بالتقصير في حقه، وعليها أن تصبر وتحتسب.

 

وليتدبر كلٌ من الزوجين ما قصّه الله تعالى في سورة الطلاق من أحكام وتوجيهات عظيمة، فإن الله تعالى ـ لما ذكر أحكاماً متنوعة في تلك السورة ـ عقّبَ على كل حكم بذكر فوائد التقوى التي هي سبب كل خير، فقال ـ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، وقال تقدس اسمه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق: 5]؛ ولعل السر في تتابع هذه التعقيبات: أن أحوال الطلاق والفراق ـ مع وجود الحمل والإرضاع أو بقاء العدة ـ قد تحمل أحد الطرفين على التقصير والبغي، ونحو ذلك من التجاوزات، فجاءت هذه التعقيبات الإلهية لتبشر المتقين، ولتحذير المجانفين للتقوى، بأن أضداد هذه الوعود الإلهية ستحصل إن أنتم فرطتم في تطبيق شرع الله، ويوضح هذا المعنى ختم السورة بهذه الآية المخوفة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا... الآيات}[الطلاق: 8 - 10].

 

ولقد كان سلف هذه الأئمة يفقهون حقاً معاني هذه النصوص العظيمة، ومن ذلك هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وعاشروهن بالمعروف}، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، يقول ـ كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ـ "إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} وما أحب أن أستنطف ـ أي: أستوفي ـ جميع حقي عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وللرجال عليهن درجة}(5).

 

وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ـ وهو نوع نفيس من الطيب ـ فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مناما نشتهيه منهن(6).

 

وبعد.. معشر القراء الفضلاء:

هذه هي نظرة الإسلام العميقة للعلاقة الزوجية، اختصرتها هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وعاشروهن بالمعروف}، وكذلك: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} فهي علاقة قائمة على المعاشرة بالمعروف، وعلى الصبر على ما قد يبدر من الطرفين من تقصير، فإن كانت العلاقة غير قابلة للاستمرار فيأتي الأمر بالتسريح بالمعروف ـ أيضاً ـ الذي يحفظ حق الكرامة لكلا الطرفين؛ كلُّ هذا ـ أيها المستمعون ـ يجعل المؤمن يفخر ويحمد الله على هدايته وانتمائه لهذه الشريعة العظيمة الكاملة من كل وجه، وينظر بعين المقت لتلك الأقلام الدنسة، والدعوات الخبيثة التي تجرئ المرأة ـ إذا رأت من زوجها ما تكره ـ أو توحي للرجل ـ إذا رأى من زوجته ما يكره ـ أن ينحرف قلبه قليلاً عن مساره الشرعي ليقيم علاقةً محرمةً مع هذه أو ذاك!!

اللهم كما هديتنا لهذه الشريعة فارزقنا العمل بها، والثبات عليها حتى نلقاك، والحمد لله رب العالمين.

 

________________

(1)    البخاري (4303).
(2)    أحكام القرآن 2/363 بتصرف يسير.
(3)    أحكام القرآن للجصاص 3/47.
(4)    مسلم (1218).
(5)    مصنف ابن أبي شيبة 10/210 رقم (19608).
(6)    ذكرها القرطبي في تفسيره 6/160.