أنت هنا

طرف من كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط
7 شعبان 1431
اللجنة العلمية
لقد راعى علماؤنا رحمهم الله أصل المنع من اختلاط الرجال بالنساء في كثير من الأحكام، وعللوا به، ولعله سبق ذكر طرف من ذلك، وليس الغرض هنا تقرير أعيان المسائل التي ربما عللوا بالاختلاط منعها، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، فربما خالف مخالف فيها، وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من المنع بالاختلاط وتعليلهم به الكثير من الأحكام، مع نصهم على المنع منه([1]).
ومن ذلك ما نقله ابن القيم رحمه الله: " ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق, والفرج, ومجامع الرجال. قال مالكٌ رحمه الله ورضي عنه: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصُيَّاغ في قُعود النساء إليهم, وأرى ألا يَترُك المرأة الشابة تجلس إلى الصُّيَّاغ فأمَّا المرأة المتجالَّة([2])والخادم الدُّونُ, التي لا تتهم على القُعود, ولا يتُهم من تقعد عنده: فإني لا أرى بذلك بأساً([3])، فالإمام مسئولٌ عن ذلك, والفتنة به عظيمة, قال صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء" ... ويجب عليه منع النساء من الخروج متزيِّناتٍ مُتجمِّلاتٍ, ومنعهنَّ من الثياب التي يكنَّ بها كاسياتٍ عاريَّاتٍ, كالثياب الواسعة والرِّقَاقِ, ومنعهنَّ من حديث الرجال, في الطرقات, ومنع الرجال من ذلك.([4])"، ثم قال رحمه الله مشيراً إلى ما يناسب واقعهم: "وإن رأى وليُّ الأمر أن يُفسِد على المرأة -إذا تجمَّلت وتزيَّنت وخرجت- ثيابهَا بحبرٍ ونحوه, فقد رخَّصَ في ذلك بعض الفقهاء وأصاب, وهذا من أدنى عقوبتهنَّ الماليَّة. وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها, ولا سيَّما إذا خرجت متجمِّلةً, بل إقرار النساء على ذلك إعانةٌ لهنَّ على الإثم والمعصية, والله سائل وليَّ الأمرِ عن ذلِك. وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال, والاختلاط بهم في الطريق. فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك..".

إلى أن قال: "ولا ريب أنّ تمكين النساء من اختلاطهنَّ بالرجال: أصل كل بليَّةٍ وشرٍّ, وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة, كما أنَّه من أسباب فساد أُمورِ العامة والخاصة, واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام, والطواعين المتصلة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى, وفشت فيهم الفاحشة: أرْسَلَ الله إليهم الطاعون, فمات في يوم واحدٍ سبعون ألفا, والقصة مشهورة في كتب التفاسير. فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا, بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال, والمشي بينهم متبرِّجاتٍ متجملات, ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية -قبل الدين- لكانوا أشد شيء منعا لذلك".

 

 

وقال الماوردي رحمه الله يعرف الدَيُّوث: "هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم"([5]).
وقد منع علماؤنا بعلة الاختلاط شهود بعض الواجبات، قال النفراوي في من دُعي إلى وليمة عرس: " المتبادر من الأمر الوجوب.. قال خليلٌ: تجب إجابة من عيَّنَ وإن صائماً ..." قال: "ثم شرع في بيان ما يُسقِط الإجابة بقوله: "إن لم يكن هناك" أي في محل الوليمة "لهو مشهور" أي ظاهر بحيث يُخالطه المدعو وهو ممَّا يَحرُمُ حُضُوره وفسره بقوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه.."([6]).
وقد نقل أئمة المالكية؛ كابن فرحون، وابن زيد البرناسي، وأحمد القرافي، أنه لايختلف في المذهب في عدم قبول شهادة من يحضرون الأعراس التي يمتزج فيها الرجال بالنساء، وما شابه ذلك، وقالوا: لأن بحضورهم في هذه المواضع تسقط عدالتهم([7]).
"والفتوى اليوم على الكراهة في الصلاة كلها، لظهور الفساد، ومتى كره حضور المسجد كره حضور مجالس الوعظ، خصوصاً عند هؤلاء الجهال، الذين تحلوا بحلية العلماء"([8]).
وقال الحموي معللاً حكمه على الزفاف: "وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال"([9]).

وعلل ابن عابدين رد شهادة من خرج للفرجة على قدوم أمير بقوله: "لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء"([10]).

 

 

ومن نكت الأحناف قول بعضهم في الآفة الستون من آفات اللسان: "الإذن والإجازة فيما هو معصية، كإذن الزوج لامرأته أن تخرج من بيته إلى غير مواضع مخصوصة" ثم عدها سبعاً وقال: "وفيما عدا ذلك من زيارة الأجانب وعيادتهم والوليمة لا يأذن لها ولو أذن وخرجت كانا عاصيين"([11]).
ومن اطراد الشافعية على قواعدهم منعهم من اختلاط الرجال بالنساء أمواتاً، قال في معالم القربة: "ولايدفن في قبر واحد ميتان ما أمكن، وإن اجتمع موتى في وباء جعلنا الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وقدمنا الأفضل إلى جدار اللحد، فيقدم الأب على الابن، والابن على الأم لمكان الذكورة، ولايجمع بين الرجال والنساء، فإن دعت الضرورة جعلنا بينهما حاجزاً من تراب"([12]).
ونحوه قول الرملي: "ولايجوز الجمع بين الرجال والنساء إلاّ لضرورة متأكدة"([13]).

وقد ذكر الفقهاء أنه يشرع للمرأة أن تبادر بالخروج من المسجد لتسلم من مزاحمة الرجال([14])، واستحبوا للرجال أن يمكثوا ريثما تصدر النساء ما لم يكن المأمومون رجالاً ليس فيهم نساء([15])، وقد مضى في الكلام على شهود النساء للأعياد والصلوات بعض ما ذكره أهل العلم في خروجها للصلاة، وكيف تخرج، ومن أين تدخل، وأين تقف([16])، ومتى تنصرف، وكل ذلك حذار الاختلاط بالرجال.

 

 

من كلام العلامة محمد بن إبراهيم:
للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جواب مطول عن حكم الاختلاط أفرد في رسالة سبقت الإشارة إليها فليراجع، ولعله يُكتفى هنا بنقل مواضع أخرى من كلامه في فتاواه خارج تلك الرسالة، خاصة وأن شيئاً من الرسالة فاح عبقه بين طيات البحث. وانظر كذلك فتاواه بعدها([17]).
ومن كلامه قوله رحمه الله عند تلخيصه ذكر مفاسد الموالد التي عدها ابن الحاج: " خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات هناك من الاختلاط وغيره"([18]).
وقال رحمه الله: "وأما اختلاط النساء بالرجال وحصول المفاسد التي ذكرتها، فهذا من أكبر المنكرات التي يتعين إنكارها على الجميع"([19]).

وقال: "ومن أدلة ذلك أيضاً النصوص الدالة على منع اختلاط الرجال بالنساء، لأن المرأة الموظفة لا تختص بالنساء لا بد أن تخالط الرجال بمقتضى طبيعة وظيفتها. ومن تلك النصوص قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب( فالأمر بكون سؤالهن من وراء حجاب دليل واضح على لزوم الحواجز وعدم الاختلاط"([20]).

 

 

وقال حول ما تقدم به بعضهم ضد هيئة الأمر بالمعروف، متظلماً من سجنه، وتأديب المشتركين في حفلة زواج بضرب كل واحد منهم خمسة أسواط.
"بتأمل ما قرره قاضي الأفلاج بحق المذكورين، بناء على ما تحقق لديه من اجتماعهم مختلطين رجالاً ونساءً على ضرب الدفوف، وما ترتب عليه من وجود منكرات لا يجوز فعلها شرعاً، يعتبر إجراءً حسناً، وفي محله، ولا وجه لتشكي المذكورين، بل الذي ينبغي في ذلك على ولاة الأمر أن يكونوا عوناً لرجال الدين والحسبة في قمع أمثال هؤلاء والضرب على أيديهم بما يحفظ للدين كرامته وللشرع قداسته".
ثم ذكر -رحمه الله- "أن ضرب الدفوف إذا كان مقصوراً على النساء فقط سالماً من الأمور المحرمة فلا مانع منه، لشرعية إعلان النكاح"([21]).
ومن أقواله أيضاً: "بهذه المناسبة أشرح أمراً هاماً ينبغي أن يكون العمل عليه في مستشفات المملكة، وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون المستشفيات للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص في المستشفى، فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال، ومثله قسم النساء، حتى تؤمن المفسدة، وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة، موافق لبيئة البلاد ودينها وطبائع أهلها، وهذا الترتيب لا يكلف شيئاً ولا يوجب التزامات مالية أكثر مما كان، فإن الإدارة واحدة، والتكاليف واحدة، مع أن ذلك متعين شرعاً مهما كلف"([22]).
وقال في شروط دراسة تمريض النساء: "ومنها أن يكون عمل المتخرجات في الأجنحة النسائية فقط، ولا يكلفن بالعمل في أجنحة الرجال، ومنها أن يكون التدريب العلمي في الأقسام النسائية في بُعد عن الاختلاط بالرجال"([23]).

من كلام العلامة ابن باز: قال رحمه الله: "والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه"([24]).

 

 

وقال: "لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، ولكن نظراً إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق، أكثر مما يستفيدون من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام علماء المسلمين، رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده، لعلهم يقتنعون بذلك, ويعلمون أن ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك لأعراضهن"([25]).
ثم قال: "ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفو الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة"([26]).
وقال معلقاً على من زعم بأن عزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وأن المسلمين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدون الصلاة في جامع واحد: "ولاشك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك"([27]).

ومما قاله رحمه الله: "فمن واجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لاينبغي السكوت عليه، بل يجب الحذر منه، والابتعاد عنه، وهو الاختلاط الحاصل من بعض الجهلة، في بعض الأماكن والقرى مع غير المحارم، ولايرون بذلك بأساً بحجة أن هذا عادة أجدادهم، وأن نياتهم طيبة.."([28]).

 

 

وقال حول الاختلاط في المدارس الابتدائية: "إن الاختلاط وسيلة لشر كثير، وفساد كبير لايجوز فعله" ثم قال: "وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لايجوز فعله"([29]).
وقال رحمه الله: "من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط، وذلك أمر خطير جداً، له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم لنصوص الشريعة التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحو، مما تكون فيه بعيدة عن مخالطة الرجال"... إلى أن قال: "والأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله، أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى ما لا تحمد عقباه"([30]).

تبين من خلال العرض الآنف أن المنع من اختلاط الرجال بالنساء، ليس من مفردات مذهب معين! فهؤلاء علماء الإسلام بشتى مذاهبهم، وبمختلف أعصارهم وأمصارهم يقولون به. فليست الدعوة إلى ترك الاختلاط إذاً، دعوة إقليمية، ولا مذهبية، بل هي إسلامية إسلامية.





([1])   وهذا نظير ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم بعد أن سرد جملة من أقوال الفقهاء في مسائل يرون فيها مخالفة الكفار وأهل البدع؛ ثم قال رحمه الله: "وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام". ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/401.
([2])   تجالت: أي أسنَّت وكَبُرت، يقال : جَلَّتْ فهي جَلِيلة ، و تَجالَّتْ فهي مُتَجالَّة.
([3])  انظر المدخل لابن الحاج فإن فيه مزيد تفصيل 4/199.
([4])   الطرق الحكمية ص240.
([5])   أدب الدنيا والدين ص268.
([6])  الفواكه الدواني 2/322.
([7])   انظر أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي 4/156، وكذلك تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهج الأحكام لابن فرحون 1/361، والموسوعة الفقهية 2/290.
([8])  البحر الرائق لأبي نجيم 1/380.
([9])   غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 2/114.
([10])   رد المحتار على الدر المختار 6/355.
([11])   بريقة محمودية للخادمي 4/10-11.
([12])   معالم القربة في معالم الحسبة، لمحمد بن الإخوة القرشي، ص50.
([13])   فتاوى الرملي 2/41، وانظر نهاية المحتاج شرح المنهاج 3/10.
([14])   المنتقى شرح الموطأ للباجي 1/9.
([15])   أشار إليه ابن حجر في الفتح 2/336.
([16])   أشار إليه ابن حجر في الفتح 2/336.
([17])  انظر الفتوى رقم (2641)، 10/44، و(2643)، 10/46، والتي تليها، والتي تليهما، وكذلك الفتوى رقم (2652)، 10/50، بل راجع فتواه 10/من35 وإلى55.
([18])  الفتاوى 3/84.
([19])   فتواه 10/49.
([20])   السابق 10/244.
([21])  السابق 221-222.
([22])   السابق 13/221.
([23])   السابق 13/222.
([24])   مجموع الفتاوى والمقالات 1/420.
([25])   السابق 425.
([26])   السابق 427.
([27])   السابق 4/248.
([28])   السابق 5/236.
([29])   السابق 5/234.
([30])   السابق 6/355، وانظر كذلك 1/418.