"كنيس الخراب".. فتح ودولنا تغادر التاريخ
3 ربيع الثاني 1431
أمير سعيد

لم يعد يبقى نزيه واحد في العالم الإسلامي والعربي يمكنه أن يتقبل سياسة "الحياد الإيجابي" التي تنتهجها الطغمة في رام الله إزاء الشعب الفلسطيني ولصالح الكيان الصهيوني، ولا إدارتها لرد الفعل حيال إرهاصات احتلال المسجد الأقصى أو تقسيمه، والتي يسرع الكيان الغاصب في تسريع وتيرتها مستغلاً لحظة مواتية لارتكاب جريمته، كما لا يمكنه نعت الحالة العربية الرسمية بأقل من أوصاف التواطؤ والتبلد.

 

الثقة صارت معدومة، والتعويل أضحى سذاجة، وما عاد يجدي الحديث إلى على ابتكار وسائل جديدة لا تضع كل هؤلاء في حسابها، إلا بمقدار ما يتم خصمه من رصيد المقاومة الشعبية؛ فلقد غادر هؤلاء التاريخ، وغدا الكلام عن "أسبقية البندقية الفتحاوية" تاريخا غادره أصحابه، حين رضوا بالدنية وتجاهلوا المقدسات والقيم.

 

لقد سقط هؤلاء عدة مرات من قبل في اختبارات المبادئ، ليس آخرها عدوان غزة الوحشي قبل ما يزيد عن عام، عندما تبين أن لبعضهم ضلعاً في الجريمة عبر الموافقة، وربما الحث على شن تلك الهجمة الدموية، مثلما برهنت على ذلك حركة حماس، لكن أخطر هذه الاختبارات هو ما يتعلق بقضية المسلمين الأولى في خلال نصف قرن الماضي، وهي التي لا تقبل أي محاتلة أو مداراة تتعلق في التفريط في مقدسات المسلمين المغتصبة. وعليه؛ فإنه عند هذه النقطة لابد أن يفارق أي مخدوع أو موهوم في حركة فتح الرافد الأول للطغمة المتنفذة المتحكمة في القرار الفلسطيني، تلك الحركة بعدما تنكرت لأي معنى من معاني النضال السابقة، وارتضت أن تكون أداة أكثر فظاظة من الاحتلال نفسه لتنفيذ متطلباته.

 

"هل هان عليكم مسرى نبيكم؟ هل تنتظرون أن يرفع قطعان المستوطنين راية الكفر وراية الغصب والعدوان لترفرف في ساحات السجد الأقصى؟"، هذا ما قاله الأمين العام لحركة الجهاد الفلسطيني رمضان عبد الله شلح في ختام تظاهرة مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا، متوجهاً إلى الجماهير بعدما نفض يديه من حركة فتح وسلطتها الجاثمة على صدر أهالي الضفة الغربية، وهذا ما يمكننا أن نعيد ترديده هنا، معولين على أهل النخوة في فلسطين، لا مرتزقيها الذين يقدمون الدولار الدايتوني على مسرى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ولا عراتها الذين كشفوا عن سلطة يرسم الاحتلال مواقفها كل يوم بريشة فضائحها الأخلاقية الجديدة.

 

لقد نجح الاحتلال في وضع معادلة جديدة في أرض الضفة العنيدة لما جاء بسلطة أشد منه مراساً في عدائها لـ"شعبها" ونضاله العظيم، وتمكن من تسكين الضفة نسبياً عبر خدمة دايتون، وتقليم أظافر جميع الأجنحة العسكرية بأدوات عربية، ومحاكاة لأساليب عرفتها أنظمة، لم يحسنها حتى الاحتلال نفسه أثناء احتلاله المباشر للضفة الغربية؛ فغدا الكل أسرى هذا الرعب الاستبدادي والممارسات القمعية في أقبية التعذيب التي أنضجت الحالة الحالية على نارها الهادئة، وصارت تلك الأرض التي أنجبت أبطال النضال الفلسطيني جدباء إلا من زروع قصيرة مستترة بين حشائش الأرض تحافظ على بعض مكتسباتها منتظرة لحظة الإثمار.

 

وما يقال عن الضفة ينسحب بكل تأكيد على النظم العربية التي تلتئم في اجتماعها القادم على ثآليل وملوثات لا يصلح معه أي قرار أو إجراء، ما دام مرهوناً بالإرادة الأمريكية مسلم قياده إليها، ومتى كان اجتماع قمتها هو التعبير عن أقصى درجات الخنوع التي ستقبل بها الشعوب أو تمررها على مضض وكراهة لا تؤثر في الواقع شيئاً.

 

الطريق من بعد بدا ممهداً للحماقات الصهيونية التي ليس يجدي معها نفعاً تناولها من جانب يتعلق بالمنطق أو المشروعية؛ إذ لن يقدم للقضية كثيراً أو يؤخر مسألة "تخاريف" الحاخام الصهيوني مثلما قال بعض المسؤولين الدينيين الفلسطينيين وكونها لا تعبر عن "حقوق" لليهود في المنطقة؛ فما يجري الآن لا يعبر عن حق، وإنما يجسد القوة وانتهاز أضعف لحظات الضعف التي تمر بها الأمة الإسلامية والعربية لفرض أمر واقع جديد لا يمكن زحزحته في ظل الحالة الراهنة.

 

لقد نجح هؤلاء وأولئك في إقصاء الفعالية النضالية إلى حد بعيد عن الضفة الغربية، الحاضنة الطبيعية والتاريخية للأقصى المبارك، واستطاعوا إخراجها من دائرة التأثير، ونجحوا في الإبقاء على الطموح بشأن انتفاضة أقصى جديدة في حيز الأماني والأحلام، برغم كل تقديري لأبطال الحجارة في الضفة على قلتهم في مخيم قلنديا وقرية نعلين الصامدة بالضفة.

 

وحيث انقلبت الأبصار خاسئة عن تلك الأرض الغالية من فلسطين، وتضاءلت الآمال باندلاع موجات غضب فلسطينية تغذيها أخرى عربية، وجد العدو الصهيوني الباب مشرعاً أمام المزيد من كسب الوقت والأرض والمقدسات، ومن ثم "الشرعية" الأبدية لحكمه الجائر، وبدت مسألة اشتعال انتفاضة جديدة قال جهاز الاستخبارات الصهيوني أنه يتم التحضير لها هذه الأيام على خلفية الأحداث الحاصلة في القدس وبعض بلدات الضفة، ضعيفة، لاسيما بعد أن تبين أن قيادات فتحاوية بدأت تحاول ابتزاز قوى المقاومة بما صوروه كدعوة لـ"كل القوى الوطنية الفلسطينية بما فيها حركة حماس إلى مؤتمر وطني شامل لصوغ سياسة واحدة تدافع بها عن المقدسات الإسلامية."، كما قال النائب محمد دحلان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح مفوض الإعلام والثقافة، والمتهم الأول عند القوى الإسلامية والوطنية فلسطينياً بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، بينما هو في الواقع محاولة رخيصة لاستغلال هذا الموقف للضغط على حركة حماس من أجل "التوقيع على ورقة المصالحة المصرية"!! بدعوى "تغليب مصالح الشعب الفلسطيني ، وإدراك خطورة الوضع في ظل ما تتعرض له القدس"، والكلام كله لدحلان.

 

إن ما أحدثته "إسرائيل" من خرق جديد بافتتاح كنيس الخراب كتمهيد لاحتلال أو هدم الأقصى، هو بطبيعة الحال نتاج واضح للخضوع في المنطقة، ولا فرق في الحقيقة في "المحاور"؛ فالكل لم يحرك ساكناً، بل لعل أهل "التصدي والصمود" كانوا أكثر "اعتدالاً" من غيرهم، ولديهم حوافزهم "النووية" و"الإقطاعية" لتمرير موقف "هادئ"؛ فما تحويه ملفات هؤلاء وأولئك "أعز وأغلى" من الأقصى، تتعلق بملفات النووي والنفوذ والحكم والمال.. الخ، وهو بدوره لا تجري بركته إلا على من يستحقها، وهم أهل ثغره الأطهار.