مشهد النعمة السابغة
18 شعبان 1431
د. خالد رُوشه

[email protected]

لست أنسى ذلك المشهد الغريب , الذي رأيته بعيني , بينما كنت في زيارة لإحدى الجامعات العالمية , ووجدت واحدا من أساتذتها وعلمائها الكبار ينفرد بنفسه في غرفته , ويخرج من جيبه تمثالا صغيرا " لبوذا " فيضعه على مكتبه , ثم يقدم له قطعا من الفاكهة , ويخر له ساجدا وداعيا ومتمتما برجاءات ورغبات !!

 

قد لايعلم كثيرون أن هذا المشهد ومثاله يتكرر يوميا على مساحة الكرة الارضية ملايين المرات , لأتباع الديانات البوذية الدين يبلغ عددهم مئات الملايين , واشكالا أخرى لاتقل غرابة واستنكارا لأتباع الديانات الأخرى التي  تنتشر في كل مكان على وجه الأرض .. ( قرابة50% من سكان الأرض يدينون بديانات وثنية وأكثر من 25% يدينون بديانات محرفة ), وبنظرة مختصرة تقريبية تستطيع أن تعرف الخريطة المؤلمة

 

(( المسيحية ( قرابة 2 مليار ) – الإسلام ( قرابة مليار و350مليونا ) -  الملحدون ( قرابة 900 مليونا ) – الهندوسية ( قرابة 800 مليونا ) – البوذية ( قرابة 400 مليونا ) – الديانات الصينية ( قرابة 300 مليونا ) – ( الديانات الإفريقية الوثنية ( قرابة 250 مليونا ) – السيخ ( قرابة 40 مليونا ) – الهوتشي ( 19 مليونا ) – السيريتيزيم ( قرابة 15 مليونا ) – اليهودية ( قرابة 12 مليونا ) – البهائية ( قرابة 6 ملايين ) – البانية ( قرابة 4 ملايين ) – الشنتو ( قرابة 3 ملايين ) – الزردشتية ( قرابة 2 مليون ) – الكاوداي ( قرابة 3 ملايين ) – الترينيكيو ( قرابة 2 مليون ) ))

 

 

وبصور شتى مختلفات يقف أناس قد بلغوا منتهى العلوم الحياتية , وجمعوا الثقافات من أطرافها , أمام قطعة من حجر أو خشب , أو أمام صورة أو تمثال , ممعنين في الخشوع راجين الرحمة , داعين بالمأمول في حياتهم !

 

إن أكثر ما ينسجم مع العقل في النواحي الاعتقادية هو ما كان عن اتزان ووسطية واعتدال , فالخرافة والدجل والوهم والشعوذة , انما هي سبل من ابعد عقله وقلبه عن الاهتداء , واتبع ماكان عليه آباؤه الاقدمون , بلا بصيرة ولا تدبر,  فالإله الذي تعبد – أيها الإنسان - لابد وأن يتصف بصفات الربوبية الكاملة والألوهية التامة فلابد أن يكون : غنياً قوياً , قادرا حكيما , عليما محيطا , حيا قيوما , فلا يضل ولا ينسى ولا يظلم عنده أحد , ولايبدل القول لديه ولاتفنى خزائنه ولا منتهى لرحماته .

 

والإسلام وحده في خطابه العقائدي يثبت ذلك كله لله سبحانه , ويدعو أنصاره إلى التيقن بذلك كقاعدة إيمانية ثابتة لا تتزعزع أبدا , ينشأ عنها السلوك الإيماني الصالح المرتكن على ركن ركين في الاعتقاد وفهم قانع في التطبيق .

الغريب أن بعض الاديان التي لايزال ملايين من الناس في شتى بقاع الأرض يدينون بها وينتمون إليها تبتدىء مسيرتها في الدعوة الى عقيدتها  بانتقاص مقام الربوبية العظيم , وبالتالي تنتقص من مقام الألوهية الأسمى , فيرتضون الشريك , ويدعون إلى التثليث في العبادة والعقيدة , وآخرون قد ارتضوا في إيمانهم بأن يكون ربهم الذي يعبدوه فقيرا ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) آل عمران , كما ارتضوا أن يكون ضعيفا يصارع بعض عباده فيغلبه عبده ، وأن يبكي ويندم على فعل فعله !!

 

وآمن بعضهم بأن مخلوقاً ولد من رحم امرأة أن يكون إلها ، وآمنوا بأنه قتل ودفن وخرج من الأرض ليحكم العالم مرة أخرى !!

من أجل ذلك ترى إيمان هؤلاء في مجمله إيمانا كاذبا غير راسخ , وما ينتج عنه من سلوك هو سلوك ظاهري مؤقت غير متجذر , وتجد ارتباطهم بالأسباب الأرضية يمحو كل معنى للاثر العلوي الإيماني  , وينسى كل قيمة للثقة بالإله المعبود , فتخرج القناعات ملوثة ضعيفة , وتهرب القيم والفضائل من مجتمعاتهم وأهدافهم , فلا عجب أن ترى الانحراف ولا غرابة أن ترى فيهم كل مسخ .

 

لقد قتل بعضهم أنبياءهم , وحرقوهم , ورموهم في الآبار , وعلى الجانب الآخر عظم قوم نبيهم حتى جعلوه في مصاف الآلة , إنه الإفراط والتفريط وكلاهما خطأ وكلاهما ذمه المنهج الإسلامي العظيم .

فالإسلام يقدم الرؤية الصائبة للألوهية والربوبية , ويثبت الحقائق التامة , ويهدي إلى سواء السبيل , فهو يعلم أتباعه أن الله خالق كل شئ , وقادر على كل شئ , له الاسماء الحسنى , والصفات العلى , منزه عن كل نقص , عزيز حكيم , غفور رحيم , لا يسال عما يفعل , يدبر الأمر بحكمته , له الخلق والأمر , فلا مخلوق خارج عن سلطانه , ولا تغيب عنه غائبة في الأرض ولا في السماء , يجري في ملكه ما شاء بإرادته وبعلمه , غني لا تفنى خزائنه , عليم وسع علمه كل شئ , واحد أحد فليس له ولد ولا شريك ولا زوجه , حي قيوم , علي أعلى متعال على خلقه , " ليس كمثله شىء وهو السميع البصير "

 

ويعلم الإسلام أتباعه أن نبي الإسلام هو نبي الله الخاتم , جاء مصدقا لما جاء به النبيون من قبله , ومتمما لرسالاتهم أجمعين , لايفرق بين أحد منهم , كان بشراً , عاش كما يعيش البشر , وولد كما يولد البشر , ومات ودفن كما كل البشر , تزوج وأنجب , ومارس حياته كما يمارس الناس حياتهم , لكنهم يؤمنون أنه أفضل البشر وقد تخيره الله من بينهم , وكان مؤيداً بالوحي من السماء , فإن تكلم بالوحي صدق وصٌدق , فلم يعبده أتباعه ولم يقدسوه التقديس المفرط كما فعل غيرهم , بل كان يعلمهم قائلا " إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "

وفيما يخص اليوم الآخر فالإسلام يعلم أن يوم القيامة آت , وسيجتمع الجميع أمام الله , ويسألون عن أعمالهم , حيث لا  امتيازات ,  فلم يعتقد المسلمون في أنفسهم أنهم شعب الله المختار أو أنهم لن يحاسبوا مثل غيرهم , بل قالت آيات القرآن لهم : " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " , وقالت : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثال ذرة شرا يره " .

وفي العقيدة الإسلامية أنه لا وساطة بين العبد وربه , ولا يغفر الذنوب إلا الله , وليس من المطلوب أن تعترف لأحد بذنبك , ولكن اعترف لربك ,  وتب إليه  , إذ إنه وحده القادر على المغفرة وقبول التوبة وكل العالمين لا يملك لك ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً , فالذين اعتبروا تجارتهم دينهم , وباعوا للناس صكوك الغفران والتوبة , إنما اعتبرهم الإسلام تجارا كاذبين , وأنهم مخادعون مفترون على ربهم تمام الافتراء .. فالجنة في ملك لله , ولا يستطيع إنسان أن يمنح منها شيئا لأحد , ولا يبيع منها شيئا لأحد , ولايستطيع مخلوق أن يعد بها لأحد , أو أن يدخلها إلا برحمة الله سبحانه وبما قدم من سابق عمل صالح ..

 

إنه دين يدعو إلى العدالة والسماحة , والعلم والسلام , والنورانية والهداية , والاستقامة والشفافية , والوسطية والنقاء , والحب والود , والبذل والعطاء , والصلاح والإصلاح , إنه دين يدعو إلى صلاح الدنيا وصلاح الآخرة , وعمارة الدنيا والآخرة بالحق والإيمان, فلك الحمد ربي الكريم على ماأنعمت علينا به من نعمة وفضيلة وماأكرمتنا به من عقيدة وشريعة .

إن واجبا علينا تجاه البشرية جميعا , أن نبث فيها الخير الذي هدانا الله إليه , وأن نعلمها الهداية التي فضلنا الله بها , وأن نبصرها بنور الرسالة الإسلامية الخالدة , باذلين ما نستطيع , ثابتين على مبادىء هذا المنهاج الرباني القويم ,  لتخرجها من سبل المسخ والانحراف , وتقيمها نحو عبادة الله الواحد الأحد .