اغتيال المبحوح: الخطة المضادة
10 ربيع الأول 1431
طلعت رميح

اغتيال القائد الفلسطيني محمود المبحوح، يفتح مجددا ملف الاغتيالات الغائر في جسد تاريخ الشعب الفلسطيني الذى قدم مئات القادة الكبار وربما آلاف الشهداء بسيف الاغتيال، ويضيف روحا ودماء وأوراقا جديدة في وضعية الصراع على الأرض الفلسطينية، لكنه يأتي هذه المرة بجديد مهم ليفتح أوراق الخطة الفلسطينية المضادة لهذا الفعل العدواني المتواصل منذ بداية الغزوة الصهيونية الغربية لهذه البقعة الغالية، إذ ثمة ملامح ومؤشرات على إمكانية تحويل فعل الاغتيال إلى خسارة كبرى للمتعدى القاتل، بما يضرب في الصميم واحدة من أهم خطط الاحتلال، ذلك أن "الاستعمار" الاستيطانى الصهيونى هو "الاستعمار" الأول - من بين "المستعمرين" - الذي جعل أعمال الاغتيال جانبا أساسيا من خطط الفعل الحربى للجيش الصهيونى لا أحد وسائل عمل جهاز المخابرات.

وواقع الحال أن "المستعمر" المحتل قد استهدف في كل عصر وأوان قتل الكوادر الأساسية في حركات المقاومة، إذ هو يدرك أن أخطر ما لدى حركات المقاومة من أسلحة هو قدرتها على تربية الكوادر العليا القادرة على قيادة الحركة المقاومة سياسيا وعسكريا. "المستعمر" يعرف أن ما يواجهه في محاولته تطويع وكسر إرادة الشعوب وتطويعها هو تلك الكوادر ذات القدرة الفكرية والذهنية وذات السمعة والخبرات، ذلك إن المقاومة هى فعل واع لا فعل عفوي، يتطور ويتعمق بتطور أعداد وقدرات القيادات الأساسية في تنظيمات المقاومة، حتى يمكن القول إن الصراع في نهاية المطاف ليس إلا صراعا على إنهاء قدرة الشعب المقاوم على بناء النخب والكوادر ذات القدرة والخبرة في المواجهة خلال مشوار التحرير.

والفارق بين الاحتلال والغزو الصهيونى وأشكال "الاستعمار" الأخرى في دول العالم المختلفة، هو أن قتل الكوادر المقاومة يحتل مساحة أكبر ضمن فعاليات النمط الصهيوني، على اعتبار أنه نمط من الاحتلال يقوم على الاستيطان وإبادة الشعب الآخر وإخراج من يبقى من أرضه لا احتلال الأرض وحكم ذات الشعب صاحب الأرض. هي حرب ابادة لا حالة استعمار للأرض واستنزاف الموارد، وما ينطبق على الشعب الفلسطيني (الإبادة المبرمجة) يتحول إلى ذروة أهداف الحرب بالنسبة للكوادر المقاومة، إذ تلك الكوادر هى عقل الشعب الفلسطيني وصفوة قدرته على المواجهة فضلا عن أنها أداة صمود الشعب الفلسطيني على أرضه أو بالدقة هى أداة تنظيمه في حرب البقاء.
وبفعل تلك الحالة الخاصة، لم تعد أعمال الاغتيال حالة ووظيفة من حالات فعل ووظائف جهاز المخابرات، فقط، بل هي أصبحت الأساس في مفاهيم ونمط تأسيس أجهزة الدولة الصهيونية، كما هي أصبحت جانبا أساسيا من جوانب الخطط الاستراتيجية للجيش الصهيوني، بما وسع من أعمال الاغتيال للكوادر الفلسطينية وجعلها تجرى عبر كل تاريخ الصراع. المتابع لمجريات الحرب الصهيونية على الشعب الفلسطيني يجد الاغتيال ضمن مهام الجيش الصهيوني، ولذلك كنا وما زلنا نتابع قيام الطيران الحربي بأعمال الاغتيال، بما في ذلك الطائرات الثابتة الجناح المخصصة لقصف الأماكن الحصينة لقوات عسكرية عدوة، كما نجد طيرانا متخصصا في أعمال الاغتيال كما هو حال الطيران المتحكم فيه عن بعد (الطائرات بدون طيار)، لتنفرد القوات العسكرية الصهيونية من بين كل القوات المسلحة "الاستعمارية" بأنها قوات تخطط وتنفذ أعمال الاغتيال على أوسع نطاق، بل يمكن القول بأن كل النشاط الخططي والعملي الصهيوني في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، قد اعتمد على فكرة الاغتيال للأفراد والكوادر، بما في ذلك الأطفال والنساء. وهو ما يأتي امتدادا لخطة صهيونية معتمدة منذ بداية المشروع الصهيوني، سقط خلالها قادة سياسيون وعسكريون وأدباء، حتى يمكن القول، بأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الأكثر تقديما للشهداء بسبب أعمال الاغتيال من بين كل الشعوب المحتلة عبر تاريخ وظاهرة "الاستعمار" القديم والحديث.

اغتيال وملف جديد
في جريمة اغتيال القائد الفلسطيني محمود المبحوح، تبدو السلطات الصهيونية مواصلة عودتها لأعمال الاغتيال خارج حدود المنطقة "المستعمرة"، فإذا كانت قد توقفت عن ممارسة هذا الفعل –مركزة جهدها على الاغتيال داخل الأرض المحتلة خلال الانتفاضة – خلال فترة ما بعد توقيع اوسلو، فإن المتابع يلحظ أنها قد عادت إلى هذا الفعل بتوسع في الآونة الأخيرة، وأنها تركز جهودها على كوادر المقاومة الإسلامية وبخاصة حركة حماس. كما يلاحظ المتابع أن مجموعات الاغتيال في جهاز الموساد الصهيوني قد أطلقت، ليشمل نشاطها أعمال ذات طابع "دولي الطابع" دون الحذر الذى كان يسود من قبل.

لقد جرت محاولة اغتيال القائد الفلسطيني خالد مشعل على الأراضي الأردنية، كما جرت أعمال اغتيال لقادة فلسطينيين عبر التفجير في سوريا، لكن الأمر في حالة المبحوح صار فعلا "دوليا"، إذ جرى الأمر على أراضي دولة لا توجد لها حدود مع فلسطين المحتلة، كما استخدم الجناة جوازات سفر تكاد تكون من كل دول الاتحاد الأوروبي، وفي خيوط حركة القتلة لا شك أنها ستكون شملت تحركات في دول كثيرة، إذ مثل تلك الفرق لا تتحرك من دولة واحدة في الوصول إلى الدولة التى سيجرى فعل العدوان على أرضها – خوفا من الانكشاف أو إثارة الريبة - بل يجرى تجميعهم من عدوة دول الالتقاء لحظة التنفيذ.

لكن الجديد الأهم، هو أن هذا الطابع الدولي لجريمة الاغتيال، قد وضع الكيان الصهيونى وجهاز الموساد أمام أعين العالم بشدة، كدولة تمارس أعمال القتل على أراضي الغير، وباستخدام جوازات سفر تخص مواطنين من دول أخرى، بما يمثل انتهاكا لسيادتها وخصوصيات مواطنيها وأمنها الوطني.

في تلك العملية الأخيرة لا يبدو الأمر مثل كل ما سبق. لقد جرت محاولة اغتيال القائد الفلسطيني خالد مشعل وفشلت على الأرض الأردنية، بما جعل الصهاينة يفرجون عن الشيخ المجاهد الراحل أحمد ياسين، لكن دون الكشف عن أبعاد ما جرى على صعيد الإعداد والتجهيز للعملية، لكن الوضع الراهن يفتح ملف اختراق حدود الدول الأخرى وسيادتها على نطاق دولي، ومن ثم فإذا كانت عملية اغتيال مشعل، قد رأت نهايتها من خلال عمل متبادل في داخل دورة العلاقات بين الأردن والكيان الصهيوني، دون ملاسنات وتصريحات وبحث وتحقيق ذي طبيعة دولية؛ فإن الأمر في حالة الشهيد محمود المبحوح، يفتح طريقا آخر واسعا في التشهير والضغط على الكيان الصهيونى.

جولدستون آخر
تأتي عملية اغتيال المبحوح وسط ظرف خاص للغاية يواجهه الكيان الصهيوني، يتعلق بصدور تقرير حول الجرائم الصهيونية في غزة خلال العدوان الأخير المصطلح على تسميته باسم تقرير جولدستون، وهو ما يجعل الموقف الصهيونى ضعيفا للغاية على الصعد السياسية والديبلوماسية والاعلامية على الصعيد الدولى ،يوجب استثماره والضغط به في حالة الجريمة الجديدة، إذ يجب الربط بين الجريمة في غزة والجريمة في دبي، وتطوير التصدي للجريمة الجديدة للوصول بها إلى نفس حالة الجريمة السابقة.

كما تأتي العملية، إثر عملية مطاردة وملاحقة قانونية للقادة الصهاينة جرت بشكل مؤثر في بعد الدول الأوروبية، بعدما رفعت قضايا ضد تلك القيادات بارتكاب جرائم حرب، جرت بسببها عمليات إبطاء لحركة تلك القيادات في السفر والدعاية للكيان الصهيوني في أوروبا، كما نجحت في تنوير الرأي العام الدولي بالجرائم الصهيونية، وهو ما يغير حالة التعاطف التى كان الكيان الصهيوني قد نجح في الحصول عليها من قطاعات من الرأي العام الغربي خاصة، وفق الروايات المزورة التي روجها، في غياب النشاط العربي والإسلامي الإعلامي المقابل دبلوماسيا وقانونيا وإعلاميا.

وفي ذلك يبدو الأمر الذي يهيئ لهذا الربط والضغط هو أن الجريمة قد وقعت على الصعيد الدولي، وباختراق سيادة دول عديدة، بما يمهد لإمكانية نجاح واسعة للحركة القانونية والدبلوماسية والإعلامية على مستوى واسع دوليا. ولذلك يبدو مهما التقاط الإشارة التي وردت في تصريحات أحد قادة حماس، باللجوء إلى القانون والقضاء في مواجهة الجريمة.

في مواجهة الجريمة الجديدة، تبدو الظروف مهيأة للمطاردة القانونية في مختلف الدول التي جرى انتهاك سيادتها بالقيام بالعملية بجوازات سفر صادرة بأسماء مواطنيها، كما يبدو الطريق مفتوحا للعمل الدبلوماسي والقانوني أمام المحاكم الدولية والهيئات والمنظمات المهتمة بشؤون الحريات وحقوق الإنسان، كما يمكن التحرك للتقدم بمذكرات أمام هيئات الامم المتحدة للمطالبة بتحقيقات وإجراءات ذات طابع دولي.

بطبيعة الحال، لا يجرى هذا وذاك باعتبارها أمور يعول عليها بالدرجة الأولى في النضال الفلسطيني ولا باعتبارها بديلا للفعل المقاوم، وإنما هي وسائل القوة الناعمة الضاغطة على الخصم والتى يمكنها مسح الغشاوة عن الأعين المبصرة، كما هي تحرج المؤيدين للكيان الصهيوني أمام الرأي العام..إلخ، وهى كلها تأتي ضمن حزمة الرؤية التى يجرى العمل عليها لفك الحصار حول غزة، إذ ما يجرى الآن لفك الحصار يعتمد في معظمه على مجموعات من النشاطات الجماهيرية والإعلامية والقانونية.