عملية هلمند: نموذج متكرر للفشل
3 ربيع الأول 1431
طلعت رميح

تبدو العملية العدوانية الجديدة للقوات الأمريكية والأطلسية في ولاية هلمنذ الأفغانية ،واحدة من أهم العمليات العسكرية التي سيتحدد على أساسها مصير خطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الجديدة في أفغانستان. هي العملية الأولى التي تجرى إنفاذا لتلك الخطة ،بمشاركة القوات الجديدة التي جرى الدفع بها في المعركة، حتى يمكن القول إنها الاختبار الأول والأهم لتلك القوات لا الخطة فقط.
لقد تميزت العملية بأنها تجمع بين العمل العسكرى والسياسى والإعلامي لتحقيق خطة واضحه جديدة أو مختلفة، وبرزت فيها فكرة الاتصال والتواصل مع سكان المنطقة التي تجرى فيها العملية على نحو مكثف، وهم من الأشد ارتباطا وتعاطفا وولاء لطالبان.

 

وقد تبدى الجديد أيضا، في أنها أول العمليات التي تشارك فيها "القوات الأفغانية " بشكل علني وبالحديث عن دور لها، وبحرص على أن يكون لها صوت إعلامي فى تحديد خطط سير المعارك. لقد حملت القوات الأمريكية والأطلسية مجموعة من القوات الأفغانية وجرى إظهارها بمظهر القوة المقاتلة، كما جرى منحها دور فى الاتصال والتواصل مع السكان.

كما تبدى الجديد في تلك العملية في نغمة التصريحات التي أدلى بها حامد كرازاى، إذ جرت صياغة تصريحات نشرت على لسانه تظهر بها الدوائر الاعلامية للناتو أنه هو من يقود المعركة، حين أذيع أنه طالب قوات الناتو بالحرص على عدم سقوط ضحايا من المدنيين، وحين طالب قوات طالبان بالقاء السلاح (!) وهى التي تحاصره في داخل مقره فى العاصمة كابول بالعمليات التي وصلت بعضها إليه وهو يلقى خطاباته.

هى إذن عملية تحوى ملامح جديدة، ترتبط وتنطلق من خطة أوباما الجديدة وما حملته من تغييرات في خطة الوجود الأمريكي والأطلسي، والتي جرى إقرارها بعد طول حوار وتردد وسط خلافات حادة فى دوائر صنع القرار فى داخل الولايات المتحدة. لكن العبرة بالنتائج كما يقال. فهل ثمة نتائج جديدة مجتملة لتلك الخطة انطلاقا مما يظهر فى تلك العملية؟.

 

القديم والجديد
منذ فترة كانت ملامح الهزيمة قد خيمت على أجواء الأوضاع الأمريكية والأطلسية والأفغانية بشأن خطة احتلال أفغانستان. كانت حالة اضطراب واضحة المظاهر، بما دفع الباحثين والمعلقين والخبراء للحديث عن ضرورة سحب القوات، بعد أن صورت تصريحات القادة الميدانيين لها في أفغانستان أحوال وأهوال المأساة التي تعيشها قواتهم وأن الموت يتخطفهم، بعد تصاعد وتيرة عمليات طالبان والخسائر المتواترة. وفى ظل تلك الأجواء جرت هجمات لطالبان فى وسط العاصمة كابول وفى مقار قوات الاحتلال وضد القواعد الثابتة الاكثر استقرارا بما زاد من حالة الهلع، التي أدت إلى بعض الانسحابات من قواعد كانت تتصور قوات الاحتلال أنها باقية فيها للأبد. وكان أن جرت لعبة الانتخابات الأفغانية، فلم ينتج عنها إلا زيادة الاضطراب والتناحر بين الجماعات الموالية للاحتلال، في تزاحمهم على غنائم الفترة الأخيرة أو بسبب تضارب التدخلات الغربية ذاتها، إذ تسربلت المجموعات الموالية للاحتلال إلى جماعات كل منها يمثل أحد الدول المحتلة وتصارعت مع بعضها البعض، حتى وصل الأمر إلى تبادل الاتهامات بين قوات الأطلسي بدفع أموال لمقاتلين محليين أفغان لترك القواعد والجنود بلا قتال، حتى ينهوا فترة وجودهم فى بعض المواقع (النموذج الايطالى).

هنا دارت عجلة الحوار حول الخروج من المأزق الأفغاني، وجرت أحاديث صراعية بين دول الأطلسي وبعضها البعض من جهة علنا فى الإعلام وسرا فى داخل أروقة حلف الأطلسي من جهة وفى داخل الولايات المتحدة سواء داخل الإدارة أو فى الكونجرس بمجلسيه وبين الخبراء من جهة أخرى .ماذا نفعل؟

 

كان اتجاه العسكر محصورا فى فكرة واحدة واضحة وهى أنه طالما استمر الاحتلال وفقا لرأي وقرار السادة السياسيين، فنحن نريد أكبر عدد من القوات (40 ألفا) حتى نحقق السيطرة ونقلل أعداد قتلانا، حيث لا يمكن الاستمرار على هذا النحو الذى يدفعنا إلى الهزيمة النهائية.

وكان الساسة والإستراتيجيون فى داخل وخارج دوائر السلطة الحالية، يرون أن الوضع قد تخطى إمكانية الحسم العسكرى أو باستخدام القوة الصلبة، وأن نتيجة الفعل العسكرى أيا كان حجم القوة المشاركة فيه، هو الهزيمة النهائية وأن إمكانية تحقيق النصر والبقاء في أفغانستان قد انتهت إلى هزيمة إستراتيجية، وأن الحل هو في التخطيط للانسحاب، ليكون هو الهدف الذى تنتظم فيه كل الوسائل بما فيها القوة العسكرية وإن تطلب الأمر إرسال قوات إضافية فإن الهدف الاستراتيجى هو تحقيق انسحاب وبأقل الخسائر.

وكانت الاوضاع تنتقل بقوة الاحتلال ومشروع الاحتلال من السيئ إلى الأسوأ، بما لا يمنح وقتا طويلا للتقييم وإعادة التخطيط، سواء لتعاظم ضغط طالبان أو لحالة الاضطراب التي عليها القوات أو لحالة حلفاء الاحتلال .

 

وفى النهاية تقرر تغيير الاتجاه، والتحول من إستراتيجية تحقيق النصر إلى إستراتيجية تحقيق الانسحاب، ومن إستراتيجية الحسم العسكري إلى إستراتيجية المزج بين الضغط العسكري والتفاوض ومن إستراتيجية التركيز على أفغانستان إلى إستراتيجية التركيز على باكستان ومن التركيز الإعلامي على طالبان إلى إعادة التركيز في مبررات الحرب على القاعدة ..الخ .
والآن تجرى العملية الجديدة في هلمند، وفقا لتلك الخطة الجديدة وهو ما ميزها عن غيرها. تستهدف العملية الحصول على نصر بلا قتال، وإشكال بداية تقديم ما يجرى في أفغانستان على أنه حرب بين الجيش الأفغاني وحركة طالبان، وتحويل كرازاى وسلطته إلى قوة قادرة على الصمود خلال المرحلة الانتقالية الحالية التي تنتقل فيها الإستراتيجية إلى الانسحاب وستتسارع خطواتها في المرحلة المقبلة – ولذلك يبدو النصر المزيف مطلبا مهما للغاية - كما تستهدف العملية فتح أبواب التفاوض من خلال تحقيق شرط بعض المجموعات (مثلما هو حال حقانى) التي تطالب بأن يكون التفاوض مع كرازاى لا مع قوات الاحتلال، وكذا نحن نلحظ أن العملية تستهدف تحسين صورة المحتل، بالإعلان عن مشروعات وتطوير للمناطق التي تدخلها قوات الاحتلال ..الخ.

 

المعركة الإعلامية
في الأعمال القتالية، لا يبدو أننا أمام شىء ذي جدوى على الصعيد العسكري، إذ مثل تلك العمليات لا هى تحسم حروبا من هذا النوع ولا هي تغير توازنات، حيث هذه الحروب لا تجري حول مواقع لجيشين نظامين أحدهما يحتل مواقع مدافعا والآخر يأتي مهاجما، فاذا سيطر المهاجم تحسم المعركة لمصلحته وإذا تمكن المدافع من صد المهاجم يكون قد انتصر ..الخ.

 

ومع ذلك يبدو للمتابع، أن القوات الأمريكية والأطلسية تصور المعركة في الإعلام على أنها حرب بين تلك القوات وقوات حركة طالبان، إذ يجرى الحديث عن هجوم ضد "معاقل" طالبان – وكأن المعاقل تلك مناطق عسكرية محمية بقوات تدافع عنها – كما تطلق تصريحات يومية عن سير العمليات من احتلال تلك البلدة أو تلك وكأنها فى حرب مع جيش آخر يحتل تلك القرى ويدافع عنها دفاع الحرب النظامية، أو كأن لطالبان موقع حربية دفاعية تقوم القوات المهاجمة بتطويقها واختراق الدفاعات فيها وتدحر القوات المدافعة عنها.

وما يلفت النظر كذلك، هو أن قيادة القوات الأمريكية والأطلسية، لم تهاجم تلك المنطقة فجأة، بل هي صارت تعلن عن عمليتها هذه قبل أن تشرع فيها بأسابيع، في تغيير عن ما كان معمولا به من قبل، إذ كانت تحرص تلك القوات على أن تباغت المدن والبلدات دون سابق إنذار مستغلة وقع المفاجأة.

 

وفى تحليل تلك التغييرات، يمكن القول بأننا أمام محاولة إعلامية للحصول على نصر مطلوب لإعادة الثقة في أوضاع وحالة القوات المهاجمة، وبما يحقق تأثيرا على الجمهور الأمريكي من جهة والأفغاني من جهة أخرى، وعلى عناصر طالبان والمتعاطفين معها، بإعطاء أبعاد دعائية للعملية الجارية.

ويمكن القول بأن الإعلان المسبق عن العملية قد استهدف منح رجال طالبان الفرصة بأن يرتبوا أوضاعهم بتوزيع قواتهم والخروج من المنطقة، فلا يحدث قتال عنيف بوقع المفاجأة (يفضل المقاوم عدم الاشتباك مع عدو جاهز للقتال لاختلاف قدرات الأسلحة ولعدم العمل وفق امكانيات الجيش المنظم)، كما استهدف هذا الإعلان المسبق تفريغ المنطقة من سكانها، سواء كان المطلوب تقليل أعداد الضحايا الأفغان لتأثير سقوط الضحايا على إفشال الخطة (ليس حرصا على أرواح الضحايا) حيث لا يمكن إقامة تقارب مع سكان قتل ذويهم، أو كان المطلوب تفريغ المنطقة من سكانها خلال مرحلة الاقتحام القلق، بما يطلق يد الجنود الخائفين فى إطلاق الرصاص.

 

نموذج للفشل
رغم كل تلك التغييرات في الخطة الأمريكية والأطلسية، فإننا أمام عملية نموذجية للفشل. يبدو الأمر واضحا إذا أعدنا التذكير بأن طالبان - وكل حركات المقاومة والتحرير- لا تقاتل جيشا مهاجما بل هى تهاجم جيش الاحتلال في تلك الأوضاع التي لا تسمح له بالاشتباك أصلا، كما يبدو التذكير ضروريا "بأصل الحكاية" حين هاجمت الولايات المتحدة أفغانستان وقامت باحتلال كل المدن، ومن بعد ظهر أن لا شىء حدث سوى وقوع الجيش الأمريكي فى المصيدة، وأن حكاية السياسة والاقتراب من الشعب الأفغاني هو عملية لم تبدأ الآن وإنما هى بدأت مع الطلقات الأولى ولم تتوقف من ساعتها وحتى الآن.

المأزق هو هو لا يزال كما هو، وهو المأزق ذاته الذي عاشته وستظل تعيشه كل قوة احتلال فى معركة مع قوة مقاومة. ثمة حقائق لا تتغير بتغير الخطط. تظل القوات الأمريكية والأطلسية قوات احتلال، وتظل قوات نظامية تواجه قوة حركة مقاومة شعبية، تلك معطيات لا تستطيع القوات المحتلة تغييرها.

 

ولذلك ليس هناك إلا الفشل، بل هو فشل نموذجي، إذ المعركة لا تبدأ إلا حين تنتهي القوة المهاجمة من احتلال الأرض والانتشار. حينها تبدأ معركة المقاومة معها، والفشل هنا هو أن الخطة الأمريكية الجديدة جاءت بعدد وافر من الجنود تسهل على المقاومين الحصول على الصيد دون معاناة، كما الانتشار وسط مناطق مأهولة هو وصفة للموت لكل أجنبي وليس العكس. ألم يحتلوا كابول من قبل ويحرسوها أكثر من حراسة واشنطن؟!