8 ربيع الثاني 1431

السؤال

السلام عليكم
أبعث إليكم بمشكلتي وأرجو أن أجد من يعينني على حلها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.. أنا في حيرة من أمري كل دقيقة أسأل نفسي بحرقة هل أنا كاذبة؟! هل أنا منافقة؟! والسبب: لدي مشكلة كبرى بداخلي فأنا شخصية قوية ورقيقة!
أستطيع أصرح وأتفاهم وأنطلق لكن كثيراً أشعر بحرج وحياء وعدم قدرة على المواجهة فأنطوي وأسكت، وقد أختصر الأمور وأحيانا من شدة خوفي من الشخصيات التي تكبرني تتلعثم نفسي فلا أنطق.. لذلك أعيش مشكلات في العمل ومع الصديقات!
والآن الذي جعل الأمر يتدهور ولا أظن بأني سأتحدث مرة أخرى هو وصف صديقتي لي أني كاذبة وجهاً لوجه ولحظتها لم أجد أي حرف يسعفني لأشرح أمري أو أدافع عن نفسي علماً بأني لا أحب الدفاع عن نفسي ودائماً أثق بأن ربي سيتولاني فأرتاح كذلك لم أغضب منها لأني أعتبرها صديقة عزيزة لا أريد خسارتها فأحاول أتجاهل ما قالته إذا شعرت بحرقة..
سؤالي: ماذا أفعل لحل مشكلتي لا أريد أن أظهر أو أكون كذابة أو أي صفة لا تليق بالمؤمن علماً بأن تخصصي ومجال وظيفتي شرعي..
أفيدوني جزاكم الله خيراً.

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

أختي السائلة الكريمة:
أشكرك على صراحتك في عرض مشكلتك، وهذه في حد ذاتها جرأة إيجابية، وأسلوب ناجح في البحث عن العلاج.
بداية: أنت تشعرين بحيرة، ناتجة عن عجزك في الإجابة عن أسئلتك التي تراود نفسك، ونصيحتي لك لتتخلصي من هذه الحيرة، حاولي أن تتواصلي مع نفسك بطريقة إيجابية، فاطرحي على نفسك السؤال وحاولي في نفس الوقت أن تصلي لجوابه، تعلمي كيف تستخدمي قدراتك العقلية، أثناء الطرح والتحليل والاستنتاج، حاربي ما ينتابك من هواجس وشكوك ومخاوف، تفقدك ثقتك بنفسك.
أنت إنسانة قوية، تملكين أن تقاومي ضعفك بنفسك، لأنك تتمتعين بصفات نادرا ما تجتمع في شخص واحد وهي، القوة والرقة والخجل، والتسامح، والعلم الشرعي..
وهذه نِعم أنعم الله بها عليك، لو أحسنت استخدامها، ستهبك صلابة ومتانة وقدرة على تحصين نفسك مم يهددها من أخطار الهزيمة والضعف والانكسار
تأكدي أنك تقدرين على معرفة نفسك واكتشاف أسرارها، وما يؤرقها ويتعبها، عندما تسألي نفسك هل أنت كاذبة؟ هل أنت منافقة؟.. ينبغي أن تعرفي أحقا أنت كذلك أم لا، من خلال مواقف حياتك وتجاربك، في علاقاتك بالناس، في أقوالك وأفعالك..
لن تعجزي عن الإجابة الصحيحة، لأن كل فرد منا يستطيع أن يميز بفطرته السليمة بين الحق وبين الباطل، بين الخير وبين الشر، بين الحلال وبين الحرام.. وأنت كذلك تملكين هذه الفطرة، وستصلي بها إلى الإجابة الصحيحة على كل أسئلتك من غير أن تحتاري أو حتى تستعيني في ذلك بشخص آخر.
ثانيا: مشكلتك لخصتها في جملة وهي: أنك شخصية قوية ورقيقة، وهذه ليست بمشكلة ولكنك اعملي على خلق انسجام واعتدال وتكامل بين صفتا القوة والرقة بداخلك، فلا تجعلي قوتك تفقدك رقتك، ولا رقتك تضعف قوتك.
ثالثا: أنت كما ذكرت عن نفسك: إنسانة صريحة، ومتفهمة ومنطلقة.. ولكنك كثيرا ما تشعرين بالحرج والحياء وعدم القدرة على المواجهة، وبالانطواء والصمت والتلعثم من شدة خوفك، عند مواجهتك لشخصيات تكبرك.. وهذا يسبب لك مشكلات في العمل ومع صديقاتك
كل هذه الأحاسيس التي تشعرين بها، وهذه الأعراض التي ذكرتها، هي مخالفة تماما للشخصية القوية، لأنها أحاسيس سلبية، غالبا ما تؤثر على مسار حياة الإنسان بأكمله.
فلكي تكوني إنسانة ناجحة في حياتك، وفي عملك، وفي دراستك، وفي علاقاتك الاجتماعية والأسرية عليك أن تتخلصي من هذه الأعراض، وإن علاج مشكلتك يكمن في مواجهتك لخوفك ولكل الأحاسيس التي من شأنها أن تضعفك، وتغلبي عليها بسلاح القوة الإيمانية التي بداخلك، أخرجي هذه الطاقة، واجعليها تنطلق لتمارس وظيفتها الصحيحة، لا تنصتي للصوت الضعيف الذي يتردد بداخلك، لا تتنازلي له عن حقك في التعبير عن نفسك وعن فكرتك وعن أسلوبك في الحياة، أنصتي فقط للصوت الصارخ بالحقيقة، واجعلي من حولك ينصتون لهذا الصوت، فأنت لست خرساء، ولا من حولك آذانهم صماء، فأبلغي من حولك صوتك، وبلغيهم مدى ما يحمله من قوة الحق، وقوة الإيمان.
قد تكون نشأتك وطفولتك أثرت فيك، وتركت مخلفات أضرت بشخصيتك، ولكن عليك أن تتحرري من الأوراق والذكريات التي تحرمك من الحياة الطيبة، حاولي أن تعيشي حاضرك بجرأة وقوة وإقدام، وتخططي لمستقبلك بأمل وتفاؤل، تواصلي مع الناس على اختلاف لغاتهم وطبقاتهم ومناصبهم، بنفس الإحساس وهو الشعور بالأمان والراحة والقوة والثقة بالنفس.. كلهم أمامك سواء صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، عظيمهم وضغيفهم إلا في أسلوب خطابك، وطريقة حديثك، لأن الناس هم شعوب وقبائل ليسوا سواء في الفهم، ثقافتهم ولغاتهم وأفكارهم متباينة، عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وأخلاقهم وانتماءاتهم شتى
ففي صحيح البخاري عن علي موقوفا: ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله))، ونحوه ما في مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ((ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))، وروى الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن أبي ذر مرفوعا: ((خالقوا الناس بأخلاقهم))
فتعاملي مع الناس على هذا الأساس، كذلك وسعي الدائرة التي أنت فيها، والمساحة التي تتحركي داخلها، وتعودي أن تتواصلي مع الناس في أحوال وأماكن مختلفة، سواء في البيت أو الشارع أو السوق أو المؤسسة أو الوظيفة، وفي المحافل والمجالس والمحاضرات والندوات العلمية، وفي الأماكن العامة
كذلك استخدمي مهارات وتمارين ذهنية في أوقات استرخائك، تخيلي الأشياء والمواقف والأشخاص الذين تشعرين اتجاههم بالخجل والتردد أو بالخوف من مواجهتهم، جربي أن تواجهي هؤلاء، وتعبري لهم، وتتحدثي عن الأشياء التي تعجزي أن تعبري عنها أمامهم جربي أولا شعور الانتصار والتخلص من خوفك، شعور المواجهة بداخلك، كرري ذلك مرات عديدة، بعدها اعملي على أن تخرجي ذلك الفيلم والمسلسل من مخيلتك إخراجا فنيا على أرض الواقع أفضل وأجمل مم هو عليه في مخيلتك
تذكري وأنت أمام كل إنسان ولو كان أعظم أو اكبر منك، أن هناك من هو أعظم وأكبر من كل اهؤلاء لأنام وهو الله سبحانه، وهو وحده من عليك أن تخجلي أمامه، وتخافي أن تخطئي أو تتصرفي بشكل لا يرضيه عنك، حينها لن تترددي أن تعبري عن رأيك بصراحة، ولا عن فكرتك بجرأة، ولكنك احرصي على أن يكون أسلوبك في الخطاب، يجمع بين حسن الكلام ولطفه، وبين حكمة عقلك ومنطق دليلك، وليكن مناسباً لمقتضى حال المخاطبين.
استخدمي هذا اللسان الذي وهبك الله وأنعم الله به عليك، ولا تعطلي وظيفته السامية، في موافقة الحق، وموافقة الصواب، ووضع كل كلمة تصدر عنه في موضعها، وإيقاعها في موقعها الصحيح، تأكدي على أن القول السديد، والكلام الرقيق الرفيق، اللين الطيب، هو وسيلتك للفلاح والنجاح والفوز في الدنيا والآخرة، وهو الذي سيجذب إليك القلوب وينيرها، واستلهمي الحكمة من قوله تعالي: {‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏
رابعا: ذكرت على أن حالتك النفسية تدهورت بسبب أن صديقتك اتهمتك بالكذب، وأنك عجزت أن تدافعي أمامها عن نفسك
أختي الكريمة في الحياة نبتلى بمحن كثيرة، فقد يجرحك شخص ما سواء كان قريبا أو غريبا، ستصادفي من يتهمك أو يظلمك أو يصفك بخلاف الحقيقة، كل إنسان معرض لهذا ولكن المؤمن قوي لا يقبل أن يهان أو يمتهن أو يتهم أو يذل أو يظلم..
فسؤالي لك ما الذي يدفعك أن تسكتي وتقبلي هذه التهم الموجهة لك؟
هل تخافين من المواحهة؟ أم أنك تفقدين أسلوب الإقناع؟ أم لا تمتلكين الأدلة التي تثبتين بها خلاف ما وصفتك به؟.. ثم لماذا هي أصلا أو غيرها يتهمك بالكذب أو بالنفاق أو بأي صفة لا تليق بك؟
إذا كنت حقا صادقة، وبريئة من تلك التهم الموجهة إليك، ملتزمة بأخلاق المرأة المسلمة، فعليك أن تواجهي أي إنسان يتهمك، وتدافعي عن نفسك، وتشرحي موقفك بأسلوب مقنع وبأدلة تثبت الحقيقة، واجلسي مع صديقتك، حاولي أن تعرفي منها أسبابها التي دعتها لاتهامك بالكذب، وضحي لها الأمور، وأكدي لها مدى صدقك في قولك وفعلك
لو فشلت في تبرئة نفسك أمامها، بعد أن استخدمت كل وسائلك الممكنة، هنا يمكنك أن تستعيني بصديقة أو أخت لك تثقي بسداد رأيها وبحكمتها، وحسن تدبيرها للأمور، حتى تتدخل بينكما بالصلح إن كانت هناك خصومة أو مقاطعة، أو بتصحيح وجهة نظر صديقتك
تسلحي كذلك بالدعاء، وتقربي إلى الله في مواطن الاستجابة، ابذلي وسعك في السعي لتنالي طاعته ورضاه ومحبته، فهو وحده القادر أن يحبب خلقه فيك، وان ينصرك ويبرئك ولو بعد حين.
كذلك هناك مسألة مهمة أريد ان أنبهك لها، عندما يتكرر اتهام الناس لك بصفات لا تليق بك، هذا يستدعي أن تقفي وقفة مع نفسك وتتساءلي لماذا، وتعرفي الأسباب، أكيد هناك تصرفات أو أقوال تصدر عنك، تدفع الآخر إلى ان يشك بك ويسيء الظن فيك، أنت لا تنتبهي لها، لأن الناس يحكمون على ظاهر قولك وفعلك فقط، ولا يعلمون بحسن نيتك ولا بمدى إخلاصك وصدقك، لهذا احرصي على أن تراعي أن الناس حولك لا يفكرون بنفس منطق تفكيرك ولا بنفس أسلوب حياتك التي اخترتها، فالأصل أن تقدمي نفسك للناس بصورة يتقبلونها ويطمئنوا لها، افرضي وجودك وشخصيتك على من حولك، بأخلاقك وقيمك، واجعلي لها آثار ظاهرة لهم حتى يقتنعوا بصدقك وصلاحك.
أنت ذكرت على أن تخصصك ومجال وظيفتك شرعي، وهذه نعمة أخرى أنعم الله بها عليك فاستخدميها أولا في تصحيح الأخطاء والهفوات ومواطن الضعف في شخصيتك، إنه نور الله لا يُهدى إلا لمن تمسك به وانتفع به، فكوني أول من ينتفع بهذا العلم الشرعي ومن خلال المنصب والوظيفة التي أنت فيها، حينها ستملكين أن تنشري هذا النور وتشيعينه حولك في بيتك ووسط أهلك وجيرانك ووسط مجتمعك بأكمله
أتمنى من الله العلي القدير أن يقويك وينصرك ويرزقك السداد والرشاد في القول والعمل، ويهديك ويُهتدى بك.