تفاهة السياسة الحالية في الغرب
26 رجب 1431
د. محمد يحيى

منذ حوالي الشهر وعندما بدأ تعيين أعضاء الحكومة البريطانية الجديدة في أعقاب الانتخابات التي أتت بتحالف من حزبي المحافظين الأحرار الديمقراطيين تفجرت فضيحة عندما أعلن أن وزير الخزانة في تلك الحكومة قد اختلس أموالاً أو بالأصح حول أموال مما كان يتلقاه كعضو في مجلس النواب على سبيل بدر الإسكان وأرسلها إلى أحد أصدقائه من الشواذ وهو أيضًا شاذ لكي يدفعها أجرًا لشقة يقيم بها ويلتقيان فيها لممارسة هذه الفاحشة والفجور معًا، وعندما تفجرت هذه الفضيحة استقال الرجل من منصبه وعندها بدأت ردود أفعال متوقعة ومعتادة في العالم العربي والإسلامي.

 

فمن الناحية الأولى كان هناك رد الفعل العلماني الذي انتهز هذه الفرصة لكي يمجد ما أسماه بالحضارة الأوروبية والديمقراطية الغربية والتي لا تتهاون أبدًا في الحقوق المالية العامة وتحاسب من يفرط بها حسابًا عسيرًا حتى لو كان وزيرًا منتخبًا.
لكن هذه الحضارة على الجانب الآخر تتسامح كثيرًا في الأمور الشخصية التي تتعلق بمزاج وميول وطبائع الأشخاص ولا تحاسبهم عليها مثلما تفعل الحضارات أو الثقافات المتدينة التي يعتبرها هؤلاء العلمانيون متزمتة وجامدة وضيقة الأفق وغارقة في أمور المحرمات المختلفة.

 

وعلى الجانب الآخر كان هناك رد الفعل الإسلامي المعتاد أيضًا والمكرر الذي أخذ يهاجم الحضارة الأوروبية على أساس أنها حضارة قد وصلت فيها انحطاط الأخلاق حدًا تمارس فيه أشد وأبشع أنواع الفواحش وأكثرها لا طبيعية وشذوذًا بدون حياء أو بدون خجل ولا تلقي أي حساب أو حتى عتاب من المجتمع ناهيك عن أن تلقي مثل هذا العتاب من أصحاب الشأن في ذلك المجتمع أو القانون أو الإعلام.

 

ويأخذ أصحاب هذا الرأي عادة في إلقاء اللوم على الذين يصدرون إلينا هذه القيم الفاسدة وعلى الذين يروجونها بيننا من العلمانيين خاصة الذين يمزجون بين القيم الجيدة في الديمقراطية الغربية وبين القيم الفاسدة، ويحاولون الترويج للإثنين معًا دون تمييز بينهما، ورد الفعل الإسلامي هذا هو رد سليم وطبيعي إلا أن هناك رد فعل ثالث ينبغي أن يكون في مثل هذه الفضائح التي تكررت كثيرًا، ليس فقط في انجلترا وحدها، وإنما في دول غربية أخرى تمتد من أمريكا غربًا إلى أواسط أوروبا في الشرق.

 

وهذه الفضائح قد أصبحت الآن مشهورة وأدت إلى استقالة العديد من الوزراء وكبار المسؤولين على خلفية أنهم مارسوا الجنس الفاحش أو الشاذ مع آخرين وقد أنفقوا على هؤلاء الآخرين من المخصصات المالية التي كانت يفترض أنها موجهة لهم لينفقوها في شؤونهم أو أعمالهم كوزراء أو نواب أو موظفين عموميين في الدولة.

 

ولعل حزب الأحرار على وجه الخصوص في بريطانيا قبل أن يصبح اسمه حزب الأحرار الديمقراطيين كان له النصيب الأكبر في أمثال هذه الفضائح، فإذا رجعنا إلى ذاكرة الستينيات فسوف نجد أن رئيسين متتاليين لهذا الحزب قد ضبطا متلبسين بالشذوذ الجنسي وطردا من الحزب على خلفية هذه الفضيحة وعلى خلفية أنهما انغمسا في هذا الانحلال مع إهمال شؤون الحزب مما أدى إلى تردي أوضاعه في البلاد وخسرانه للانتخابات.

 

أما رد الفعل الثالث الذي ينبغي أن يكون في مثل هذه الأحوال فهو في رأيي أننا بعيدًا عن التمجيد لما يسمى بديمقراطية الغرب والحريات الشخصية فيه أو بعيدًا عن الإدانة الصحيحة والمطلوبة لما يوجد هناك من انحلال فاق كل الحدود فإننا لابد أن نشير إلى أن مجمل الميدان السياسي في الغرب الآن قد أصبح مصابًا بحالة من الهزال والتفاهة واللامعنى بل واللاصلة بشؤون المجتمع إلى حد أنه أصبح مرتعًا يرتاده أصحاب الشذوذ وسائر الانحرافات الجنسية أو المالية أو غيرها لكي يمارسوا فيه انحرافاتهم على سبيل التغطية والتعمية عليها ويسمح لهم المجتمع بذلك بل يعرف عنهم القاصي والداني أنهم موجودون في دنيا السياسة لممارسة هذه الانحرافات الأخلاقية أو المالية ولا يعاتبهم أحد بل وقلما يقدمون للمحاكمة إلا إذا وصل الأمر إلى مخالفات صريحة وواضحة للقوانين أو جرائم منصوص عليها وتوجد عليها عقوبات.

 

والسبب الأساسي في هذا أن صنع القرار الآن في الغرب أو السلطة الحقيقية لم تعد موجودة في الميدان السياسي أي الميدان الذي يتألف من أحزاب وانتخابات ومجالس نيابية متعددة أو مجالس محلية وإنما السلطة والقرار والفعل والتأثير في شئون المجتمعات الغربية قد أصبح الآن في يد قوى أخرى بعيدة عما يعرف تقليديًا باسم المجال أو الميدان السياسي، وأعني بها القوى المالية والاقتصادية والمصرفية والصناعية الكبرى، وقوى جماعات الضغط التي تعمل من وراء ستار لحماية هذه المصالح المالية والمصرفية الكبرى، وقوى الإعلام الذي يشكل الرأي العام ومن وراءه بعض القوى المحلية مثل قوى التعليم أو قوى الكنائس ولعلنا أيضًا نذكر قوى من القوى الخفية التي يشار إليها عادة من أمثال الماسونية أو النوادي والتجمعات الخاصة التي تضم خليطًا من أصحاب العقائد الغريبة وأصحاب المصالح المالية.

 

كل هذه القوى وعلى رأسها القوى المالية والمصرفية أصبحت الآن هي المتحكمة في الغرب بل ومتحكمة في العالم كله من خلال أوضاع العولمة التي يفرضها الغرب على الكوكب بأسره.

 

هذه القوى هي التي تضع فعلاً السياسات وهي التي تنظم الأمور وهي التي تخلط التيارات وهي القادرة على التلاعب بمشاعر وأهواء الجماهير، والقادرة على فرض سياساتها وتوجهاتها ليس فقط على حكومات بلادها، وإنما أيضًا على سائر دول العالم من خلال ممارسة السلطة والنفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي، ولهذا فإن الميدان السياسي في كل الدول الغربية، وربما باستثناء دولة أو اثنين في فرنسا مثلاً أو في إيطاليا قد أصبح الآن مرهونًا بإرادة هذه القوى التي تعمل من وراء ستار بينما الميدان السياسي خاو ولا توجد به أيه فاعليه أو أية آثار سوى أنه أصبح مخزنًا أو مرتعًا لبعض التافهين ممن يدخلون فيه لكي يغطوا على انحرافاتهم.

 

وقد يتساءل البعض فلماذا إذن يبقي الغرب على هذا الميدان السياسي مفتوحًا إذا كان قد أصيب بهذه الحالة من التفاهة أو عدم الأهمية، والجواب هو أن هذا الميدان السياسي قد أصبح نوعًا من أنواع التقليد أو العادة وهو موجود أيضًا في المقام الأول لكي يغطي على حقيقة القوى التي تدير المجتمعات ولكي يوهم الناس في داخل هذه البلاد وخارجها أنه هو فعلاً الذي تصدر منه التأثيرات، ولا تصدر التأثيرات من القوى الأخرى المالية والاقتصادية والمصرفية.

 

وفوق كل شيء فإن الميدان السياسي يبقى عليه في الغرب رغم عدم صلته بوضع السياسات لأنه يقوم بدور المنفذ، فهو ليس أكثر من جهاز سكرتارية أو جهاز إدارة أو جهاز تنفيذي من الموظفين يقوم على تنفيذ وإعمال وتدبير السياسات التي توضع كلها خارجه.