15 شعبان 1433

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم؛
أنا فتاة ملتزمة بفضل الله، من مصر، تقدم لي شاب يكبرني بأربع سنوات، سألنا عنه فتبين أنه متدين، أي أنه يصلي ويصوم ويقيم الفرائض، لكنه غير ملتحٍ، وأيضا لا أعتقد أنه يحفظ القرآن كاملا، لكنه تخرج من كلية دار العلوم، وبحكم دراسته يحفظ قليلا منه، وأيضا درس بعض المواد الشرعية، لكن أغلب دراسته في اللغة العربية.
وهو شاب طموح؛ لكن المشكلة أن مستواه الاجتماعي أقل بكثير من مستواي، أما مستواه المادي فيقارب مستواي، وسألنا أيضًا عنه فاكتشفنا أن أخته كانت لها علاقة قديمًا مع أحد الشباب، لكنها حاليًا تزوجت، غير أن هذا الأمر أثر جدًا، وكذلك اكتشفنا أن والده كان يشرب الخمر لكنه تاب منذ أربع أعوام، والآن جميعهم التزم بالصلاة، لكن الناس حتي الآن ينظرون إليهم نظرة متدنية، والبعض ينظر لهم على أنهم عار.
وملخص المشكلة: أن الشاب نفسه أخلاقة حسنة، ودينه كما ذكرت لك، وهو لا يدخن ولا يشرب الخمر، ويقيم الفروض، لكن مستواه الاجتماعي أقل بكثير، والناس يحتقرون أسرته: أخته ووالده، لأنهم انتهكوا حرمات الله قديمًا، وتابوا الآن، لكن الناس لا ينسون هذا الأمر، أنا هدفي أن نكّون أسرة سوية علي دين الله، وأخاف أن أوافق فأظلم الأبناء- مستقبلا- لأن نسبهم ومستواهم الاجتماعي سيكون متدني، لأن من حق الأبناء علي الأم والأب أن يحسنوا الاختيار، وأيضا أخاف أن أرفض فأكون قد ظلمته، وأخذته بذنب أبيه وأخته.. أرشدوني، بارك الله فيكم، ماذا أفعل؟، وما الحل؟

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أختنا الفضلى:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر اللهُ لكِ ثقتكِ بإخوانِكِ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
فاحمدي الله أنك "فتاة ملتزمة" واشكريه على نعمه، ومن شكره سبحانه المحافظة على الالتزام، واعلمي أن سن من تقدم لكِ مناسب لسنك لأن السنوات الأربع التي يكبرك بها ليست كثيرة بل إنها مناسبة جدًا، وقد أحسنتم إذ سألتم عن دينه وخلقه قبل الارتباط به؛ فهذا واجب شرعي على أهل الدين، وعرف مستقر عند أصحاب العقل السليم، واحمدي الله أنه "متدين"، "يصلي" و"يصوم" و"يقيم الفرائض"، فقد أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) ولي أمر الفتاة المسلمة فقال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (رواه الترمذي وغيره).
أما كونه غير ملتحٍ، فليست اللحية- على مكانتها في الإسلام- شرطًا من شروط صحة الزواج، بألا تكون محرمة على الشخص الذي يريد الاقتران بها؛ بأي سبب من أسباب التحريم المؤقت أو المؤبد، وألا تكره على الزواج بمن لا تريده، وأن يشهد على العقد شاهدي عدل، مع موافقة ولي الزوجة، إلى آخر ما استقر عليه الفقه الإسلامي.
أما عن أنه لا يحفظ القرآن كاملا، فإن حفظ القرآن – على فضله وعظم أجره - مستحب وليس بواجب، كما أفتى بذلك الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله)، وجمهور الفقهاء على ذلك، وإذا كان بعض الصحابة أو السلف (رضوان الله عليهم جميعًا) قد جعلوا حفظ القرآن مهرًا لزواج بعض بناتهم، فإن هذا لا يعني أن حفظ القرآن شرط من شروط صحة الزواج، بل إنه من باب تكريم حفظة القرآن، وتشجيع الشباب على حفظه، وقد سلكت هذا المسلك بعض الدول مثل دولة سيراليون، وبعض جزر إندونيسا، وهو أمر طيب نتمنى انتشاره لكنه يبقى في كل الأحوال على الاستحباب وليس الوجوب.
ويكفي أنه "تخرج في كلية دار العلوم"، وأنه "بحكم دراسته يحفظ قليلا منه"، وهو ما تصح به صلاته، فضلا عن كونه قد "درس بعض المواد الشرعية"، كالتفسير والفقه والحديث والسيرة، وقد زين هذا كله بـ"دراسته في اللغة العربية"، إذ أنها لغة القر آن الكريم، وأشرف اللغات جميعًا، وهذه أمور يحمد عليها، ويفتقدها ملايين الشباب في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية. ولعل مما يميزه أيضًا أنه "شاب طموح"؛ فالطموح حتمًا سيدفعه إلى بذل المزيد من الجهد للنجاح في الحياة، وتحقيق ذاته.
أما عن أن "مستواه الاجتماعي أقل بكثير" من مستواكِ، فرغم أن بعض الفقهاء أشاروا إلى أن التكافؤ من عوامل نجاح الزواج، فإن نقص المستوى الاجتماعي ليس من مبطلات الزواج، ولا يقف عائقًا شرعيًا من زواج ممن ترينه ذا خلق ودين، بل إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رجح كفة صاحب الدين، فقال فيما رواه أبو هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وهو شرط مطلوب في الشاب والفتاة معًا، ويدل عليه قوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم): "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (رواه الترمذي وغيره).
ونأتي إلى النقطة التي ربما كانت السبب الحقيقي في ترددك في قبوله زوجًا، وهي قولك: "اكتشفنا أن أخته كانت لها علاقة قديمًا مع أحد الشباب"، وأن "والده كان يشرب الخمر"، فهي أمور – على رفضنا لها- لاتطعن في دينه ولا في خلقه هو، ثم من منا بلا ذنوب ولا معاصي؟!، ومن منا لم يخطئ في صغره، وفي الحديث القدسي الذي يرويه أبو ذر جندب بن جنادة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) فيما يروي عن ربه (تبارك وتعالى) أنه قال "... يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم..." (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وعن أبي هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ) قال، قال رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم): "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه تعالى فيغفر لهم" (رواه مُسلِمٌ).
والعبرة – أختنا الكريمة- بخواتيم الأمور، وطالما أنك تقولين عن أخته أنها "حاليًا تزوجت"، وأن والده "تاب منذ أربع أعوام"، وأنهم "جميعهم التزم بالصلاة"، فإنه أجدر بنا أن نشجعهم على عودتهم إلى الله، وأن نعتبر ذلك لهم لا عليهم، ومدحًا لا قدحًا، وإن شئت اقرئي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والذي يرويه عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) والذي يقول نصه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلإ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". (رواه البخاري ومسلم).
أما عن قولك: "لكن الناس حتي الآن ينظرون إليهم نظرة متدنية، والبعض ينظر لهم على أنهم عار"؛ فمنذ متى كانت نظرة الناس صائبة 100 %؟!، لا مانع أن نستأنس برأي عقلاء الناس وحكماؤهم، أما عوام الناس وجهالهم وسفهاؤهم فلا يصح أن نطاوعهم في كل ما يقولونه وما أجمل قول الشاعر:
وما أحد من ألسن الناس سالماً *** ولو أنه ذاك النبي المطهرُ
فإن كان مقداماً يقولون أهوج *** وإن كان مفضالاً يقولون مبذرُ
وان كان سكيتاً يقولون أبكم *** وان كان منطيقاً يقولون مهدرُ
وان كان صواماً وباليل قواماً *** يقولون كذاب يرائي ويمكرُ
فلا تكترث بالناس في المدح والثنا *** وتوكل على الله والله أكبرُ
وقبل الختام أقول لكِ: طالما أن الشاب نفسه أخلاقه حسنة، ودينه حسن، كما أنه "لا يدخن"، و"لا يشرب الخمر"، و"يقيم الفروض"، فاستخيري الله (سبحانه وتعلى)، واستفتي قلبك وإن أفتاكِ الناسُ وأفتوكِ، وتوكلي على الله، ولا ترفضيه لقلة "مستواه الاجتماعي"، ولا تكترثي كثيرًا لحديث الناس عنهم، واحتقارهم لأخته ووالده، فإن كانوا قد "انتهكوا حرمات الله قديمًا"، فإنهم "تابوا الآن"، وصلح حالهم، وصحت توبتهم، واعلمي أن "الزمن جزء من العلاج"، وأن الناس سينشغلون بحالهم وسينسون كل شيء، هذا الأمر.
وأنا إذ أشكر لك رغبتك الطيبة أن تكوّني "أسرة سوية علي دين الله"، وخوفك أن تظلمي أبناءك - مستقبلا- لأن نسبهم ومستواهم الاجتماعي سيكون متدنيًا، وإيمانك بأن من حق الأبناء علي الأمهات والآباء أن يحسنوا الاختيار، فإنني أربأ بكِ أن تظلمينه، أو أن تأخذينه بذنب أبيه وأخته، فالعبرة بصلاح دينه وأخلاقه، خاصة وأن أسرته تابت إلى الله، ورجعت إليه، فلا تنقبي في ماضيه، ولا تعاقبينه على صلاحه وحسن خلقه.
وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يختار لكِ الخير، وألا يضعكِ إلا حيث يرضى عنكِ، وأن يهد قلبكِ لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكِ غضبه ومعصيته، وأن يصرف عنك كيد الشيطان ومكره.. اللهم آمين.. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.